أبو عبد الرحمان بحوص
06-30-2010, 06:12 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركته
تأملات في قوله تعالى : وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب الآية 6 ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
وبعد: فهذا بحث مشتمل على لطائف متفرقة وفوائد متنوعة منبثقة من النظر والتأمل لقوله تعالى- في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وذلك في الآية السادسة من سورة الأحزاب ، حيث جعلهن تبارك وتعالى أمهات للمؤمنين .
ولا ريب أن هذه درجة رفيعة نلنها ، ومكانة سامية تبوأنها ، تكرمة من الله لهن وتشريفا ، ولله ما أعظمها من مكانة وأعلاها من درجة شرفن بها بزواجهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى بهذا التكريم لهن والتشريف يعظم حقهن ، ويعلي بين الأمة قدرهن ، وينوه بلزوم الاهتمام بواجبهن رضي الله عنهن وأرضاهن .
وقد انتظم هذا البحث خمس عشرة مسألة تدور حول فقه هذه الآية وتأملها . وقصدي من وراء ذلك نفع نفسي ومن يقف
عليه من إخواني ، والقيام بشيء من واجبات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن .
والمسائل المبحوثة هنا هي:
المسألة الأولى : في بيان معنى الأزواج .
المسألة الثانية : في بيان معنى الأمهات .
المسألة الثالثة : في فائدة الإضافة في قول الله تعالى: وأزواجه .
المسألة الرابعة : في فائدة الإضافة في قوله تعالى:وأمهاتهم .
المسألة الخامسة : في وجه كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين .
المسألة السادسة : إذا قيل: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ، فهل يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم؟
المسألة السابعة : هل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فقط؟ أو أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
المسألة الثامنة : هل يقال لإخوان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أخوال للمؤمنين؟ وهل يقال لبناتهن بأنهن أخوات للمؤمنين؟
المسألة التاسعة : هل يقال لسراري النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين أو لا يقال؟
المسألة العاشرة : هل النساء اللاتي عقد عليهن صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن معدودات في أمهات المؤمنين؟
المسألة الحادية عشرة : في ذكر عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم والتعريف بهن رضي الله عنهن .
المسألة الثانية عشرة : في ذكر بعض فضائلهن وخصائصهن .
المسألة الثالثة عشرة : في واجبنا نحو أزواجه صلى الله عليه وسلم .
المسألة الرابعة عشرة : في الحكمة من تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم .
المسألة الخامسة عشرة : في التحذير من بعض المواقف المنحرفة تجاه أزواجه صلى الله عليه وسلم .
وهذا أوان الشروع في المراد ، وبالله وحده التوفيق .
المسألة الأولى: في بيان معنى الأزواج :
الأزواج في اللغة : جمع زوج ، وأصله من مادة " زوج " الدالة على مقارنة شيء لآخر . واقتران الذكر بالأنثى يسمى زواجا ، ويسمى كل واحد منهما زوجا للآخر ، ومنه قوله تعالى لآدم : سورة الأعراف الآية 19 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وقوله عن زكريا:سورة الأنبياء الآية 90 وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ، وقد يقال للمرأة: زوجة ، وتجمع على زوجات ، إلا أن الأول أفصح انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3 / 35)، وجلاء الأفهام لابن القيم (ص 150، 151). .
والزواج يعد من النعم العظيمة التي امتن الله بها على عباده ، ومن الآيات الكبيرة الدالة على كمال قدرة الله تبارك وتعالى ، وتمام حكمته ، ووجوب إخلاص الدين له دون ما سواه .
قال تعالى: سورة النحل الآية 72 وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ، وقال تعالى: سورة الشورى الآية 10 ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ سورة الشورى الآية 11 فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وقال تعالى: سورة الروم الآية 21 وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
المسألة الثانية: في بيان معنى الأمهات :
الأمهات: جمع ، مفرده أم ، وهي لغة بإزاء الأب ، وهي الوالدة القريبة التي ولدته ، والبعيدة التي ولدت من ولدته ، ولهذا قيل لحواء : هي أمنا ، وإن كان بيننا وبينها وسائط ، ويقال لكل ما كان أصلا لوجود الشيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه: أم .
