أكرم بن نجيب التونسي
01-16-2010, 06:45 PM
تنبيه الساجد! بعدم جواز الاستدلال بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على جواز الدفن في المساجد!!
بسم الله الرحمن الرحيم
والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعدُ: فإن الله أرسل إلينا رسولاً ولم يتركنا هملاً بين به الحلال من الحرام والحق من الباطل والرشد من الغواية وطريق الجنة من طريق النار.
قال الإمام الزهري: "من الله الرسالة, وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البلاغ, وعلينا التسليم" [رواه البخاري أول كتاب التوحيد].
وإن من عمى البصر والبصيرة وعدم توفيق الله للعبد أن يسعى جاهداً لمخالفة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- متكاً على المتشابه طارحاً للمحكم وراء ظهره, كما وصفهم الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7).
قال الإمام الطبري: "(المحكمات) فإنهن اللواتي أحكمن بالبيان والتفصيل، و أُثبتتْ حُجَجُهن و أدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلالٍ و حرامٍ، و وعدٍ و وعيدٍ، و ثوابٍ و عقاب، و أمرٍ و زجر، و خبر و مَثل، و عظة و عبر، و ما أشبه ذلك". [3/ 170].
وقال في الذين يتبعون المتشابه: عنى الله -عزوجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المتحملة التأويلات, وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك, إما في كتابه, وإما على لسان رسوله". اهـ[3/ 177].
قال الشاطبي في بيان مآخذ أهل البدع بالاستدلال: "و منها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف، و طلب الأخذ بها تأويلاً،.... و قد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه و إشكال ليس بدليل في الحقيقة، حتى يتبين معناه و يظهر المراد منه، و يشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإن لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك، أو عارضه قطعي، كظهور تشبيه، فليس بدليل، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه، و دالاًّ على غيره، وإلا احتيج إلى دليل عليه، فإن دلَّ الدليل على عدم صحته، فأحرى أن لا يكون دليلاً. [الاعتصام (1/ 304،305،312].
ومن الأمور التي أشتبهت على كثير من الناس وعلى بعض المنتسبين للعلم وللأسف! الاستدلال بوجود حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها قبره في مسجده -صلى الله عليه وسلم- على جواز الدفن في المساجد وهذا الاستدلال باطل من وجوه عدة:الوجه الأول: أن إدخال القبر في المسجد ليس هو من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا من فعل أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-, وإنما حصل ذلك في عام 91هـ بأمر من الوليد بن عبد الملك, فكيف يجوز أن يُستدل بناء القبور على المساجد بخطأ رجلٍ ليس هو معصوماً, ثم يترك كلام المعصوم-صلى الله عليه وسلم-, الذي لا ينطق عن الهوى؟!.
الوجه الثاني: ورود الأحاديث الكثيرة المحذرة من هذا الصنيع, بل تلعن فاعلها, منها : عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث النجراني قال حدثني جندب-رضي الله عنه- قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس!! وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذ من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم ) [رواه مسلم, كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المساجد على القبور, برقم (532)], وهل اكتفى بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- ؟! بل ثبت في الحديث المتفق على صحته أنه لما نزل به مرض الموت وقبل وفاته بلحظات!, طفق-صلى الله عليه وسلم- يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول -صلى الله عليه وسلم-: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
ثم يأتي مدعٍ فيدعى النسخ في هذه الأحاديث وهذا لجهله فهي من آخر ما تلفظ به النبي-صلى الله عليه وسلم- قبل موته فلا تحتمل النسخ بحالٍ من الأحوال, إن هذا لشيءٌ عجاب!!.
ومن الأحاديث الدالة على التحذير من اتخاذ القبور مساجد (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثُ كنتم). [رواه أبو داود في كتاب المناسك, باب زيارة القبور, برقم (2042), وصححه.
الوجه الثالث: لقد كانت حجرات النبي-صلى الله عليه وسلم- في عهده-صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ... خارج المسجد ولم تكن في المسجد والأدلة على ذلك كثيرة منها: فأما في عهده فأدلة ذلك:-
قول عائشة-رضي الله عنها- أنها كانت ترجِّلُ النبي-صلى الله عليه وسلم- وهي حائض, وهو معتكف في المسجد وكانت في حجرتها يناولها رأسه, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة. [ رواه البخاري في كتاب الاعتكاف, باب لا يدخل البيت إلا لحاجة برقم (2029), ومسلم في كتاب الحيض, باب جواز غسل الحائض رأس زوجها برقم (297) ].
