أبو عبد الرحمن محمد العكرمي
08-03-2010, 12:16 PM
رَدُّ الإِمَامِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى القَدَرِيَّةِ وَ الأَشْعَرِيَّةِ فِي نَفْيِ
الحِكْمَةِ وَ التَعْلِيلِ وَ السَّبَبِ
عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى
وَ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَا قَرَّرَهُ السَّفَارِينِيُ وَ مَنْ وَافَقَهُ وَ اسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ فِي عَقِيدَتِهِ حَيْثُ يَقُولُ :
وَ جَازَ لِلْمَوْلَى يُعَذِّبَ الوَرَى ** مِنْ غَيْرِ مَا إِثْمٍ وَ لاَ جُرْمٍ جَرَى .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم الفوائد :
فصلٌ عظيمُ النَفْعِ
صفات الجهّال بالله
(( الجهّال بالله وأسمائه وصفاته المعطّلون لحقائقها يُبَغِّضُونَ الله إلى خلقه ، ويقطعون عليهم طريق محبّته، والتّودّد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون ونحن نذكر من ذلك أمثلة تحتذي عليها.
فمنها: أنّهم يقرّرون في نفوس الضّعفاء أنّ الله سبحانه لا تنفع معه طاعة، وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه .
وأنّ العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره ، بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتّقي من المحراب إلى الماخور، ومن التّوحيد والمسبحة إلى الشّرك والمزمار . ويقلّب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر .
ويروون في ذلك آثارا صحيحة لم يفهموها ، وباطلة لم يقلها المعصوم، ويزعمون أنّ هذا حقيقة التّوحيد، ويتلون على ذلك قوله تعالى : [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ] ، وقوله : [أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] سورة الأعراف : الآية رقم :99 وقوله : [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ] الأنفال : الآية رقم :24 ، ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنّه كان طاووس الملائكة وأنّه لم يترك في السّماء رقعة و لا في الأرض بقعة إلاّ وله فيها سجدة أو ركعة ، لكن جنى عليه جاني القدر وسطا عليه الحكم فقلب عينه الطيّبة وجعلها أخبث شيء حتىّ قال بعض عارفيهم: إنّك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الّذي يثب عليك بغير جرم منك ولا ذنب أتيته إليه . ويحتجون بقول النّبي صلى الله عليه و سلم : ( إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها) .
ويروون عن بعض السّلف: أكبر الكبائر الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله .
وذكر الإمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنّه سمع رجلاً يدعو: اللّهم لا تؤمني مكرك ، فأنكر ذلك وقال : قل اللّهم لا تجعلني ممّن يأمن مكرك. و بنوا هذا على أصلهم الباطل وهو إنكار الحكمة والتّعليل والأسباب، وأنّ الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب إنّما يفعل بمشيئته مجردة من الحكمة والتّعليل والسّبب ، فلا يفعل لشيء ولا بشيء ، وأنّه يجوز عليه أن يعذّب أهل طاعته أشدّ العذاب ، وينعّم أعداءه أهل معصيته بجزيل الثّواب ، وأنّ الأمرين بالنسبة إليه سواء ولا يعلم امتناع ذلك إلا بخبر من الصّادق أنّه لا يفعله . فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنّه لا يكون، لا لأنّه في نفسه باطل وظلم ، فإنّ الظلم في نفسه مستحيل فإنّه غير ممكن بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آنٍ واحد، والجمع بين اللّيل والنّهار في ساعة واحدة وجعل الشّيء موجودا ومعدوما معا في آنٍ واحدٍ، فهذا حقيقة الظلم عندهم فإذا رجع العامل إلى نفسه قال : من لا يستقر له أمر ولا يؤمن له مكر ، كيف يوثق بالتقرب إليه؟ وكيف يعول على طاعته و اتباع أوامره وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة؟! فإذا هجرنا فيها اللّذات وتركنا الشّهوات وتكلفنا أثقال العبادات وكنّا مع ذلك غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفرا والتوحيد شركا والطاعة معصية والبرّ فجورا ويديم علينا العقوبات ، كنّا خاسرين في الدنيا والآخرة.
فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمّر في نفوسهم صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللّذات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده: معلمك إن كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربّما أقام لك حجة وعاقبك، وإن كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربّما قربك وأكرمك فيودع بهذا القول قلب الصّبيّ ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة ولا وعده على الإحسان. وإن كبر الصّبيّ وصلح للمعاملات والمناصب قال به هذا سلطان بلدنا يأخذ اللّص من الحبس فيجعله وزيراً أميراً ويأخذ الكيِّسَ المحسن لشغله فيخلّده في الحبس ويقتله ويصلبه.
فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه وجعله يخاف مخافة الظّالم الّذي يأخذ المحسن بالعقوبة والبريء بالعذاب، فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة، فلا بفعل الخير يستأنس، ولا بفعل الشّر يستوحش، وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟ ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.
وصاحب هذه الطريقة يظنّ أنّه يقرّر التّوحيد والقدر ويردّ على أهل البدع وينصر الدّين، ولعمر الله العدوّ العاقل أقل ضرراً من الصّديق الجاهل.
وكتب الله المنزلة كلّها ورسله كلّهم شاهدة بضدّ ذلك ولا سيّما القرآن. فلو سلك الدّعاة المسلك الّذي دعا الله ورسوله به النّاس إليه لصحّ العالم صلاحاً لا فساد معه، فالله سبحانه أخبر وهو الصّادق الوفيّ أنّه إنّما يعامل النّاس بكسبهم ويجازيهم بأعمالهم ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرّة ولا يظلمها : [وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً] ، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يضيعها عليه.
وأنه يجزي بالسّيئة مثلها ويحبطها بالتّوبة والنّدم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وهو الّذي أصلح الفاسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين، وهدى الضّالين وأنقذ الهالكين، وعلّم الجاهلين، وبصّر المتحيرين وذكّر الغافلين، وآوى الشّاردين.
وإذا أوقع عقاباً أوقعه بعد شدّة التّمرّد والعتوّ عليه، ودعوة العبد إلى الرّجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقّه مرّة بعد مرّة، حتّى إذا أَيِسَ من استجابته والإقرار بربوبيّته ووحدانيّته أخذه ببعض كفره وعتوّه وتمرّده بحيث يعذر العبد من نفسه و يعترف بأنّه سبحانه لم يظلمه وأنّه هو الظّالم لنفسه كما قال تعالى عن أهل النّار: [فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لْأَصْحَابِ السَّعِيرِ] سورة الملك، الآية 11 ، وقال عمّن أهلكهم في الدّنيا إنّهم لما رأوا آياته وأحسّوا بعذابه قالوا: [يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ] الأنبياء: 14-15، وقال أصحاب الجنّة الّتي أفسدها عليهم لما رأوها: [قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ] القلم: 29، قال الحسن لقد دخلوا النّار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلاً. ولهذا قال تعالى: [فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] الأنعام: 45.فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محموداً على ذلك فقطع دابرهم قطعا مصاحباً لحمده، فهو قطع وإهلاكٌ يُحْمَدُ عليه الرّب تعالى لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الّذي لا يليق به غيرها. فوضعها في الوضع الّذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة إلا بهذا المحلّ، ولا يليق به إلاّ العقوبة، ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السّعادة إلى الجنّة وأهل الشّقاء إلى النّار: [وَقَضَى بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] الزمر: 75، فحذف فاعل القول إشعاراً بالعموم وأنّ الكون كلّه قال: [الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] لِـمَا شهدوا من حكمه الحقّ وعدله وفضله. ولهذا قال في حق أهل النّار: [قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ] الزمر: 72، كأنّ الكون كلّه يقول ذلك حتّى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم، وهو سبحانه يخبر أنّه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه ولا يعمّه بالهلاك بمحض المشيئة.
ولـمّا سأله نوح نجاة ابنه أخبر أنّه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إنّي أغرقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب، وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يخبر أنّه يضلهم ويبطل سعيهم.
وكذلك ضمن زيادة الهداية للمتّقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلاّ الفاسقين الّذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، وأنّه إنّما يضلّ من آثر الضّلال واختاره على الهدى فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنّه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه وردّه فيقلب فؤاده وبصره عقوبةً له على ردّه ودفعه لما تحققه وعرفه، وأنّه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنّها لا تصلح لنعمته ولا تليق بها كرامته.
وقد أزاح سبحانه العلل وأقام الحجج ومكّن من أسباب الهداية لا يضلّ إلاّ الفاسقين والظّالمين ولا يطبع إلاّ على قلوب المعتدين ولا يركس في الفتنة إلاّ المنافقين بكسبهم وأنّ الرين الّذي غطّى به قلوب الكفّار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال : [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] سورة المطففين : الآية رقم:14 وقال عن أعدائه من اليهود: [وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ] النساء : الآية رقم :155 . وأخبر أنّه لا يضل من هداه حتّى يبين له ما يتقى، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضّلال على الهدى والغيّ على الرّشاد ، ويكون مع نفسه وشيطانه وعدو ربّه عليه )). اهـ من كتاب الفوائد(ص159-163)الطبعة الثانية لدار الكتب العلمية -بيروت -1393هجري.
للتحميل من المرفقات على شكل ملف pdf.