قال الخليل : كل شيء ضم إليه سائر ما يليه يسمى أما انظر: المفردات، للراغب ص (22). .
وقد وردت كلمة (أم) في القرآن الكريم على أوجه عديدة:
الأول : بمعنى نفس الأصل: سورة آل عمران الآية 7 هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: أصله .
الثاني : بمعنى المرجع والمأوى: سورة القارعة الآية 9 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ أي: مسكنه النار .
الثالث : بمعنى الوالدة: سورة طه الآية 40 فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا .
الرابع : بمعنى الظئر: سورة النساء الآية 23 وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ .
الخامس : بمعنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ .
السادس : بمعنى اللوح المحفوظ: سورة الزخرف الآية 4 وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
السابع : بمعنى مكة شرفها الله تعالى: سورة الشورى الآية 7 لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (2 / 111، 112). .
وبما تقدم يعلم أن المرأة قد تكون أما من أحد أوجه ثلاثة :
1 - إما من جهة الولادة ، فالوالدة أم لمن ولدته ، وأم لولد من ولدته .
2 - وإما من جهة الرضاعة ، فالمرضع أم لمن أرضعته ، وأم لولد من أرضعته .
3 - وإما من جهة التربية والإصلاح ، فالمربية والمصلحة أم لمن ربته وأصلحته .
فمن الأول قوله تعالى: سورة طه الآية 40 فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا
ومن الثاني قوله تعالى: سورة النساء الآية 23 وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
ومن الثالث قوله تعالى: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
المسألة الثالثة: في فائدة الإضافة في قوله تعالى: وأزواجه :
لا شك أن هذه الإضافة تعد شرفا عظيما لهن ، حيثما تميزن عن نساء العالمين بذلك ، فاختارهن الله واصطفاهن ليكن زوجات لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام ، وصرن بذلك لسن كسائر النساء ، بل أحسن وأطيب وأكمل ، قال تعالى: سورة الأحزاب الآية 32 يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ . فبزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهن نلن تلك الفضيلة وتبوأن تلك الدرجة السامقة السامية الرفيعة ، التي لم تتحقق لأحد من النساء غيرهن رضي الله عنهن .
وقد خيرهن عليه الصلاة والسلام بين البقاء في هذه المنزلة
وإن قل العيش وضاق الرزق وبين الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها الزائل فلم يردن شيئا غير البقاء معه صلى الله عليه وسلم ، وآثرن ذلك على الدنيا ومتاعها وزينتها ، قال تعالى: سورة الأحزاب الآية 28 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا سورة الأحزاب الآية 29 وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ، فلم يخترن رضي الله عنهن غير الله ورسوله والدار الآخرة ، وكن خير زوجات لخير زوج ، مؤمنات قانتات عابدات صالحات ، فآتاهن الله على ذلك الأجر العظيم ، ونلن أجرهن مرتين ، وأعد الله لهن الرزق الكريم والثواب الجزيل المضاعف ، قال تعالى: سورة الأحزاب الآية 31 وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا . وعندما نتأمل قول الله تبارك وتعالى: سورة النور الآية 26 وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ .
نعلم عظيم قدر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو عليه الصلاة والسلام الطيب المطيب ، ونساؤه الطيبات ، بل هو عليه الصلاة والسلام خير الطيبين وأفضلهم ، ونساؤه عليه الصلاة والسلام خير الطيبات وأفضلهن ، ولم يكن الله ليختار لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا خير النساء وأفضلهن .
فالإضافة في قوله: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ - ولا شك- فيها شرف وأيما شرف لهن رضي الله عنهن ، لا سيما وأن الله أخبر عن ذلك بلفظ الأزواج المشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران .
يقول ابن القيم رحمه الله: " وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان بلفظ الزوج مفردا وجمعا كقوله تعالى لآدم:
سورة الأعراف الآية 19 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وقال تعالى في حق زكريا: سورة الأنبياء الآية 90 وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ، وقال تعالى: سورة الأحزاب الآية 6 النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ، وقال تعالى: سورة الأحزاب الآية 28 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ، والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة ، قال تعالى: سورة المسد الآية 1 تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إلى قوله: سورة المسد الآية 4 وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ سورة المسد الآية 5 فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ، وقال تعالى: سورة التحريم الآية 10 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ فلما كانتا مشركتين أوقع عليهم اسم المرأة ، وقال في فرعون : سورة التحريم الآية 11 وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ لما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجا له ، وقال في حق آدم: سورة الأعراف الآية 19 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: سورة الأحزاب الآية 50 إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ . وقال في حق المؤمنين: سورة البقرة الآية 25 وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ .
فقالت طائفة ، منهم السهيلي وغيره: إنما لم يقل في حق هؤلاء: الأزواج؛ لأنهن لسن بأزواج لرجالهم في الآخرة؛ ولأن التزويج حلية شرعية وهو من أمر الدين فجرد الكافرة منه كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط . ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا: سورة مريم الآية 5 وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ، وقوله تعالى عن إبراهيم: سورة الذاريات الآية 29 فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ، وأجاب بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع؛ لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة ، فذكر المرأة أولى به؛ لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع ، لا من حيث كانت زوجا .
قلت: ولو قيل: إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران ، كما هو المفهوم من لفظه؛ فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان ، ومنه قوله تعالى: سورة الصافات الآية 22 احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أزواجهم:أشباههم ونظراؤهم " ذكره ابن كثير في تفسيره (7 / 7). ، وقاله الإمام أحمد أيضا ، ومنه قوله
تعالى: سورة التكوير الآية 7 وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية: " الصالح مع الصالح في الجنة ، والفاجر مع الفاجر في النار " رواه الحاكم في المستدرك (2 / 516). ، وقاله الحسن ، وقتادة ، والأكثرون انظر: الدر المنثور للسيوطي (8 / 430). ، وقيل: " زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين ، وأنفس الكافرين بالشياطين " قاله الكلبي. انظر: الدر المنثور للسيوطي (8 / 430). ، وهو راجع إلى القول الأول ، وقال تعالى: سورة الأنعام الآية 143 ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ثم فسرها " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد ، ومنه قولهم . "زوجا خف ، وزوجا حمام " ونحوه ، ولا ريب أن الله سبحانه قطع المشابهة والمشاكلة بين الكفار والمؤمنين ، قال تعالى: سورة الحشر الآية 20 لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ، وقال تعالى: في حق مؤمن أهل الكتاب وكافرهم: سورة آل عمران الآية 113 لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الآية ، وقطع المقارنة سبحانه بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان ، ولا يتناكحان ، ولا يتولى أحدهما صاحبه ، فكما انقطعت الوصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم ، فأضاف فيها المرأة بلفظ الأنوثةالمجرد ، دون لفظ المشاكلة والمشابهة .
فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه؟ولهذا وقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن لفظ المرأة دون الزوجة؛ تحقيقا لهذا المعنى . والله أعلم .
وهذا أولى من قول من قال: إنما سمى صاحبة أبي لهب امرأته ، ولم يقل لها زوجته؛ لأن أنكحة الكفار لا يثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام . فإن هذا باطل بإطلاقه اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط ، مع صحة ذلك النكاح .
وتأمل هذا المعنى في آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة ، كما في قوله تعالى:
سورة النساء الآية 12 وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب ، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث ، وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين " جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص (151- 154). . ا هـ كلامه رحمه الله .
وبهذا التقرير الدقيق والتحقيق القيم- الذي ذكره رحمه الله- يتبين ما في قوله تعالى: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ من تكريم بالغ ، وتشريف عظيم لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن أجمعين .
د . عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر مجلة البحوث الإسلامية 53
يتبع إن شاء الله
السلام عليكم و رحمة الله و بركته
تأملات في قوله تعالى : وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب الآية 6 ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
وبعد: فهذا بحث مشتمل على لطائف متفرقة وفوائد متنوعة منبثقة من النظر والتأمل لقوله تعالى- في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وذلك في الآية السادسة من سورة الأحزاب ، حيث جعلهن تبارك وتعالى أمهات للمؤمنين .
ولا ريب أن هذه درجة رفيعة نلنها ، ومكانة سامية تبوأنها ، تكرمة من الله لهن وتشريفا ، ولله ما أعظمها من مكانة وأعلاها من درجة شرفن بها بزواجهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى بهذا التكريم لهن والتشريف يعظم حقهن ، ويعلي بين الأمة قدرهن ، وينوه بلزوم الاهتمام بواجبهن رضي الله عنهن وأرضاهن .
وقد انتظم هذا البحث خمس عشرة مسألة تدور حول فقه هذه الآية وتأملها . وقصدي من وراء ذلك نفع نفسي ومن يقف
عليه من إخواني ، والقيام بشيء من واجبات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن .
والمسائل المبحوثة هنا هي:
المسألة الأولى : في بيان معنى الأزواج .
المسألة الثانية : في بيان معنى الأمهات .
المسألة الثالثة : في فائدة الإضافة في قول الله تعالى: وأزواجه .
المسألة الرابعة : في فائدة الإضافة في قوله تعالى:وأمهاتهم .
المسألة الخامسة : في وجه كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين .
المسألة السادسة : إذا قيل: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ، فهل يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم؟
المسألة السابعة : هل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فقط؟ أو أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
المسألة الثامنة : هل يقال لإخوان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أخوال للمؤمنين؟ وهل يقال لبناتهن بأنهن أخوات للمؤمنين؟
المسألة التاسعة : هل يقال لسراري النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين أو لا يقال؟
المسألة العاشرة : هل النساء اللاتي عقد عليهن صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن معدودات في أمهات المؤمنين؟
المسألة الحادية عشرة : في ذكر عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم والتعريف بهن رضي الله عنهن .
المسألة الثانية عشرة : في ذكر بعض فضائلهن وخصائصهن .
المسألة الثالثة عشرة : في واجبنا نحو أزواجه صلى الله عليه وسلم .
المسألة الرابعة عشرة : في الحكمة من تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم .
المسألة الخامسة عشرة : في التحذير من بعض المواقف المنحرفة تجاه أزواجه صلى الله عليه وسلم .
وهذا أوان الشروع في المراد ، وبالله وحده التوفيق .
المسألة الأولى: في بيان معنى الأزواج :
الأزواج في اللغة : جمع زوج ، وأصله من مادة " زوج " الدالة على مقارنة شيء لآخر . واقتران الذكر بالأنثى يسمى زواجا ، ويسمى كل واحد منهما زوجا للآخر ، ومنه قوله تعالى لآدم : سورة الأعراف الآية 19 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وقوله عن زكريا:سورة الأنبياء الآية 90 وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ، وقد يقال للمرأة: زوجة ، وتجمع على زوجات ، إلا أن الأول أفصح انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3 / 35)، وجلاء الأفهام لابن القيم (ص 150، 151). .
والزواج يعد من النعم العظيمة التي امتن الله بها على عباده ، ومن الآيات الكبيرة الدالة على كمال قدرة الله تبارك وتعالى ، وتمام حكمته ، ووجوب إخلاص الدين له دون ما سواه .
قال تعالى: سورة النحل الآية 72 وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ، وقال تعالى: سورة الشورى الآية 10 ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ سورة الشورى الآية 11 فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وقال تعالى: سورة الروم الآية 21 وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
المسألة الثانية: في بيان معنى الأمهات :
الأمهات: جمع ، مفرده أم ، وهي لغة بإزاء الأب ، وهي الوالدة القريبة التي ولدته ، والبعيدة التي ولدت من ولدته ، ولهذا قيل لحواء : هي أمنا ، وإن كان بيننا وبينها وسائط ، ويقال لكل ما كان أصلا لوجود الشيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه: أم .