وفي هذا الأثر عن أم المؤمنين –رضي الله عنها- بيانٌ واضح بأن الحجرات لم تكن في المسجد من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يجامع نساءه في حُجَرِهنَّ, والمسجد منزه عن ذلك, وكن يحضن في بيوتهن أيضاً, -ولا جدال في هذا -كما مر معنا من كلام عائشة-رضي الله عنها- ولا تلام الواحدة منهن, والمساجد منزهة من بقاء الحيِّض فيها, بل إن المُصَلى الذي خُصَّ لصلاة العيد وإن كان في فلاة من الأرض, فإن الحائض تشهد الجَمْعَ وتكون في معزل عن المصلى, كما صح في الحديث المتفق على صحته, عن أم عطية-رضي الله عنها- قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, أن نخرجهن في الفطر والأضحى, العواتق والحيَّض وذوات الخدور, فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين, قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلبابٌ قال -صلى الله عليه وسلم-: (لتلبسها أختها من جلبابها), [ رواه البخاري, كتاب الصلاة, باب وجوب الصلاة في الثياب, برقم (351), ومسلم, كتاب صلاة العيدين, باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى, برقم (2056) ].
الوجه الثاني: أنه لو كانت الحجرات في مسجده لما تحرَّج-صلى الله عليه وسلم- من أن يُدْخِلَ جسمه كله لا بعضه, ولما قال العلماء عند هذا الحديث: [وفيه دليل على أن المعتكف إذا خرج بعض بدنه لم يبطل اعتكافه]. ومنهم: [ ابن الهمام في فتح القدير (2/ 396),ابن عابدين الدمشقي في الدر المختار (2/ 447), والنووي في المجموع (2/ 500), وابن حزم في المحلى (5/ 188) ].
* وكذلك في عهد الخلفاء الأربعة من ذلك:-
قول عمر بن الخطاب للعباس –رضي الله عنهما- -لما اشترى كثيراً من بيوت الصحابة حتى يتوسع المسجد-: يا أبا الفضل: إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم, وقد ابتعتُ ما حوله من المنازل لنوسع المسجد إلا دارك وحجرات أمهات المؤمنين, فأما حجرات أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها, وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين..." خلاصة الوفاء في أخبار دار المصطفى, للسمهودي (1/ 327).
قال المعصومي:" فانظر إلى قوله -رضي الله عنه-: فأما الحجرات فلا سبيل إليها, فكان أدقّ نظراً وأبعد ملاحظة, وأغور فكرة, فرضي الله عنه, وعن سائر الصحابة أجمعين" [ المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية, لمحمد بن سلطان المعصومي ص277 ].
قلت: وذلك لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- مدفون في حجرة عائشة-رضي الله عنها-
- وكذلك عثمان وعلى -رضي الله عنهما-لم يزيدا المسجد من جهة الحجرات شيئاً. انظر: البداية والنهاية (7/ 187). وترجمتهما في السير.
أبعد هذا البيان كله! يجوز لنا أن نستشهد بوجود حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها قبره, والتي هي على وضعها الآن على جواز الدفن في المساجد وإهمال كل ما تقدم ذكره, بأي عقل ودين! يكون ويجوز ذلك.
فهل كل ما يفعل بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عنده يكون حقاً فقد وجد من يدعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قبره, من دون الله, ويستغيث به عند قبره من دون الله فهل هذا جائز؟! وهل هذا مشروع وهل يرضاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فداه أبي وأمي.
وقد جاء عن الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنهما-أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت: لولا ذلك لأبرز قبره, خُشِى أن يُتخذَ مسجداً " [رواه مسلم, كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المسجد على القبور برقم (529)].
ومما استدلوا به أيضاً آية سورة الكهف: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً), قال الحافظ ابن كثير: "حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم, والثاني: أهل الشرك منهم, فالله أعلم. والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟! فيه نظر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما فعلوا. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم".(5/ 147).
ولذا قال عمر -رضي الله عنه-: " سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فجادلوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله". رواه ابن بطة بسند صحيح (1/ 250) كتاب الإيمان.
وقد صح عن يحي بن أبي كثير اليمامي أنه قال:" السنة قاضية على الكتاب-أي مفسرة له- وليس الكتاب قاضياً على السنة" أورده ابن بطة في الإبانة, كتاب الإيمان (1/ 253), وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 291).
