أبو سعد أحمد بن علي البابكري
03-04-2010, 09:49 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الثعالبي رحمه الله: حدثني أبو الحسن علي بن محمد العلوي الحسيني الهمداني الوصي،
قال: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب، والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فأذنوا له، فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير ... تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة، " أحسنت، والله أنت! " . وأمر له بمائتي دينار.
وحكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، فأمر يوماً لأبي الفرج منها بعشرة دنانير، فقال ارتجالاً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى.
وكان أبو فراس يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي - يعني أبا فراس - :
لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله
لك من قلبي المكا ... ن فلم لا تحله
فارتجل أبو فراس، وقال:
أنا إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار.
واستنشد سيف الدولة يوماً أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطيب المتنبي ينشدها، فلما بلغ قوله فيها:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: قد انتقدنا عليك هذين البيتين، كما انتقد على امرئ القيس بيتاه:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما، كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين، وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولك أن تقول
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا! إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جميلته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد! وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى - وهو الموت - ليجانسه، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية، قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله، ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات، وفيها خمسمائة دينار.
وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة، فبعث إليهما مرة وصيفة ووصيفاً، ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة، وهي:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسناً يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس
هذا، ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وبررتنا مما أجادت حوكه ... مصر، وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس
فقال له سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة " المنكوح " ، فليست مما يخاطب بها الملوك، وهذا من عجيب نقده.
حكى أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي، قال: طلب مني رسول سيف الدولة - وكان قد قدم إلى الحضرة - شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات، وهي:
إن كنت خنتك في الأمانة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لو أني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
وقال فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلاثمائة دينار.
نبذ من ذكر وقائعه وغزواته
حدث أبو عبد الله الحسين بن خالويه، قال: لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد محمد بن طغج سار إليها سيف الدولة فافتتحها، وهزم عساكره عن صفين، فقال له المتنبي:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سمي
أو ما ترى صفين كيف أتيتها ... فانجاب عنها العسكر الغربي
فكأنه جيش ابن حرب رعته ... حتى كأنك يا علي علي
وقال أبو فراس من قصيدة طويلة:
أتى الشام لما استذأب البهم واغتدت ... بها أذؤب البيداء وهي قساور
فثقف منآد، وأصلح فاسد ... وذلل جبار، وأذعر ذاعر
وكان ظهر رجل في المغرب يعرف بالمبرقع يدعو الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام، وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرع سيف الدولة من حلب يغذ السير جتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق، فأوقع به، وقتله، ووضع السيف في أصحابه، فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل، وبين يديه رأس الخارجي على رمح، فقال أبو فراس يذكر ذلك:
وأنقذ من مس الحديد وثقله ... أبا وائل، والدهر أجدع صاغر
وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر
وهذا من أحسن ما قيل في الرأس المصلوب على الرمح.
ولبعضهم في مثل ذلك:
وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري، ولكن على ساق بلا قدم
وقال أبو الطيب في خلاص أبي وائل:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنوبة ... فجئن بكل فتىً باسل
كأن خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
دعا فسمعت وكم ساكت ... على البعد عندك كالقائل
فلبيته بك في جحفل ... له ضامن وبه كافل
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وكان سيف الدولة اصطنع بني كلاب، وأدناهم، وآمن سربهم، فقهروا العرب وعلت كلمتهم، إلى أن بدرت منهم جفوة أحفظته فأسرى إليهم، وأوقع بهم، وملك حرمهم وأموالهم، ثم صفح عنهم وكرم، وجمع الحرم، ووكل بهن الخدم وأفضل عليهن، فقال أبو الطيب من قصيدة:
فعدن كما أخذن مكرمات ... عليهن القلائد والملاب
يثبنك بالذي أوليت شكراً ... وأين من الذي تولي الثواب
وليس مصيرهن إليك شيناً ... ولا في صونهن لديك عاب
ولا في فقدهن بني كلاب ... إذا أبصرن غرتك اغتراب
وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
هذا كلام ما لحسنه غاية.
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
كأنما اقتبسه من قول الله سبحانه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ونحو من هذا قول زياد في خطبته البتراء " والله لآخذن المحسن بالمسيء "
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
وما أحسن ما كني عن الحرم بالشموس، وعن المحاماة دونهم بالضباب.