الحِكْمَةِ وَ التَعْلِيلِ وَ السَّبَبِ
عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى
وَ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَا قَرَّرَهُ السَّفَارِينِيُ وَ مَنْ وَافَقَهُ وَ اسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ فِي عَقِيدَتِهِ حَيْثُ يَقُولُ :
وَ جَازَ لِلْمَوْلَى يُعَذِّبَ الوَرَى ** مِنْ غَيْرِ مَا إِثْمٍ وَ لاَ جُرْمٍ جَرَى .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم الفوائد :
فصلٌ عظيمُ النَفْعِ
صفات الجهّال بالله
(( الجهّال بالله وأسمائه وصفاته المعطّلون لحقائقها يُبَغِّضُونَ الله إلى خلقه ، ويقطعون عليهم طريق محبّته، والتّودّد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون ونحن نذكر من ذلك أمثلة تحتذي عليها.
فمنها: أنّهم يقرّرون في نفوس الضّعفاء أنّ الله سبحانه لا تنفع معه طاعة، وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه .
وأنّ العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره ، بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتّقي من المحراب إلى الماخور، ومن التّوحيد والمسبحة إلى الشّرك والمزمار . ويقلّب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر .
ويروون في ذلك آثارا صحيحة لم يفهموها ، وباطلة لم يقلها المعصوم، ويزعمون أنّ هذا حقيقة التّوحيد، ويتلون على ذلك قوله تعالى : [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ] ، وقوله : [أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] سورة الأعراف : الآية رقم :99 وقوله : [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ] الأنفال : الآية رقم :24 ، ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة وأنّه كان طاووس الملائكة وأنّه لم يترك في السّماء رقعة و لا في الأرض بقعة إلاّ وله فيها سجدة أو ركعة ، لكن جنى عليه جاني القدر وسطا عليه الحكم فقلب عينه الطيّبة وجعلها أخبث شيء حتىّ قال بعض عارفيهم: إنّك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الّذي يثب عليك بغير جرم منك ولا ذنب أتيته إليه . ويحتجون بقول النّبي صلى الله عليه و سلم : ( إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها) .
ويروون عن بعض السّلف: أكبر الكبائر الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله .
وذكر الإمام أحمد عن عون بن عبد الله أو غيره أنّه سمع رجلاً يدعو: اللّهم لا تؤمني مكرك ، فأنكر ذلك وقال : قل اللّهم لا تجعلني ممّن يأمن مكرك. و بنوا هذا على أصلهم الباطل وهو إنكار الحكمة والتّعليل والأسباب، وأنّ الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب إنّما يفعل بمشيئته مجردة من الحكمة والتّعليل والسّبب ، فلا يفعل لشيء ولا بشيء ، وأنّه يجوز عليه أن يعذّب أهل طاعته أشدّ العذاب ، وينعّم أعداءه أهل معصيته بجزيل الثّواب ، وأنّ الأمرين بالنسبة إليه سواء ولا يعلم امتناع ذلك إلا بخبر من الصّادق أنّه لا يفعله . فحينئذ يعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنّه لا يكون، لا لأنّه في نفسه باطل وظلم ، فإنّ الظلم في نفسه مستحيل فإنّه غير ممكن بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آنٍ واحد، والجمع بين اللّيل والنّهار في ساعة واحدة وجعل الشّيء موجودا ومعدوما معا في آنٍ واحدٍ، فهذا حقيقة الظلم عندهم فإذا رجع العامل إلى نفسه قال : من لا يستقر له أمر ولا يؤمن له مكر ، كيف يوثق بالتقرب إليه؟ وكيف يعول على طاعته و اتباع أوامره وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة؟! فإذا هجرنا فيها اللّذات وتركنا الشّهوات وتكلفنا أثقال العبادات وكنّا مع ذلك غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفرا والتوحيد شركا والطاعة معصية والبرّ فجورا ويديم علينا العقوبات ، كنّا خاسرين في الدنيا والآخرة.
فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمّر في نفوسهم صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللّذات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده: معلمك إن كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربّما أقام لك حجة وعاقبك، وإن كسلت وبطلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربّما قربك وأكرمك فيودع بهذا القول قلب الصّبيّ ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة ولا وعده على الإحسان. وإن كبر الصّبيّ وصلح للمعاملات والمناصب قال به هذا سلطان بلدنا يأخذ اللّص من الحبس فيجعله وزيراً أميراً ويأخذ الكيِّسَ المحسن لشغله فيخلّده في الحبس ويقتله ويصلبه.
فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه وجعله يخاف مخافة الظّالم الّذي يأخذ المحسن بالعقوبة والبريء بالعذاب، فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة، فلا بفعل الخير يستأنس، ولا بفعل الشّر يستوحش، وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟ ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.
وصاحب هذه الطريقة يظنّ أنّه يقرّر التّوحيد والقدر ويردّ على أهل البدع وينصر الدّين، ولعمر الله العدوّ العاقل أقل ضرراً من الصّديق الجاهل.
وكتب الله المنزلة كلّها ورسله كلّهم شاهدة بضدّ ذلك ولا سيّما القرآن. فلو سلك الدّعاة المسلك الّذي دعا الله ورسوله به النّاس إليه لصحّ العالم صلاحاً لا فساد معه، فالله سبحانه أخبر وهو الصّادق الوفيّ أنّه إنّما يعامل النّاس بكسبهم ويجازيهم بأعمالهم ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرّة ولا يظلمها : [وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً] ، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يضيعها عليه.
وأنه يجزي بالسّيئة مثلها ويحبطها بالتّوبة والنّدم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وهو الّذي أصلح الفاسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين، وهدى الضّالين وأنقذ الهالكين، وعلّم الجاهلين، وبصّر المتحيرين وذكّر الغافلين، وآوى الشّاردين.
وإذا أوقع عقاباً أوقعه بعد شدّة التّمرّد والعتوّ عليه، ودعوة العبد إلى الرّجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقّه مرّة بعد مرّة، حتّى إذا أَيِسَ من استجابته والإقرار بربوبيّته ووحدانيّته أخذه ببعض كفره وعتوّه وتمرّده بحيث يعذر العبد من نفسه و يعترف بأنّه سبحانه لم يظلمه وأنّه هو الظّالم لنفسه كما قال تعالى عن أهل النّار: [فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لْأَصْحَابِ السَّعِيرِ] سورة الملك، الآية 11 ، وقال عمّن أهلكهم في الدّنيا إنّهم لما رأوا آياته وأحسّوا بعذابه قالوا: [يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ] الأنبياء: 14-15، وقال أصحاب الجنّة الّتي أفسدها عليهم لما رأوها: [قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ] القلم: 29، قال الحسن لقد دخلوا النّار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلاً. ولهذا قال تعالى: [فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] الأنعام: 45.فهذه الجملة في موضع الحال أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محموداً على ذلك فقطع دابرهم قطعا مصاحباً لحمده، فهو قطع وإهلاكٌ يُحْمَدُ عليه الرّب تعالى لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الّذي لا يليق به غيرها. فوضعها في الوضع الّذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة إلا بهذا المحلّ، ولا يليق به إلاّ العقوبة، ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السّعادة إلى الجنّة وأهل الشّقاء إلى النّار: [وَقَضَى بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] الزمر: 75، فحذف فاعل القول إشعاراً بالعموم وأنّ الكون كلّه قال: [الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] لِـمَا شهدوا من حكمه الحقّ وعدله وفضله. ولهذا قال في حق أهل النّار: [قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ] الزمر: 72، كأنّ الكون كلّه يقول ذلك حتّى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم، وهو سبحانه يخبر أنّه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه ولا يعمّه بالهلاك بمحض المشيئة.
ولـمّا سأله نوح نجاة ابنه أخبر أنّه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إنّي أغرقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب، وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يخبر أنّه يضلهم ويبطل سعيهم.
وكذلك ضمن زيادة الهداية للمتّقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يضل إلاّ الفاسقين الّذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، وأنّه إنّما يضلّ من آثر الضّلال واختاره على الهدى فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنّه يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعه وردّه فيقلب فؤاده وبصره عقوبةً له على ردّه ودفعه لما تحققه وعرفه، وأنّه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنّها لا تصلح لنعمته ولا تليق بها كرامته.
وقد أزاح سبحانه العلل وأقام الحجج ومكّن من أسباب الهداية لا يضلّ إلاّ الفاسقين والظّالمين ولا يطبع إلاّ على قلوب المعتدين ولا يركس في الفتنة إلاّ المنافقين بكسبهم وأنّ الرين الّذي غطّى به قلوب الكفّار هو عين كسبهم وأعمالهم كما قال : [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] سورة المطففين : الآية رقم:14 وقال عن أعدائه من اليهود: [وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ] النساء : الآية رقم :155 . وأخبر أنّه لا يضل من هداه حتّى يبين له ما يتقى، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضّلال على الهدى والغيّ على الرّشاد ، ويكون مع نفسه وشيطانه وعدو ربّه عليه )). اهـ من كتاب الفوائد(ص159-163)الطبعة الثانية لدار الكتب العلمية -بيروت -1393هجري.
للتحميل من المرفقات على شكل ملف pdf.