هذا والله أعلم, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي ضال المسلمين إلى دينهم الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه راجي ربه المنان
عبد الرحمن بن محمد العميسان
الخميس 11/ربيع الثاني/1429هـ
المدينة النبوية-على صاحبها أفضل الصلاة والسلام-
منقول من شبكة سحاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعدُ: فإن الله أرسل إلينا رسولاً ولم يتركنا هملاً بين به الحلال من الحرام والحق من الباطل والرشد من الغواية وطريق الجنة من طريق النار.
قال الإمام الزهري: "من الله الرسالة, وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البلاغ, وعلينا التسليم" [رواه البخاري أول كتاب التوحيد].
وإن من عمى البصر والبصيرة وعدم توفيق الله للعبد أن يسعى جاهداً لمخالفة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- متكاً على المتشابه طارحاً للمحكم وراء ظهره, كما وصفهم الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7).
قال الإمام الطبري: "(المحكمات) فإنهن اللواتي أحكمن بالبيان والتفصيل، و أُثبتتْ حُجَجُهن و أدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلالٍ و حرامٍ، و وعدٍ و وعيدٍ، و ثوابٍ و عقاب، و أمرٍ و زجر، و خبر و مَثل، و عظة و عبر، و ما أشبه ذلك". [3/ 170].
وقال في الذين يتبعون المتشابه: عنى الله -عزوجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المتحملة التأويلات, وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك, إما في كتابه, وإما على لسان رسوله". اهـ[3/ 177].
قال الشاطبي في بيان مآخذ أهل البدع بالاستدلال: "و منها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف، و طلب الأخذ بها تأويلاً،.... و قد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه و إشكال ليس بدليل في الحقيقة، حتى يتبين معناه و يظهر المراد منه، و يشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإن لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك، أو عارضه قطعي، كظهور تشبيه، فليس بدليل، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه، و دالاًّ على غيره، وإلا احتيج إلى دليل عليه، فإن دلَّ الدليل على عدم صحته، فأحرى أن لا يكون دليلاً. [الاعتصام (1/ 304،305،312].
ومن الأمور التي أشتبهت على كثير من الناس وعلى بعض المنتسبين للعلم وللأسف! الاستدلال بوجود حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها قبره في مسجده -صلى الله عليه وسلم- على جواز الدفن في المساجد وهذا الاستدلال باطل من وجوه عدة:الوجه الأول: أن إدخال القبر في المسجد ليس هو من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا من فعل أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-, وإنما حصل ذلك في عام 91هـ بأمر من الوليد بن عبد الملك, فكيف يجوز أن يُستدل بناء القبور على المساجد بخطأ رجلٍ ليس هو معصوماً, ثم يترك كلام المعصوم-صلى الله عليه وسلم-, الذي لا ينطق عن الهوى؟!.
الوجه الثاني: ورود الأحاديث الكثيرة المحذرة من هذا الصنيع, بل تلعن فاعلها, منها : عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث النجراني قال حدثني جندب-رضي الله عنه- قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس!! وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذ من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم ) [رواه مسلم, كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المساجد على القبور, برقم (532)], وهل اكتفى بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- ؟! بل ثبت في الحديث المتفق على صحته أنه لما نزل به مرض الموت وقبل وفاته بلحظات!, طفق-صلى الله عليه وسلم- يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول -صلى الله عليه وسلم-: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
ثم يأتي مدعٍ فيدعى النسخ في هذه الأحاديث وهذا لجهله فهي من آخر ما تلفظ به النبي-صلى الله عليه وسلم- قبل موته فلا تحتمل النسخ بحالٍ من الأحوال, إن هذا لشيءٌ عجاب!!.
ومن الأحاديث الدالة على التحذير من اتخاذ القبور مساجد (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثُ كنتم). [رواه أبو داود في كتاب المناسك, باب زيارة القبور, برقم (2042), وصححه.
الوجه الثالث: لقد كانت حجرات النبي-صلى الله عليه وسلم- في عهده-صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ... خارج المسجد ولم تكن في المسجد والأدلة على ذلك كثيرة منها: فأما في عهده فأدلة ذلك:-
قول عائشة-رضي الله عنها- أنها كانت ترجِّلُ النبي-صلى الله عليه وسلم- وهي حائض, وهو معتكف في المسجد وكانت في حجرتها يناولها رأسه, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة. [ رواه البخاري في كتاب الاعتكاف, باب لا يدخل البيت إلا لحاجة برقم (2029), ومسلم في كتاب الحيض, باب جواز غسل الحائض رأس زوجها برقم (297) ].