ولكن ربهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب
كذا فليسر من طلب المعالي ... ومثل سراك فليكن الطلاب
وكتب إليه أبو فراس في تلك الحال يداعبه:
وما أنس لا أنس يوم المغار ... محجبة لفظتها الحجب
دعاك ذووها بسوء الفعال ... لما لا تشاء وما لا تحب
فوافتك تعثر في مرطها ... وقد رأت الموت من عن كثب
وقد خلط الخوف لما طلع ... ت دل الجمال بذل الرعب
تسرع في الخطو لا خفة ... وتهتز في المشي لا من طرب
فلما بدت لك دون البيوت ... بدا لك منهن جيش لجب
وما زلت، مذ كنت، تأتي الجميل ... وتحمي الحريم وترعى الحسب
وتغضب حتى إذا ما ملكت ... أطعت الرضا وعصيت الغضب
فكنت حماهن إذ لا حمى ... وكنت أباهن إذ ليس أب
فولين عنك يفدينها ... ويرفعن من ذيلها ما انسحب
ينادين بين خلال البيو ... ت لا يقطع الله نسل العرب
أمرت وأنت المطاع الكريم ... يبذل الأمان ورد النهب
وقد رحن من مهجات القلوب ... بأوفر غنم وأغلى نشب
فإن هن يا بن الكرام السراة ... رددن القلوب رددنا السلب
وقال أيضاً يمدحه ويذكر نسوة بني كلاب:
قد ضج جيشك من طول القتال به ... وقد شكتك إلينا الخيل والإبل
وقد درى الروم مذ جاورت أرضهم ... أن ليس يعصمهم سهل ولا جبل
في كل يوم تزور الثغر لا ضجر ... يثنيك عنه، ولا شغل، ولا ملل
فالنفس جاهدة، والعين ساهرة، ... والجيش منهمك، والمال مبتذل
توهمتك كلاب غير قاصدها ... وقد تكنفك الأعداء والشغل
حتى رأوك أمام الجيش تقدمه ... وقد طلعت عليهم دون ما أملوا
فاستقبلوك بفرسان أسنتها ... سود البراقع والأكوار والكلل
فكنت أكرم مسئول وأفضله ... إذا وهبن فلا من ولا بخل
الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
قال الثعالبي رحمه الله: حدثني أبو الحسن علي بن محمد العلوي الحسيني الهمداني الوصي،
قال: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب، والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فأذنوا له، فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير ... تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة، " أحسنت، والله أنت! " . وأمر له بمائتي دينار.
وحكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، فأمر يوماً لأبي الفرج منها بعشرة دنانير، فقال ارتجالاً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى.
وكان أبو فراس يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي - يعني أبا فراس - :
لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله
لك من قلبي المكا ... ن فلم لا تحله
فارتجل أبو فراس، وقال:
أنا إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار.
واستنشد سيف الدولة يوماً أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطيب المتنبي ينشدها، فلما بلغ قوله فيها:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: قد انتقدنا عليك هذين البيتين، كما انتقد على امرئ القيس بيتاه:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما، كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين، وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولك أن تقول
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا! إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جميلته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد! وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى - وهو الموت - ليجانسه، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية، قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله، ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات، وفيها خمسمائة دينار.
وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة، فبعث إليهما مرة وصيفة ووصيفاً، ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة، وهي:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسناً يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس
هذا، ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وبررتنا مما أجادت حوكه ... مصر، وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس
فقال له سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة " المنكوح " ، فليست مما يخاطب بها الملوك، وهذا من عجيب نقده.
حكى أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي، قال: طلب مني رسول سيف الدولة - وكان قد قدم إلى الحضرة - شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات، وهي:
إن كنت خنتك في الأمانة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لو أني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
وقال فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلاثمائة دينار.