قال الخليل : كل شيء ضم إليه سائر ما يليه يسمى أما انظر: المفردات، للراغب ص (22). .
وقد وردت كلمة (أم) في القرآن الكريم على أوجه عديدة:
الأول : بمعنى نفس الأصل: سورة آل عمران الآية 7 هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: أصله .
الثاني : بمعنى المرجع والمأوى: سورة القارعة الآية 9 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ أي: مسكنه النار .
الثالث : بمعنى الوالدة: سورة طه الآية 40 فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا .
الرابع : بمعنى الظئر: سورة النساء الآية 23 وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ .
الخامس : بمعنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ .
السادس : بمعنى اللوح المحفوظ: سورة الزخرف الآية 4 وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
السابع : بمعنى مكة شرفها الله تعالى: سورة الشورى الآية 7 لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (2 / 111، 112). .
وبما تقدم يعلم أن المرأة قد تكون أما من أحد أوجه ثلاثة :
1 - إما من جهة الولادة ، فالوالدة أم لمن ولدته ، وأم لولد من ولدته .
2 - وإما من جهة الرضاعة ، فالمرضع أم لمن أرضعته ، وأم لولد من أرضعته .
3 - وإما من جهة التربية والإصلاح ، فالمربية والمصلحة أم لمن ربته وأصلحته .
فمن الأول قوله تعالى: سورة طه الآية 40 فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا
ومن الثاني قوله تعالى: سورة النساء الآية 23 وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
ومن الثالث قوله تعالى: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ
المسألة الثالثة: في فائدة الإضافة في قوله تعالى: وأزواجه :
لا شك أن هذه الإضافة تعد شرفا عظيما لهن ، حيثما تميزن عن نساء العالمين بذلك ، فاختارهن الله واصطفاهن ليكن زوجات لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام ، وصرن بذلك لسن كسائر النساء ، بل أحسن وأطيب وأكمل ، قال تعالى: سورة الأحزاب الآية 32 يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ . فبزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهن نلن تلك الفضيلة وتبوأن تلك الدرجة السامقة السامية الرفيعة ، التي لم تتحقق لأحد من النساء غيرهن رضي الله عنهن .
وقد خيرهن عليه الصلاة والسلام بين البقاء في هذه المنزلة
وإن قل العيش وضاق الرزق وبين الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها الزائل فلم يردن شيئا غير البقاء معه صلى الله عليه وسلم ، وآثرن ذلك على الدنيا ومتاعها وزينتها ، قال تعالى: سورة الأحزاب الآية 28 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا سورة الأحزاب الآية 29 وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ، فلم يخترن رضي الله عنهن غير الله ورسوله والدار الآخرة ، وكن خير زوجات لخير زوج ، مؤمنات قانتات عابدات صالحات ، فآتاهن الله على ذلك الأجر العظيم ، ونلن أجرهن مرتين ، وأعد الله لهن الرزق الكريم والثواب الجزيل المضاعف ، قال تعالى: سورة الأحزاب الآية 31 وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا . وعندما نتأمل قول الله تبارك وتعالى: سورة النور الآية 26 وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ .
نعلم عظيم قدر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو عليه الصلاة والسلام الطيب المطيب ، ونساؤه الطيبات ، بل هو عليه الصلاة والسلام خير الطيبين وأفضلهم ، ونساؤه عليه الصلاة والسلام خير الطيبات وأفضلهن ، ولم يكن الله ليختار لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا خير النساء وأفضلهن .
فالإضافة في قوله: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ - ولا شك- فيها شرف وأيما شرف لهن رضي الله عنهن ، لا سيما وأن الله أخبر عن ذلك بلفظ الأزواج المشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران .
يقول ابن القيم رحمه الله: " وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان بلفظ الزوج مفردا وجمعا كقوله تعالى لآدم:
سورة الأعراف الآية 19 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وقال تعالى في حق زكريا: سورة الأنبياء الآية 90 وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ، وقال تعالى: سورة الأحزاب الآية 6 النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ، وقال تعالى: سورة الأحزاب الآية 28 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ، والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة ، قال تعالى: سورة المسد الآية 1 تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إلى قوله: سورة المسد الآية 4 وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ سورة المسد الآية 5 فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ، وقال تعالى: سورة التحريم الآية 10 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ فلما كانتا مشركتين أوقع عليهم اسم المرأة ، وقال في فرعون : سورة التحريم الآية 11 وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ لما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجا له ، وقال في حق آدم: سورة الأعراف الآية 19 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: سورة الأحزاب الآية 50 إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ . وقال في حق المؤمنين: سورة البقرة الآية 25 وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ .
فقالت طائفة ، منهم السهيلي وغيره: إنما لم يقل في حق هؤلاء: الأزواج؛ لأنهن لسن بأزواج لرجالهم في الآخرة؛ ولأن التزويج حلية شرعية وهو من أمر الدين فجرد الكافرة منه كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط . ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا: سورة مريم الآية 5 وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ، وقوله تعالى عن إبراهيم: سورة الذاريات الآية 29 فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ، وأجاب بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع؛ لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة ، فذكر المرأة أولى به؛ لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع ، لا من حيث كانت زوجا .
قلت: ولو قيل: إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران ، كما هو المفهوم من لفظه؛ فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان ، ومنه قوله تعالى: سورة الصافات الآية 22 احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أزواجهم:أشباههم ونظراؤهم " ذكره ابن كثير في تفسيره (7 / 7). ، وقاله الإمام أحمد أيضا ، ومنه قوله
تعالى: سورة التكوير الآية 7 وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية: " الصالح مع الصالح في الجنة ، والفاجر مع الفاجر في النار " رواه الحاكم في المستدرك (2 / 516). ، وقاله الحسن ، وقتادة ، والأكثرون انظر: الدر المنثور للسيوطي (8 / 430). ، وقيل: " زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين ، وأنفس الكافرين بالشياطين " قاله الكلبي. انظر: الدر المنثور للسيوطي (8 / 430). ، وهو راجع إلى القول الأول ، وقال تعالى: سورة الأنعام الآية 143 ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ثم فسرها " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد ، ومنه قولهم . "زوجا خف ، وزوجا حمام " ونحوه ، ولا ريب أن الله سبحانه قطع المشابهة والمشاكلة بين الكفار والمؤمنين ، قال تعالى: سورة الحشر الآية 20 لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ، وقال تعالى: في حق مؤمن أهل الكتاب وكافرهم: سورة آل عمران الآية 113 لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الآية ، وقطع المقارنة سبحانه بينهما في أحكام الدنيا فلا يتوارثان ، ولا يتناكحان ، ولا يتولى أحدهما صاحبه ، فكما انقطعت الوصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم ، فأضاف فيها المرأة بلفظ الأنوثةالمجرد ، دون لفظ المشاكلة والمشابهة .
فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه؟ولهذا وقع على المسلمة امرأة الكافر وعلى الكافرة امرأة المؤمن لفظ المرأة دون الزوجة؛ تحقيقا لهذا المعنى . والله أعلم .
وهذا أولى من قول من قال: إنما سمى صاحبة أبي لهب امرأته ، ولم يقل لها زوجته؛ لأن أنكحة الكفار لا يثبت لها حكم الصحة بخلاف أنكحة أهل الإسلام . فإن هذا باطل بإطلاقه اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط ، مع صحة ذلك النكاح .
وتأمل هذا المعنى في آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة ، كما في قوله تعالى:
سورة النساء الآية 12 وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب ، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب فلا يقع بينهما التوارث ، وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين " جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص (151- 154). . ا هـ كلامه رحمه الله .
وبهذا التقرير الدقيق والتحقيق القيم- الذي ذكره رحمه الله- يتبين ما في قوله تعالى: سورة الأحزاب الآية 6 وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ من تكريم بالغ ، وتشريف عظيم لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن أجمعين .
د . عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر مجلة البحوث الإسلامية 53
يتبع إن شاء الله