وفي هذا الأثر عن أم المؤمنين –رضي الله عنها- بيانٌ واضح بأن الحجرات لم تكن في المسجد من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يجامع نساءه في حُجَرِهنَّ, والمسجد منزه عن ذلك, وكن يحضن في بيوتهن أيضاً, -ولا جدال في هذا -كما مر معنا من كلام عائشة-رضي الله عنها- ولا تلام الواحدة منهن, والمساجد منزهة من بقاء الحيِّض فيها, بل إن المُصَلى الذي خُصَّ لصلاة العيد وإن كان في فلاة من الأرض, فإن الحائض تشهد الجَمْعَ وتكون في معزل عن المصلى, كما صح في الحديث المتفق على صحته, عن أم عطية-رضي الله عنها- قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, أن نخرجهن في الفطر والأضحى, العواتق والحيَّض وذوات الخدور, فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين, قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلبابٌ قال -صلى الله عليه وسلم-: (لتلبسها أختها من جلبابها), [ رواه البخاري, كتاب الصلاة, باب وجوب الصلاة في الثياب, برقم (351), ومسلم, كتاب صلاة العيدين, باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى, برقم (2056) ].
الوجه الثاني: أنه لو كانت الحجرات في مسجده لما تحرَّج-صلى الله عليه وسلم- من أن يُدْخِلَ جسمه كله لا بعضه, ولما قال العلماء عند هذا الحديث: [وفيه دليل على أن المعتكف إذا خرج بعض بدنه لم يبطل اعتكافه]. ومنهم: [ ابن الهمام في فتح القدير (2/ 396),ابن عابدين الدمشقي في الدر المختار (2/ 447), والنووي في المجموع (2/ 500), وابن حزم في المحلى (5/ 188) ].
* وكذلك في عهد الخلفاء الأربعة من ذلك:-
قول عمر بن الخطاب للعباس –رضي الله عنهما- -لما اشترى كثيراً من بيوت الصحابة حتى يتوسع المسجد-: يا أبا الفضل: إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم, وقد ابتعتُ ما حوله من المنازل لنوسع المسجد إلا دارك وحجرات أمهات المؤمنين, فأما حجرات أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها, وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين..." خلاصة الوفاء في أخبار دار المصطفى, للسمهودي (1/ 327).
قال المعصومي:" فانظر إلى قوله -رضي الله عنه-: فأما الحجرات فلا سبيل إليها, فكان أدقّ نظراً وأبعد ملاحظة, وأغور فكرة, فرضي الله عنه, وعن سائر الصحابة أجمعين" [ المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية, لمحمد بن سلطان المعصومي ص277 ].
قلت: وذلك لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- مدفون في حجرة عائشة-رضي الله عنها-
- وكذلك عثمان وعلى -رضي الله عنهما-لم يزيدا المسجد من جهة الحجرات شيئاً. انظر: البداية والنهاية (7/ 187). وترجمتهما في السير.
أبعد هذا البيان كله! يجوز لنا أن نستشهد بوجود حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها قبره, والتي هي على وضعها الآن على جواز الدفن في المساجد وإهمال كل ما تقدم ذكره, بأي عقل ودين! يكون ويجوز ذلك.
فهل كل ما يفعل بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عنده يكون حقاً فقد وجد من يدعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قبره, من دون الله, ويستغيث به عند قبره من دون الله فهل هذا جائز؟! وهل هذا مشروع وهل يرضاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فداه أبي وأمي.
وقد جاء عن الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنهما-أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت: لولا ذلك لأبرز قبره, خُشِى أن يُتخذَ مسجداً " [رواه مسلم, كتاب المساجد, باب النهي عن بناء المسجد على القبور برقم (529)].
ومما استدلوا به أيضاً آية سورة الكهف: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً), قال الحافظ ابن كثير: "حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم, والثاني: أهل الشرك منهم, فالله أعلم. والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟! فيه نظر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما فعلوا. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم".(5/ 147).
ولذا قال عمر -رضي الله عنه-: " سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فجادلوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله". رواه ابن بطة بسند صحيح (1/ 250) كتاب الإيمان.
وقد صح عن يحي بن أبي كثير اليمامي أنه قال:" السنة قاضية على الكتاب-أي مفسرة له- وليس الكتاب قاضياً على السنة" أورده ابن بطة في الإبانة, كتاب الإيمان (1/ 253), وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 291).
هذا والله أعلم, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي ضال المسلمين إلى دينهم الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه راجي ربه المنان
عبد الرحمن بن محمد العميسان
الخميس 11/ربيع الثاني/1429هـ
المدينة النبوية-على صاحبها أفضل الصلاة والسلام-
منقول من شبكة سحاب.