نبذ من ذكر وقائعه وغزواته
حدث أبو عبد الله الحسين بن خالويه، قال: لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد محمد بن طغج سار إليها سيف الدولة فافتتحها، وهزم عساكره عن صفين، فقال له المتنبي:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سمي
أو ما ترى صفين كيف أتيتها ... فانجاب عنها العسكر الغربي
فكأنه جيش ابن حرب رعته ... حتى كأنك يا علي علي
وقال أبو فراس من قصيدة طويلة:
أتى الشام لما استذأب البهم واغتدت ... بها أذؤب البيداء وهي قساور
فثقف منآد، وأصلح فاسد ... وذلل جبار، وأذعر ذاعر
وكان ظهر رجل في المغرب يعرف بالمبرقع يدعو الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام، وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرع سيف الدولة من حلب يغذ السير جتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق، فأوقع به، وقتله، ووضع السيف في أصحابه، فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل، وبين يديه رأس الخارجي على رمح، فقال أبو فراس يذكر ذلك:
وأنقذ من مس الحديد وثقله ... أبا وائل، والدهر أجدع صاغر
وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر
وهذا من أحسن ما قيل في الرأس المصلوب على الرمح.
ولبعضهم في مثل ذلك:
وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري، ولكن على ساق بلا قدم
وقال أبو الطيب في خلاص أبي وائل:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنوبة ... فجئن بكل فتىً باسل
كأن خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
دعا فسمعت وكم ساكت ... على البعد عندك كالقائل
فلبيته بك في جحفل ... له ضامن وبه كافل
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وكان سيف الدولة اصطنع بني كلاب، وأدناهم، وآمن سربهم، فقهروا العرب وعلت كلمتهم، إلى أن بدرت منهم جفوة أحفظته فأسرى إليهم، وأوقع بهم، وملك حرمهم وأموالهم، ثم صفح عنهم وكرم، وجمع الحرم، ووكل بهن الخدم وأفضل عليهن، فقال أبو الطيب من قصيدة:
فعدن كما أخذن مكرمات ... عليهن القلائد والملاب
يثبنك بالذي أوليت شكراً ... وأين من الذي تولي الثواب
وليس مصيرهن إليك شيناً ... ولا في صونهن لديك عاب
ولا في فقدهن بني كلاب ... إذا أبصرن غرتك اغتراب
وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
هذا كلام ما لحسنه غاية.
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
كأنما اقتبسه من قول الله سبحانه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ونحو من هذا قول زياد في خطبته البتراء " والله لآخذن المحسن بالمسيء "
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
وما أحسن ما كني عن الحرم بالشموس، وعن المحاماة دونهم بالضباب.
ولكن ربهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب
كذا فليسر من طلب المعالي ... ومثل سراك فليكن الطلاب
وكتب إليه أبو فراس في تلك الحال يداعبه:
وما أنس لا أنس يوم المغار ... محجبة لفظتها الحجب
دعاك ذووها بسوء الفعال ... لما لا تشاء وما لا تحب
فوافتك تعثر في مرطها ... وقد رأت الموت من عن كثب
وقد خلط الخوف لما طلع ... ت دل الجمال بذل الرعب
تسرع في الخطو لا خفة ... وتهتز في المشي لا من طرب
فلما بدت لك دون البيوت ... بدا لك منهن جيش لجب
وما زلت، مذ كنت، تأتي الجميل ... وتحمي الحريم وترعى الحسب
وتغضب حتى إذا ما ملكت ... أطعت الرضا وعصيت الغضب
فكنت حماهن إذ لا حمى ... وكنت أباهن إذ ليس أب
فولين عنك يفدينها ... ويرفعن من ذيلها ما انسحب
ينادين بين خلال البيو ... ت لا يقطع الله نسل العرب
أمرت وأنت المطاع الكريم ... يبذل الأمان ورد النهب
وقد رحن من مهجات القلوب ... بأوفر غنم وأغلى نشب
فإن هن يا بن الكرام السراة ... رددن القلوب رددنا السلب
وقال أيضاً يمدحه ويذكر نسوة بني كلاب:
قد ضج جيشك من طول القتال به ... وقد شكتك إلينا الخيل والإبل
وقد درى الروم مذ جاورت أرضهم ... أن ليس يعصمهم سهل ولا جبل
في كل يوم تزور الثغر لا ضجر ... يثنيك عنه، ولا شغل، ولا ملل
فالنفس جاهدة، والعين ساهرة، ... والجيش منهمك، والمال مبتذل
توهمتك كلاب غير قاصدها ... وقد تكنفك الأعداء والشغل
حتى رأوك أمام الجيش تقدمه ... وقد طلعت عليهم دون ما أملوا
فاستقبلوك بفرسان أسنتها ... سود البراقع والأكوار والكلل
فكنت أكرم مسئول وأفضله ... إذا وهبن فلا من ولا بخل
الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي