أبو عبد الرحمن محمد العكرمي
09-20-2010, 12:38 PM
رد أوهام
محمود لطفي عامر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد وقفت على كلام للشيخ محمود لطفي عامر المصري -وفقه الله-، تضمن نقداً لي في ضمن كتابه الذي سماه "من أجل التوحيد" تحت عنوان المبحث الثامن: التعليق على مقال الشيخ ربيع "العبودية للمال أو لغيره من الخصال".
أولاً- ثم قال: "اطلعت على مقال للشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله- وهذا نص المقال كما نشرته شبكة سحاب بتاريخ (14/6/1431هـ):
" بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب "العبودية" أن كمال المخلوق في تحقيق العبودية.
وساق آيات فيها كمال عبودية الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
ثم قال في (ص52-56):
"فصل
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص، ولهذا كان الشرك في هذه الأمة " أخفى من دبيب النمل".
وفي " الصحيح " عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتُكِس، وإذا شيك فلا انْتُقِش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط".
فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم-: عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاءً وخبرًا، وهو قوله : "تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".
والنقش: إخراج الشوكة من الرجل. والمنقاش: ما يخرج به الشوكة .
وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال.
وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط، كما قال تعالى: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون )، [سورة التوبة: 58 ]، فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله.
وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده، ولهذا يقال:
العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع
وقال القائل :
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرًّا
ويقال : الطمع غل في العنق وقيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل.
ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه" .
وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع فيه، ولا يبقى قلبه فقيرا إليه، ولا إلى من يفعله. وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك.
قال الخليل -صلى الله عليه وسلم-: ( فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ) [سورة العنكبوت: 17 ] .
فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله، فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه، ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة. وفي النهى عنها أحاديث كثيرة في " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم"، وقوله : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه". وقوله : " لا تحل المسألة إلا لذي غُرْم مُفْظِع، أو دم مُوجع أو فقر مُدْقِع " وهذا المعنى في " الصحيح ".
وفيه أيضا : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه ".
وقال : " ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك "، فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب.
وقال في الحديث: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يُعِفَّه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر " .
وأوصى خواص أصحابه "أن لا يسألوا الناس شيئا".
وفي " المسند " أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد : ناولني إياه، ويقول : "إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً ".
وفي " صحيح مسلم " وغيره عن عوف بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية : " أن لا يسألوا الناس شيئاً "، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد : ناولني إياه .
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)، [ سورة الشرح 7 ].
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس : " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ".
ومنه قول الخليل: (فابتغوا عند الله الرزق)، [ سورة العنكبوت17 ] ، ولم يقل : فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى: ( واسألوا الله من فضله) [ سورة النساء32 ] " اهـ .
أقول: رحم الله شيخ الإسلام وسلفه الشرفاء الكرام ومن سار على نهجهم العظيم في كل الميادين من ثبات على الحق وزهد في الدنيا والمال ومن صدق في الأقوال والأفعال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
قال محمود لطفي معلقاً على هذا الكلام:
"إنني حينما طالعت هذا المقال استشكل عليّ أمور أولها: العنوان (العبودية للمال...)، فهل يا تُرى يقصد الشيخ بعبودية المال تأليه المال، وبالتالي تندرج هذه العبودية مع الشرك الأكبر، فالشيخ لم يفصح ولم يفصل هذا الإجمال، وبالتالي فالأمر على احتمالين أحدهما مرّ ألا وهو الشرك بالله.
إن المطلع على المقال في غالب الحال سيذهب إلى الاحتمال المرّ، خاصة ونحن نعاني من عموم بلوى التكفير، وليس معنى ذلك أن المقال يحث على التكفير أو يشجعه، وإنما قصدي أن الكلام في المقال يحتاج إلى مزيد تفصيل".
أقول:
1- أصل هذا الكلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتُكِس، وإذا شيك فلا انْتُقِش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط".
ولم يبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقصوده من هذه العبودية.
2- روى هذا الحديث الإمام البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه حديث (2886)، (2887)، (6435)، ولم يبين المراد بهذه العبودية.
ورواه الإمام الترمذي في "جامعه" حديث (2375) بلفظ: "لُعِنَ عبد الدِّينَارِ لُعِنَ عبد الدِّرْهَمِ"، من طريق يونس عن الحسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً، وقال عقبه: "هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ من هذا الْوَجْهِ، وقد رُوِيَ هذا الْحَدِيث من غَيْرِ هذا الْوَجْهِ عن أبي صَالِحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا أَتَمَّ من هذا وَأَطْوَلَ".
ولم يبين المراد بهذه العبودية.
ورواه الإمام ابن ماجه من طريقين حديث (4135)، (4136) عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عبد الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وإذا شِيكَ فلا انْتَقَشَ".
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه العبودية.
ورواه الإمام البغوي من طريق عبد الله بن دينار وأبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً، وشرحه لغوياً فقال في "شرح السنة" (14/262):
"ويروى "تعس فلا انتعش ، وشيك فلا انتقش" قوله : " تعس " أي : انكب وعثر ، ومعناه : الدعاء عليه ، أي : أتعسه الله ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : ( فتعسا لهم) [ محمد : 8 ] أي : عثارا وسقوطا ، وإذا سقط الساقط به ، فأريد به الاستقامة ، قيل : لعا له ، وإذا لم يرد به الانتعاش ، قيل : تعسا له . قوله : "وانتكس " يقال : نكست الشيء : إذا قلبته ، والشيء منكوس . والانتعاش : الارتفاع وسمي نعش الجنازة نعشا لارتفاعه . قوله : "فلا انتعش" أي : لا ارتفع ، ويقال : انتعش العليل : إذا أفاق .
وقوله : "شيك فلا انتقش" أي : لا أخرجه من الموضع الذي دخله ، ولا قدر على إخراجه ، ونقش الشوكة : استخراجها ، يقال: شاكه الشوك يشوكه : إذا أصابه ، وشاك يشاك : إذا دخل في الشوك".
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه العبودية.
ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه كما في "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" حديث (8/32) من طريق أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- به مرفوعاً تحت عنوان: "ذكر الزجر عن أن يكون المرء عبد الدينار والدرهم".
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه العبودية.
ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" حديث (2595)، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- به مرفوعاً.
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه العبودية.
فما رأيك في هؤلاء الأئمة أتلزمهم بما ألزمت به ربيعاً؟ أم لك فيهم رأي آخر؟
إني أنصحك عن المبالغة في الإلزامات التي لا تلزم.
واعرف أن من منهج السلف إيراد أحاديث الوعيد ونحوها دون تفسير لها؛ لتكون هذه الأحاديث أقوى في الزجر والردع لأهل الشهوات والشبهات.
هذا وهم من أشد الناس على الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب.
3- رأيت تهالكاً مخزياً على الأموال التي تجمعها بعض المؤسسات الحزبية باسم الأيتام والفقراء والمنكوبين، فتذهب هذه الأموال إلى من يخدمهم في حرب المنهج السلفي وأهله، فاخترت لهم كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- على هذا الحديث لعلهم يخجلون من التهافت على الأموال التي غالباً ما تكون إلا سحتاً، ولو علم الأغنياء الذين يقدمون أموالهم باسم الفقراء والمساكين والمنكوبين أن هذه الأموال تذهب إلى أولئك المأجورين المحاربين لما قدموها بسخاء.
4- إن في كلام شيخ الإسلام ما يدل على أنه لا يريد بهذه العبودية تأليه المال أو لا يريد بذلك الشرك الأكبر المخرج من الملة، ومن ذلك:
1- قوله: "ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: " الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه".
ثم شرح هذا الأثر بما يبعد القارئ المنصف عن الاحتمال الذي رجحته ألا وهو تأليه المال.
ثم زاد الأمر وضوحاً بما يرمي الاحتمال الذي رجحته بعيداً فقال:
" ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة. وفي النهى عنها أحاديث كثيرة في " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم"، وقوله : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه". وقوله : " لا تحل المسألة إلا لذي غُرْم مُفْظِع، أو دم مُوجع أو فقر مُدْقِع " وهذا المعنى في " الصحيح ".
وفيه أيضا : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه ".
وقال : " ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك "، فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب.
وقال في الحديث: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يُعِفَّه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر " .
وأوصى خواص أصحابه "أن لا يسألوا الناس شيئا".
وفي " المسند " أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد : ناولني إياه، ويقول : "إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً ".
وفي " صحيح مسلم " وغيره عن عوف بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية : " أن لا يسألوا الناس شيئاً "، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد : ناولني إياه .
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)، [ سورة الشرح 7 ].
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس : " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ".
ومنه قول الخليل: (فابتغوا عند الله الرزق)، [ سورة العنكبوت17 ] ، ولم يقل : فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى: ( واسألوا الله من فضله) [ سورة النساء32 ]" اهـ .
وهذه النصوص النبوية التي ساقها شيخ الإسلام في السؤال والمسألة ما يبعد أي احتمال للتكفير المخرج من الملة.
انظر إلى قول شيخ الإسلام مبيناً حكم المسألة بقوله: "ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة".
ولم يقل: ولهذا كانت المسألة شركاً أكبر.
وانظر إلى استدلاله بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحل المسألة إلا لذي غُرْم مُفْظِع، أو دم مُوجع أو فقر مُدْقِع" ليفيدك أن المسألة محرمة على من ذكر في الحديث، وليست شركاً أكبر.
وانظر إلى استشهاده بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك".
ثم بيانه لحكم السؤال والاستشراف بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، يريد كراهية التحريم.
ساق شيخ الإسلام كل هذه الأحاديث مستنتجاً منها التحريم وكراهة التحريم، ولم يستنتج منها التكفير، ثم أكد ذلك بما ساقه بعدها من الأحاديث، ولو تأنيتَ في قراءة هذا الكلام ما خرجت بهذه النتيجة المؤلمة.
ولو كان يريد التكفير والتأليه الذي فهمته لساق آيات وأحاديث تدل على الكفر المخرج عن الملة.
أما أنا فاكتفيتُ بهذه اللفتات والأحكام والاستدلالات التي ساقها شيخ الإسلام خلال هذا الكلام.
ثم إني علقتُ على كلامه بما يناسب كلامه من الدعوة إلى اتباع السلف في الثبات على الحق والزهد في الدنيا والمال، فقلتُ:
" رحم الله شيخ الإسلام وسلفه الشرفاء الكرام ومن سار على نهجهم العظيم في كل الميادين من ثبات على الحق وزهد في الدنيا والمال ومن صدق في الأقوال والأفعال".
فأين احتمال التكفير الذي تخيلته، ثم إن أهل السنة يقرؤون حديث: " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم..." الحديث، ولم يستدلوا به على تكفير أصحاب المطامع الدنيوية، ويقرؤون كلام شيخ الإسلام هذا ولم يستدلوا به على التكفير، ولم يفهموا منه ذلك، وحتى التكفيريين لا أعرف أحداً منهم استدل به على التكفير، ولو فعلوا ذلك أو أحد منهم لتصدى أهل السنة لإبطال استدلالهم من نفس كلام شيخ الإسلام وسياقه والأدلة التي ساقها حول المال.
وأزيد الأمر توضيحاً أن شيخ الإسلام يرى عبودية المال الواردة في حديث " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم..."الخ، من الشرك الأصغر، وينفي أن يكون من الشرك الأكبر، قال -رحمه الله- في بيان الظلم أنه قسمان أكبر وأصغر، وله كلام طويل في هذا.
ثم قال في بيان الأصغر:
"فقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: " ما من صاحب كنـز إلا جعل له كنـزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته أنا مالك أنا كنـزك" وفي لفظ: " إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه "، وقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة )، وفى حديث آخر: " مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لابد له منه أدخل يده في فيه فيقضمها كما يقضم الفحل "، وفى رواية: " فلا يزال يتبعه فيلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده "، وقد قال تعالى في الآية الأخرى: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون ).
وقد ثبت في الصحيح وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " ما من صاحب كنـز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "، وفي حديث أبي ذر: " بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم"، وهذا كما في القرآن، ويدل على أنه بعد دخول النار، فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولا في الموقف. فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه وماله الذي صار عبدا له من دون الله فيعذب به وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار ولهذا قال في آخر الحديث: " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"، فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يدخل الجنة، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " ، قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره"، "مجموع الفتاوى" (7/65-67).
فقد بيّن شيخ الإسلام أن عبودية المال الواردة في هذا الحديث أنها ليست من الشرك الأكبر وإنما هي من الشرك الأصغر.
وحكى عن ابن عباس وأصحابه أنهم قالوا: "كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق " ، يشير إلى معنى قول الله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، وذكر أن هذا مذهب أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره.
وانظر "مجموع الفتاوى" (7/524)، فقد بيّن في هذا الموضع أن الكفر ينقسم إلى أكبر وأصغر، والنفاق ينقسم إلى نفاق أكبر ونفاق أصغر، وأن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر، وساق الأدلة على ذلك.
وهو -رحمه الله- يذكر هذا التفصيل في عدد من كتبه كـ "العبودية" و "مجموع الفتاوى" وكتاب "الاستغاثة".
وكذلك الإمام ابن القيم يذكر هذا التفصيل في كتبه، ومنها "مدارج السالكين" و "الجواب الكافي".
وهذا أمر معروف عند أهل السنة، يعرفه حتى صغار طلبة العلم المعنيين بالعلوم الشرعية وخاصة التوحيد وما ينافي أصله وما ينافي كماله كالحلف بغير الله وقول الرجل ما شاء الله وشاء فلان.
ثانياً- قال الشيخ محمود:
"ثانياً-كما استوقفتني عبارات زادتني حيرة ودهشة، حيث يقول الشيخ –حفظه الله-: "فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله، فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه، ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة"اهـ.
قلت: إن الشيخ –حفظه الله- لم يجعل احتمالين في كلامه السابق، فطلب الرزق من الله هذا من التوحيد، وبالتالي صار العبد موحداً لله، فإذا طلب الرزق من المخلوق كان الوصف عكس الوصف الأول، كما ذكر الشيخ: "عبداً لذلك المخلوق"، وهذا كلام عجيب يحتاج إلى تقييد حتى يستقيم، إذ كيف نصف العبد بالشرك لمجرد أنه يُلح ويحرص –وهي صفات زائدة من عندي لبيان المقصود في أسوء صوره –على طلب الرزق من المخلوق؟ كمن يسعى لمسئول بالطرق المباحة أو الطرق المكروهة وربما الطرق المحرمة لمنحه وظيفة أو مساعدة؟ وقد يقول قائل: إن الشيخ –حفظه الله- لم يصرح بالشرك، ولكن لازم الكلام يؤدي إلى ذلك، بل معناه وليس لازمه يؤدي إلى ذلك "عبداً لذلك المخلوق".
أقول:
1- إن هذا الكلام الذي أدهشك وحيرك ليس هو كلام ربيع وإنما هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، وهو قد وضح مقصوده، وكان يلزمك التأني.
2- في قول شيخ الإسلام: "ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة"، فترى أن شيخ الإسلام يردد مسألة المخلوق بين التحريم أي في غير حال الضرورة، وبين الإباحة أي في حال الضرورة، ولو كان يعتقد أن مسألة المخلوق في شيء يقدر عليه شركاً أكبر لصرح بذلك، وحاشاه أن يعتقد هذا، وقد وضح مقصوده.
3- ما قولك فيمن يطلب الرزق من المخلوق الميت أو الغائب ما لا يقدر عليه إلا الله مثل أن يقول: يا بدوي أو يا رفاعي أو يا علي أو يا حسين اغنني أو ارزقني وعافني.
أعتقد أن هذا يوجد في اليهود والنصارى والهندوك والمجوس وعباد القبور من الروافض والصوفية الذين يعتقدون أن الأئمة والأولياء يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون، ويجيبون دعاء المضطرين ويكشفون كرب المكروبين، أعتقد فيك أنك ترى هذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، فهل إذا اعتقدت هذا وصرحت به تكون قد فتحت الباب أمام التكفيريين؟
وهل يجب على دعاة التوحيد أن يسكتوا عن بيان الشرك الأكبر والأصغر خشية أن يفتح الباب لأهل التكفير الظالم أو يجب عليهم أن يصدعوا بذلك تبليغاً لرسالات الله إلى جميع الأنبياء ونصحاً لعباد الله وتحذيراً لهم.
ثالثاً- قلت: "وقد يُرد تعليقي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعس عبد الدرهم"، وذاك الذي فسره الشيخ مثل ما جاء في الحديث، قلت: إذن لا زال الإشكال قائماً ما المقصود بعبودية الدرهم هنا؟ هل هي العبودية الشركية أم دونها؟ والشيخ –حفظه الله- لم يوضح.
وهنا يبرز السؤال: ما المقصود بعبودية المال؟ إنها ليست العبودية الشركية؛ لأنه لا يُعلم أن محباً للمال وإن تطرف وغلا في هذا الحب بحلاله أو حرامه قد ألّه المال واعتقد فيه اعتقاد الألوهية، قال تعالى: (وتحبون المال حباً جماً) [الفجر، آية:20]، كما أن الرِّق في الإسلام مشروع، والعبد يُشترى ويباع، ويملكه سيده ويأمره وينهاه، ولم يفهم أحد أن عبودية الرِّق هنا عبودية تأليه، رغم ما صاحب ذلك من طاعة مطلقة للسيد (قبل الإسلام)، ولم يعتبر الأنبياء هذه العلاقة بين العبد وسيده علاقة شرك، وكذلك كان الحال في قريش، فلم يدّعِ أحد أن عبيد أبي جهل كان شركهم في عبادتهم لأبي جهل رغم أنهم يطيعونه طاعة عمياء؛ لأن هذه الطاعة لم تكن طاعة عبادة أو تأليه، ولم ينعت القرآن أو الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسياد قريش بأنهم آلهة.
إذن نخلص من هذا أن العبودية المقصودة في الحديث ليست هي العبودية الشركية التي تخرج صاحبها من الملة، وإنما هي عبودية تملّك غريزي وليس تملك عقيدي؛ أي: تملَّك المال قلب صاحبه، وبناء على ذلك إذا طلب العبد الرزق من الله فهو موحد، وإذا طلب الرزق من المخلوق ويعتقد في المخلوق تأليهاً "كمن يطلب الرزق من البدوي أو الدسوقي أو من شيخ الطريقة صاحب الأسرار الغيبية"، فقد أشرك، وبهذا يستقيم الكلام، ويفهم معنى الحديث، ويرتفع الإشكال، ولقد تعمدتُ أن أعلق على هذا الحديث لأنه متكأ لبعض الدعاة "دون شيخنا الربيع( 1) –حفظه الله-"، حينما نعتوا المعاصي كالتبرج ومشاهدة التلفاز وإدمان الدخان وإدمان مشاهدة كرة القدم فنعتوا ذلك بالصنمية، فادّعوا أن التلفاز صنم، والكرة صنم، والزوجة الحسناء التي تشغل زوجها عن الطاعات صنم..الخ، وبالتالي ابتدعوا شركاً وهمياً شغلوا به الشباب عن الشرك الحقيقي وهو دعاء الأموات، وكانت حجتهم في ذلك الحديث: "تعس عبد الدرهم..."، كما كانت حجتهم الآية في قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية، آية: 23] "راجع تفسير هذه الآية فيما سبق"".
أقول:
1- إن التكفيريين لهم مناهج وأئمة تكفير يتبعونهم ويتمسكون بمناهجهم وهي متكؤهم ، ولا يلتفتون إلى أهل السنة ومنهجهم وأصولهم فكان يجب أن ترد على هؤلاء التكفيريين الذين استدلوا بحديث: "تعس عبد الدينار"، وتبين لهم بطلان استدلالهم من كلام شيخ الإسلام في بيان معنى هذا الحديث، وتبين منهج أهل السنة في هذا الحديث وأمثاله وفي الآية المذكورة، كان يجب عليك أن تقوم بهذا بدل أن تحمل كلام شيخ الإسلام ما لا يحتمل.
2- ثم ها أنت ذا تصرح بأن طلب الرزق من البدوي أو الدسوقي ..الخ شرك، فلماذا تصرح بهذا الشرك وأنت تتصور أنه سيترتب على هذا التصريح أمران:
أولاً: فتح الباب للتكفيريين، وثانياً: سيصفك الصوفية وأمثالهم بأنك تكفر المسلمين وأنك من الخوارج، وما أكثر هؤلاء في العالم الإسلامي الذين يصفون دعاة التوحيد بأنهم يكفرون المسلمين، ولهم مؤلفات في ذلك، فهل يلزمهم السكوت ومجارات الناس خشية أن يوصفوا بأنهم تكفيريون.
3- فاتك أن هناك شركاً أكبر يخرج من الملة وشركاً أصغر لا يخرج من الملة كالحلف بغير الله وقول الرجل ما شاء الله وشئت ونحو ذلك مما وردت به السنة وقرره العلماء، وهذا شيء لا أدري أغفلته عمداً أو ذهلت عنه.
ثالثاً- قال الأخ محمود لطفي في (ص153) من كتابه هذا:
"وجاء في كتاب "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل" عبارة منقولة عن ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" ما يلي:
"وقد قرّر ذلك علماء الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتلميذه ابن القيم.
فمن يلتزم بهذه الحاكمية في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات وفي السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع فهو المؤمن، ومن لا يلتزمها في الكل أو في البعض فهو الكافر، فرداً كان أو جماعة، حاكماً أو محكوماً داعية أو مدعواً...".
قلت: كان ينبغي على شيخنا العلامة ربيع بن هادي أن يوضح هذه العبارة لابن القيم أو يقيدها، فهو يعلم أكثر مني مدى انتشار فكر التكفير بصفة عامة، وتكفير الحكام بصفة خاصة بين قطاع كبير من المتدينين على اختلاف مشاربهم، فالقول فيمن لا يلتزم في الكل أو في البعض من حاكمية الله في أصول الدين وفروعه بأنه كافر فرداً أم جماعة حاكماً أو محكوماً فيه ذريعة للتكفيريين".
أقول:
أولاً- لقد ابتدأ الشيخ محمود في نقل الكلام عني من حيث لا يجوز له الابتداء، وهذا نص كلامي حيث قلتُ:
"قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم)، فلا ينكر هذه الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر بالله شديد العداوة لله ولرسوله وكتبه، بل حتى من يجحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفرعية فضلاً عن الأصول يكون كافراً بالله خارجاً عن دائرة الإسلام إذا كان جحده لها عن علم، أما الجاهل فيعذر حتى تقام عليه الحجة.
هذا الذي أقوله يجري في حق الحكام والمحكومين والأفراد والجماعات.
وقد قرّر ذلك علماء الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتلميذه ابن القيم"( 2).
فالإشارة بقولي: "وقد قرر ذلك" تعود إلى هذا الكلام الواضح الجلي الذي غفل عنه محمود أو أغفله، وبهذا البيان يسقط اعتراض محمود، ويتحمل مسئولية هذا التصرف العجيب.
فما رأيه وغيره فيمن يجحد حاكمية الله؟ ثم إن الكلام الذي نقله محمود مقتصراً عليه إنما هو مبني على الكلام السابق الذي أغفله وذكرته للقارئ بنصه.
ثانياً- إني لم أنقل عبارة ابن القيم -رحمه الله-، وإنما هو كلامي وإنما قررت فيه أن الحاكمية لله، وأنه لا ينكر حاكمية الله ويجحدها إلا كافر، قلت هذا ردا على من افترى عليّ أنني أفصل بين الدين والدولة وأنني أنازع في الحاكمية، يقول هذا الأفاك هذا الكلام وهو يعلم أنني تكلمت على حاكمية الله في كتابي "منهج الأنبياء"( 3) وبينتُ أن حاكمية الله عامة وشاملة للعقائد والعبادات والسياسة والاقتصاد على خلاف منهج السياسيين الذين يحصرون حاكمية الله في السياسة، وينسون حاكمية الله الشاملة للعقائد وغيرها مما ذكرته في كتابي المذكور، ثم قلت بعد شيء من التفصيل: "هذا الذي أقوله يجري في حق الحكام والمحكومين والأفراد والجماعات.
ثم قلت: " وقد قرّر ذلك علماء الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتلميذه ابن القيم".
ثم أشرت إلى كلام هذين الإمامين في الحاشية حيث قلت: (1): "منهاج السنة النبوية" (3/32) فما بعدها"، حيث بيّن أن من لم يلتزم بحاكمية الله فهو كافر، وبيّن أن ذلك في الأمور العلمية والعملية.
وأشرت في الحاشية برقم (2) إلى مدارج السالكين (1/336)، فظن الأخ محمود أن قولي" "فمن يلتزم بهذه الحاكمية في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات وفي السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع فهو المؤمن، ومن لا يلتزمها في الكل أو في البعض فهو الكافر، فرداً كان أو جماعة، حاكماً أو محكوماً داعية أو مدعواً...".
ظن محمود أن هذا كلام ابن القيم فقال:
"قلت: كان ينبغي على شيخنا العلامة ربيع بن هادي أن يوضح هذه العبارة لابن القيم أو يقيدها، فهو يعلم أكثر مني مدى انتشار فكر التكفير بصفة عامة، وتكفير الحكام بصفة خاصة بين قطاع كبير من المتدينين على اختلاف مشاربهم، فالقول فيمن لا يلتزم في الكل أو في البعض من حاكمية الله في أصول الدين وفروعه بأنه كافر فرداً أم جماعة حاكماً أو محكوماً فيه ذريعة للتكفيريين".
أقول: إن هذا الكلام إنما هو كلامي، وليس بكلام ابن القيم، فهذا ذهول منه وتسرع.
ثم قال: "بل كان ينبغي أن تنقح العبارة بما يلي:
فمن لم يعتقد بحاكمية الله في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات.. فقد كفر وليس مجرد عدم الالتزام (أي: العمل) ببعض الفروع يوجب الكفر كما يفهم من كلام ابن القيم ووافقه الشيخ ربيع على ذلك، وهذا من باب الشيء بالشيء يذكر، خاصة وأنني قد بحثت سابقاً مسألة الحاكمية في المبحثين الرابع والخامس".
أقول: وهذا من الأخ محمود ذهول عجيب، ففي كلامي ما يدفع تعلق التكفيريين ويدفع اعتراضه هذا.
وأنا مضظر لإعادة بعض ما سلف من الكلام.
حيث قلت قبل هذا الكلام مباشرة: قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم)، فلا ينكر هذه الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر بالله شديد العداوة لله ولرسله وكتبه، بل حتى من يجحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفرعية فضلاً عن الأصول يكون كافراً بالله خارجاً عن دائرة الإسلام إذا كان جحده لها عن علم، أما الجاهل فيعذر حتى تقام عليه الحجة.
فالنكران والجحود ضد الإيمان والانقياد المفهومان مفهوم مخالفة للجحود والنكران الواردين في كلامي يمنعان الاعتراض.
قلت في السياق نفسه:
"وإني لأدعو الأمة جميعها حكامها ومحكوميها أفرادها وفرقها وأحزابها أن يؤمنوا جميعاً حق الإيمان بحاكمية الله العامة الشاملة لأصول الدين وفروعه وأن يلتزموها كل الالتزام".
فقولي: "أن يؤمنوا بها حق الإيمان"، أفضل وأقوى من عبارة محمود لطفي التي أراد بها تصحيح كلامي وتوضيحه، ألا وهي قوله: " فمن لم يعتقد بحاكمية الله في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات.. فقد كفر".
ثم قال: "وليس مجرد عدم الالتزام (أي: العمل) ببعض الفروع يوجب الكفر كما يفهم من كلام ابن القيم ووافقه الشيخ ربيع على ذلك".
أقول: إن تفسيره للالتزام بالعمل خطأ، فإن العمل هو أثر الالتزام القلبي إن كان هذا الالتزام قوياً قوي التطبيق والعمل، وإن كان ضعيفاً ضعف التطبيق والعمل.
ولفظ الالتزام الذي أوردته إنما هو تأكيد للإيمان المذكور في كلامي، وتأكيد لقولي: "فلا ينكر هذه الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر بالله"، وهو عندي يقوم مقام الإيمان أو الاعتقاد الذي ذكره الأخ محمود، فاندفع الاعتراض القائم على التسرع من وجوه كما ترى.
معنى الالتزام في اللغة:
قال في "المعجم الوسيط" في مادة "لزم":
"...ألزم الشيء أثبته وأدامه و__( 4) فلانا الشيء أوجبه عليه، ويقال: ألزمه المال والعمل والحجة وغير ذلك، ويقال: ألزمه به وألزمت خصمي: حججته.
وقال الإمام ابن قدامة في الروضة:
" أقسام أحكام التكليف خمسة واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور".
علق عليه العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بقوله: "التكليف لغة هو إلزام ما فيه كلفة أي مشقة"، الشاهد منه أن التكليف يفسر لغة بالإلزام، فالله يكلف عباده بتكاليف أي يلزمهم بها، أي يوجبها عليهم، واستجابة العباد لهذه التكاليف وخضوعهم لها يقال له التزام.
ثم قال العلامة الشنقيطي:
وحده (أي التكليف) في الاصطلاح: قيل: إلزام ما فيه مشقة، وقيل: طلب ما فيه مشقة.
فعلى الأولى لا يدخل في حده إلا الواجب والحرام؛ إذ لا إلزام بغيرهما، وعلى الثاني يدخل معهما المندوب والمكروه؛ لأن الأربعة مطلوبة.
وأما الجائز فلا يدخل في تعريف من تعاريف التكليف" ، انظر "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر" للعلامة الشنقيطي (ص30-31).
وقد قدمنا أن الاستجابة والخضوع للتكليف الإلهي هو الالتزام.
وممن يطلق الالتزام بمعنى الاعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال في "منهاج السنة النبوية" (3/32-33): "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينـزلها الله كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمره.
وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) ( سورة النساء59).
وقال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنـزلة أمثاله من العصاة.
وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله وقد تكلم الناس بما يطول ذكره ها هنا وما ذكرته يدل عليه سياق الآية.
والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد والحكم بما أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل من اتبعه.
ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر.
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات) [سورة البقرة 213].
وقال تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) [سورة الشورى 10]، وقال: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [سورة النساء 59]، فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك.
ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله وإن لم يكن فما في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافة فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار.
وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجهين".
أقول:
1-انظر إلى قوله: "فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمره".
2- وقوله بعد الاستدلال بالآيتين الموجبتين للاحتكام إلى الله والرسول: " فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنـزلة أمثاله من العصاة".
فقوله: " فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن".
انظر كيف جعل الالتزام قائماً مقام الاعتقاد لا العمل، وقال عن المعتقد بقلبه بوجوب الاحتكام إلى الله ورسوله باطناً وظاهراً: "لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنـزلة أمثاله من العصاة" ، يعني أن هذا النوع من الناس المقصرين عملياً لا يعدون من الكافرين الكفر المخرج من الملة، فالالتزام عنده مغاير للعمل بخلاف ما ذهب إليه الأخ محمود.
3- وانظر إلى قوله: " والحكم به (أي بما أنزل الله) واجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر.
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية...الخ.
الشاهد من كلامه أنه يعبر بالالتزام عن الاعتقاد.
فلقد أطلق الاعتقاد في كلامه الطويل مرة واحدة، وأطلق الالتزام مرات.
وبكل ما سبق من كلام شيخ الإسلام وأهل اللغة والأصول يظهر سقوط اعتراض محمود لطفي.
وأهل السنة جميعاً يعتقدون أن كل واحد كائناً من كان يؤخذ من كلامه ويترك غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرد خطؤه، ولكن يجب أن يكون الرد بعلم وبعدل وإخلاص لله رب العالمين ومراقبة لله رب العالمين، قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، وقال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً للإخلاص لوجهه الكريم والعدل في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
10/10/1431هـ
----------------
الحواشي:
1 - ودون أهل السنة جميعاً.
2 - "منهج الأنبياء" (ص23) الطبعة الثانية، مكتبة الغرباء، والكلام الذي نقله محمود في بداية (ص24)، وهو مبني على الكلام الأول وتأكيد له، فليتأمل المنصف.
3 - انظر هذا البيان في (ص173-174)، الطبعة الثانية.
4 - حذف هنا لفظ ألزم اختصاراً يريد ألزم فلانا الشيء.
عن شبكة شحاب السلفية
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=381705
محمود لطفي عامر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد وقفت على كلام للشيخ محمود لطفي عامر المصري -وفقه الله-، تضمن نقداً لي في ضمن كتابه الذي سماه "من أجل التوحيد" تحت عنوان المبحث الثامن: التعليق على مقال الشيخ ربيع "العبودية للمال أو لغيره من الخصال".
أولاً- ثم قال: "اطلعت على مقال للشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله- وهذا نص المقال كما نشرته شبكة سحاب بتاريخ (14/6/1431هـ):
" بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب "العبودية" أن كمال المخلوق في تحقيق العبودية.
وساق آيات فيها كمال عبودية الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
ثم قال في (ص52-56):
"فصل
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص، ولهذا كان الشرك في هذه الأمة " أخفى من دبيب النمل".
وفي " الصحيح " عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتُكِس، وإذا شيك فلا انْتُقِش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط".
فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم-: عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاءً وخبرًا، وهو قوله : "تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".
والنقش: إخراج الشوكة من الرجل. والمنقاش: ما يخرج به الشوكة .
وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال.
وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط، كما قال تعالى: ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون )، [سورة التوبة: 58 ]، فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله.
وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده، ولهذا يقال:
العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع
وقال القائل :
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرًّا
ويقال : الطمع غل في العنق وقيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل.
ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه" .
وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع فيه، ولا يبقى قلبه فقيرا إليه، ولا إلى من يفعله. وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك.
قال الخليل -صلى الله عليه وسلم-: ( فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ) [سورة العنكبوت: 17 ] .
فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله، فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه، ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة. وفي النهى عنها أحاديث كثيرة في " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم"، وقوله : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه". وقوله : " لا تحل المسألة إلا لذي غُرْم مُفْظِع، أو دم مُوجع أو فقر مُدْقِع " وهذا المعنى في " الصحيح ".
وفيه أيضا : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه ".
وقال : " ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك "، فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب.
وقال في الحديث: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يُعِفَّه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر " .
وأوصى خواص أصحابه "أن لا يسألوا الناس شيئا".
وفي " المسند " أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد : ناولني إياه، ويقول : "إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً ".
وفي " صحيح مسلم " وغيره عن عوف بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية : " أن لا يسألوا الناس شيئاً "، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد : ناولني إياه .
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)، [ سورة الشرح 7 ].
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس : " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ".
ومنه قول الخليل: (فابتغوا عند الله الرزق)، [ سورة العنكبوت17 ] ، ولم يقل : فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى: ( واسألوا الله من فضله) [ سورة النساء32 ] " اهـ .
أقول: رحم الله شيخ الإسلام وسلفه الشرفاء الكرام ومن سار على نهجهم العظيم في كل الميادين من ثبات على الحق وزهد في الدنيا والمال ومن صدق في الأقوال والأفعال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
قال محمود لطفي معلقاً على هذا الكلام:
"إنني حينما طالعت هذا المقال استشكل عليّ أمور أولها: العنوان (العبودية للمال...)، فهل يا تُرى يقصد الشيخ بعبودية المال تأليه المال، وبالتالي تندرج هذه العبودية مع الشرك الأكبر، فالشيخ لم يفصح ولم يفصل هذا الإجمال، وبالتالي فالأمر على احتمالين أحدهما مرّ ألا وهو الشرك بالله.
إن المطلع على المقال في غالب الحال سيذهب إلى الاحتمال المرّ، خاصة ونحن نعاني من عموم بلوى التكفير، وليس معنى ذلك أن المقال يحث على التكفير أو يشجعه، وإنما قصدي أن الكلام في المقال يحتاج إلى مزيد تفصيل".
أقول:
1- أصل هذا الكلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتُكِس، وإذا شيك فلا انْتُقِش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط".
ولم يبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقصوده من هذه العبودية.
2- روى هذا الحديث الإمام البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه حديث (2886)، (2887)، (6435)، ولم يبين المراد بهذه العبودية.
ورواه الإمام الترمذي في "جامعه" حديث (2375) بلفظ: "لُعِنَ عبد الدِّينَارِ لُعِنَ عبد الدِّرْهَمِ"، من طريق يونس عن الحسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً، وقال عقبه: "هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ من هذا الْوَجْهِ، وقد رُوِيَ هذا الْحَدِيث من غَيْرِ هذا الْوَجْهِ عن أبي صَالِحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا أَتَمَّ من هذا وَأَطْوَلَ".
ولم يبين المراد بهذه العبودية.
ورواه الإمام ابن ماجه من طريقين حديث (4135)، (4136) عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عبد الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وإذا شِيكَ فلا انْتَقَشَ".
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه العبودية.
ورواه الإمام البغوي من طريق عبد الله بن دينار وأبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً، وشرحه لغوياً فقال في "شرح السنة" (14/262):
"ويروى "تعس فلا انتعش ، وشيك فلا انتقش" قوله : " تعس " أي : انكب وعثر ، ومعناه : الدعاء عليه ، أي : أتعسه الله ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : ( فتعسا لهم) [ محمد : 8 ] أي : عثارا وسقوطا ، وإذا سقط الساقط به ، فأريد به الاستقامة ، قيل : لعا له ، وإذا لم يرد به الانتعاش ، قيل : تعسا له . قوله : "وانتكس " يقال : نكست الشيء : إذا قلبته ، والشيء منكوس . والانتعاش : الارتفاع وسمي نعش الجنازة نعشا لارتفاعه . قوله : "فلا انتعش" أي : لا ارتفع ، ويقال : انتعش العليل : إذا أفاق .
وقوله : "شيك فلا انتقش" أي : لا أخرجه من الموضع الذي دخله ، ولا قدر على إخراجه ، ونقش الشوكة : استخراجها ، يقال: شاكه الشوك يشوكه : إذا أصابه ، وشاك يشاك : إذا دخل في الشوك".
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه العبودية.
ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه كما في "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" حديث (8/32) من طريق أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- به مرفوعاً تحت عنوان: "ذكر الزجر عن أن يكون المرء عبد الدينار والدرهم".
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه العبودية.
ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" حديث (2595)، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- به مرفوعاً.
ولم يبين مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه العبودية.
فما رأيك في هؤلاء الأئمة أتلزمهم بما ألزمت به ربيعاً؟ أم لك فيهم رأي آخر؟
إني أنصحك عن المبالغة في الإلزامات التي لا تلزم.
واعرف أن من منهج السلف إيراد أحاديث الوعيد ونحوها دون تفسير لها؛ لتكون هذه الأحاديث أقوى في الزجر والردع لأهل الشهوات والشبهات.
هذا وهم من أشد الناس على الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب.
3- رأيت تهالكاً مخزياً على الأموال التي تجمعها بعض المؤسسات الحزبية باسم الأيتام والفقراء والمنكوبين، فتذهب هذه الأموال إلى من يخدمهم في حرب المنهج السلفي وأهله، فاخترت لهم كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- على هذا الحديث لعلهم يخجلون من التهافت على الأموال التي غالباً ما تكون إلا سحتاً، ولو علم الأغنياء الذين يقدمون أموالهم باسم الفقراء والمساكين والمنكوبين أن هذه الأموال تذهب إلى أولئك المأجورين المحاربين لما قدموها بسخاء.
4- إن في كلام شيخ الإسلام ما يدل على أنه لا يريد بهذه العبودية تأليه المال أو لا يريد بذلك الشرك الأكبر المخرج من الملة، ومن ذلك:
1- قوله: "ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: " الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه".
ثم شرح هذا الأثر بما يبعد القارئ المنصف عن الاحتمال الذي رجحته ألا وهو تأليه المال.
ثم زاد الأمر وضوحاً بما يرمي الاحتمال الذي رجحته بعيداً فقال:
" ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة. وفي النهى عنها أحاديث كثيرة في " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم"، وقوله : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه". وقوله : " لا تحل المسألة إلا لذي غُرْم مُفْظِع، أو دم مُوجع أو فقر مُدْقِع " وهذا المعنى في " الصحيح ".
وفيه أيضا : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه ".
وقال : " ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك "، فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب.
وقال في الحديث: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يُعِفَّه الله، ومن يتصبَّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر " .
وأوصى خواص أصحابه "أن لا يسألوا الناس شيئا".
وفي " المسند " أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد : ناولني إياه، ويقول : "إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً ".
وفي " صحيح مسلم " وغيره عن عوف بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية : " أن لا يسألوا الناس شيئاً "، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد : ناولني إياه .
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)، [ سورة الشرح 7 ].
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس : " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ".
ومنه قول الخليل: (فابتغوا عند الله الرزق)، [ سورة العنكبوت17 ] ، ولم يقل : فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى: ( واسألوا الله من فضله) [ سورة النساء32 ]" اهـ .
وهذه النصوص النبوية التي ساقها شيخ الإسلام في السؤال والمسألة ما يبعد أي احتمال للتكفير المخرج من الملة.
انظر إلى قول شيخ الإسلام مبيناً حكم المسألة بقوله: "ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة".
ولم يقل: ولهذا كانت المسألة شركاً أكبر.
وانظر إلى استدلاله بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحل المسألة إلا لذي غُرْم مُفْظِع، أو دم مُوجع أو فقر مُدْقِع" ليفيدك أن المسألة محرمة على من ذكر في الحديث، وليست شركاً أكبر.
وانظر إلى استشهاده بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك".
ثم بيانه لحكم السؤال والاستشراف بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، يريد كراهية التحريم.
ساق شيخ الإسلام كل هذه الأحاديث مستنتجاً منها التحريم وكراهة التحريم، ولم يستنتج منها التكفير، ثم أكد ذلك بما ساقه بعدها من الأحاديث، ولو تأنيتَ في قراءة هذا الكلام ما خرجت بهذه النتيجة المؤلمة.
ولو كان يريد التكفير والتأليه الذي فهمته لساق آيات وأحاديث تدل على الكفر المخرج عن الملة.
أما أنا فاكتفيتُ بهذه اللفتات والأحكام والاستدلالات التي ساقها شيخ الإسلام خلال هذا الكلام.
ثم إني علقتُ على كلامه بما يناسب كلامه من الدعوة إلى اتباع السلف في الثبات على الحق والزهد في الدنيا والمال، فقلتُ:
" رحم الله شيخ الإسلام وسلفه الشرفاء الكرام ومن سار على نهجهم العظيم في كل الميادين من ثبات على الحق وزهد في الدنيا والمال ومن صدق في الأقوال والأفعال".
فأين احتمال التكفير الذي تخيلته، ثم إن أهل السنة يقرؤون حديث: " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم..." الحديث، ولم يستدلوا به على تكفير أصحاب المطامع الدنيوية، ويقرؤون كلام شيخ الإسلام هذا ولم يستدلوا به على التكفير، ولم يفهموا منه ذلك، وحتى التكفيريين لا أعرف أحداً منهم استدل به على التكفير، ولو فعلوا ذلك أو أحد منهم لتصدى أهل السنة لإبطال استدلالهم من نفس كلام شيخ الإسلام وسياقه والأدلة التي ساقها حول المال.
وأزيد الأمر توضيحاً أن شيخ الإسلام يرى عبودية المال الواردة في حديث " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم..."الخ، من الشرك الأصغر، وينفي أن يكون من الشرك الأكبر، قال -رحمه الله- في بيان الظلم أنه قسمان أكبر وأصغر، وله كلام طويل في هذا.
ثم قال في بيان الأصغر:
"فقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: " ما من صاحب كنـز إلا جعل له كنـزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته أنا مالك أنا كنـزك" وفي لفظ: " إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه "، وقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة )، وفى حديث آخر: " مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لابد له منه أدخل يده في فيه فيقضمها كما يقضم الفحل "، وفى رواية: " فلا يزال يتبعه فيلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده "، وقد قال تعالى في الآية الأخرى: ( والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون ).
وقد ثبت في الصحيح وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " ما من صاحب كنـز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "، وفي حديث أبي ذر: " بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم"، وهذا كما في القرآن، ويدل على أنه بعد دخول النار، فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولا في الموقف. فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه وماله الذي صار عبدا له من دون الله فيعذب به وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار ولهذا قال في آخر الحديث: " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"، فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يدخل الجنة، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " ، قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره"، "مجموع الفتاوى" (7/65-67).
فقد بيّن شيخ الإسلام أن عبودية المال الواردة في هذا الحديث أنها ليست من الشرك الأكبر وإنما هي من الشرك الأصغر.
وحكى عن ابن عباس وأصحابه أنهم قالوا: "كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق " ، يشير إلى معنى قول الله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، وذكر أن هذا مذهب أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره.
وانظر "مجموع الفتاوى" (7/524)، فقد بيّن في هذا الموضع أن الكفر ينقسم إلى أكبر وأصغر، والنفاق ينقسم إلى نفاق أكبر ونفاق أصغر، وأن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر، وساق الأدلة على ذلك.
وهو -رحمه الله- يذكر هذا التفصيل في عدد من كتبه كـ "العبودية" و "مجموع الفتاوى" وكتاب "الاستغاثة".
وكذلك الإمام ابن القيم يذكر هذا التفصيل في كتبه، ومنها "مدارج السالكين" و "الجواب الكافي".
وهذا أمر معروف عند أهل السنة، يعرفه حتى صغار طلبة العلم المعنيين بالعلوم الشرعية وخاصة التوحيد وما ينافي أصله وما ينافي كماله كالحلف بغير الله وقول الرجل ما شاء الله وشاء فلان.
ثانياً- قال الشيخ محمود:
"ثانياً-كما استوقفتني عبارات زادتني حيرة ودهشة، حيث يقول الشيخ –حفظه الله-: "فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله، فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه، ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة"اهـ.
قلت: إن الشيخ –حفظه الله- لم يجعل احتمالين في كلامه السابق، فطلب الرزق من الله هذا من التوحيد، وبالتالي صار العبد موحداً لله، فإذا طلب الرزق من المخلوق كان الوصف عكس الوصف الأول، كما ذكر الشيخ: "عبداً لذلك المخلوق"، وهذا كلام عجيب يحتاج إلى تقييد حتى يستقيم، إذ كيف نصف العبد بالشرك لمجرد أنه يُلح ويحرص –وهي صفات زائدة من عندي لبيان المقصود في أسوء صوره –على طلب الرزق من المخلوق؟ كمن يسعى لمسئول بالطرق المباحة أو الطرق المكروهة وربما الطرق المحرمة لمنحه وظيفة أو مساعدة؟ وقد يقول قائل: إن الشيخ –حفظه الله- لم يصرح بالشرك، ولكن لازم الكلام يؤدي إلى ذلك، بل معناه وليس لازمه يؤدي إلى ذلك "عبداً لذلك المخلوق".
أقول:
1- إن هذا الكلام الذي أدهشك وحيرك ليس هو كلام ربيع وإنما هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-، وهو قد وضح مقصوده، وكان يلزمك التأني.
2- في قول شيخ الإسلام: "ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة"، فترى أن شيخ الإسلام يردد مسألة المخلوق بين التحريم أي في غير حال الضرورة، وبين الإباحة أي في حال الضرورة، ولو كان يعتقد أن مسألة المخلوق في شيء يقدر عليه شركاً أكبر لصرح بذلك، وحاشاه أن يعتقد هذا، وقد وضح مقصوده.
3- ما قولك فيمن يطلب الرزق من المخلوق الميت أو الغائب ما لا يقدر عليه إلا الله مثل أن يقول: يا بدوي أو يا رفاعي أو يا علي أو يا حسين اغنني أو ارزقني وعافني.
أعتقد أن هذا يوجد في اليهود والنصارى والهندوك والمجوس وعباد القبور من الروافض والصوفية الذين يعتقدون أن الأئمة والأولياء يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون، ويجيبون دعاء المضطرين ويكشفون كرب المكروبين، أعتقد فيك أنك ترى هذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، فهل إذا اعتقدت هذا وصرحت به تكون قد فتحت الباب أمام التكفيريين؟
وهل يجب على دعاة التوحيد أن يسكتوا عن بيان الشرك الأكبر والأصغر خشية أن يفتح الباب لأهل التكفير الظالم أو يجب عليهم أن يصدعوا بذلك تبليغاً لرسالات الله إلى جميع الأنبياء ونصحاً لعباد الله وتحذيراً لهم.
ثالثاً- قلت: "وقد يُرد تعليقي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعس عبد الدرهم"، وذاك الذي فسره الشيخ مثل ما جاء في الحديث، قلت: إذن لا زال الإشكال قائماً ما المقصود بعبودية الدرهم هنا؟ هل هي العبودية الشركية أم دونها؟ والشيخ –حفظه الله- لم يوضح.
وهنا يبرز السؤال: ما المقصود بعبودية المال؟ إنها ليست العبودية الشركية؛ لأنه لا يُعلم أن محباً للمال وإن تطرف وغلا في هذا الحب بحلاله أو حرامه قد ألّه المال واعتقد فيه اعتقاد الألوهية، قال تعالى: (وتحبون المال حباً جماً) [الفجر، آية:20]، كما أن الرِّق في الإسلام مشروع، والعبد يُشترى ويباع، ويملكه سيده ويأمره وينهاه، ولم يفهم أحد أن عبودية الرِّق هنا عبودية تأليه، رغم ما صاحب ذلك من طاعة مطلقة للسيد (قبل الإسلام)، ولم يعتبر الأنبياء هذه العلاقة بين العبد وسيده علاقة شرك، وكذلك كان الحال في قريش، فلم يدّعِ أحد أن عبيد أبي جهل كان شركهم في عبادتهم لأبي جهل رغم أنهم يطيعونه طاعة عمياء؛ لأن هذه الطاعة لم تكن طاعة عبادة أو تأليه، ولم ينعت القرآن أو الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسياد قريش بأنهم آلهة.
إذن نخلص من هذا أن العبودية المقصودة في الحديث ليست هي العبودية الشركية التي تخرج صاحبها من الملة، وإنما هي عبودية تملّك غريزي وليس تملك عقيدي؛ أي: تملَّك المال قلب صاحبه، وبناء على ذلك إذا طلب العبد الرزق من الله فهو موحد، وإذا طلب الرزق من المخلوق ويعتقد في المخلوق تأليهاً "كمن يطلب الرزق من البدوي أو الدسوقي أو من شيخ الطريقة صاحب الأسرار الغيبية"، فقد أشرك، وبهذا يستقيم الكلام، ويفهم معنى الحديث، ويرتفع الإشكال، ولقد تعمدتُ أن أعلق على هذا الحديث لأنه متكأ لبعض الدعاة "دون شيخنا الربيع( 1) –حفظه الله-"، حينما نعتوا المعاصي كالتبرج ومشاهدة التلفاز وإدمان الدخان وإدمان مشاهدة كرة القدم فنعتوا ذلك بالصنمية، فادّعوا أن التلفاز صنم، والكرة صنم، والزوجة الحسناء التي تشغل زوجها عن الطاعات صنم..الخ، وبالتالي ابتدعوا شركاً وهمياً شغلوا به الشباب عن الشرك الحقيقي وهو دعاء الأموات، وكانت حجتهم في ذلك الحديث: "تعس عبد الدرهم..."، كما كانت حجتهم الآية في قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية، آية: 23] "راجع تفسير هذه الآية فيما سبق"".
أقول:
1- إن التكفيريين لهم مناهج وأئمة تكفير يتبعونهم ويتمسكون بمناهجهم وهي متكؤهم ، ولا يلتفتون إلى أهل السنة ومنهجهم وأصولهم فكان يجب أن ترد على هؤلاء التكفيريين الذين استدلوا بحديث: "تعس عبد الدينار"، وتبين لهم بطلان استدلالهم من كلام شيخ الإسلام في بيان معنى هذا الحديث، وتبين منهج أهل السنة في هذا الحديث وأمثاله وفي الآية المذكورة، كان يجب عليك أن تقوم بهذا بدل أن تحمل كلام شيخ الإسلام ما لا يحتمل.
2- ثم ها أنت ذا تصرح بأن طلب الرزق من البدوي أو الدسوقي ..الخ شرك، فلماذا تصرح بهذا الشرك وأنت تتصور أنه سيترتب على هذا التصريح أمران:
أولاً: فتح الباب للتكفيريين، وثانياً: سيصفك الصوفية وأمثالهم بأنك تكفر المسلمين وأنك من الخوارج، وما أكثر هؤلاء في العالم الإسلامي الذين يصفون دعاة التوحيد بأنهم يكفرون المسلمين، ولهم مؤلفات في ذلك، فهل يلزمهم السكوت ومجارات الناس خشية أن يوصفوا بأنهم تكفيريون.
3- فاتك أن هناك شركاً أكبر يخرج من الملة وشركاً أصغر لا يخرج من الملة كالحلف بغير الله وقول الرجل ما شاء الله وشئت ونحو ذلك مما وردت به السنة وقرره العلماء، وهذا شيء لا أدري أغفلته عمداً أو ذهلت عنه.
ثالثاً- قال الأخ محمود لطفي في (ص153) من كتابه هذا:
"وجاء في كتاب "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل" عبارة منقولة عن ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" ما يلي:
"وقد قرّر ذلك علماء الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتلميذه ابن القيم.
فمن يلتزم بهذه الحاكمية في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات وفي السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع فهو المؤمن، ومن لا يلتزمها في الكل أو في البعض فهو الكافر، فرداً كان أو جماعة، حاكماً أو محكوماً داعية أو مدعواً...".
قلت: كان ينبغي على شيخنا العلامة ربيع بن هادي أن يوضح هذه العبارة لابن القيم أو يقيدها، فهو يعلم أكثر مني مدى انتشار فكر التكفير بصفة عامة، وتكفير الحكام بصفة خاصة بين قطاع كبير من المتدينين على اختلاف مشاربهم، فالقول فيمن لا يلتزم في الكل أو في البعض من حاكمية الله في أصول الدين وفروعه بأنه كافر فرداً أم جماعة حاكماً أو محكوماً فيه ذريعة للتكفيريين".
أقول:
أولاً- لقد ابتدأ الشيخ محمود في نقل الكلام عني من حيث لا يجوز له الابتداء، وهذا نص كلامي حيث قلتُ:
"قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم)، فلا ينكر هذه الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر بالله شديد العداوة لله ولرسوله وكتبه، بل حتى من يجحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفرعية فضلاً عن الأصول يكون كافراً بالله خارجاً عن دائرة الإسلام إذا كان جحده لها عن علم، أما الجاهل فيعذر حتى تقام عليه الحجة.
هذا الذي أقوله يجري في حق الحكام والمحكومين والأفراد والجماعات.
وقد قرّر ذلك علماء الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتلميذه ابن القيم"( 2).
فالإشارة بقولي: "وقد قرر ذلك" تعود إلى هذا الكلام الواضح الجلي الذي غفل عنه محمود أو أغفله، وبهذا البيان يسقط اعتراض محمود، ويتحمل مسئولية هذا التصرف العجيب.
فما رأيه وغيره فيمن يجحد حاكمية الله؟ ثم إن الكلام الذي نقله محمود مقتصراً عليه إنما هو مبني على الكلام السابق الذي أغفله وذكرته للقارئ بنصه.
ثانياً- إني لم أنقل عبارة ابن القيم -رحمه الله-، وإنما هو كلامي وإنما قررت فيه أن الحاكمية لله، وأنه لا ينكر حاكمية الله ويجحدها إلا كافر، قلت هذا ردا على من افترى عليّ أنني أفصل بين الدين والدولة وأنني أنازع في الحاكمية، يقول هذا الأفاك هذا الكلام وهو يعلم أنني تكلمت على حاكمية الله في كتابي "منهج الأنبياء"( 3) وبينتُ أن حاكمية الله عامة وشاملة للعقائد والعبادات والسياسة والاقتصاد على خلاف منهج السياسيين الذين يحصرون حاكمية الله في السياسة، وينسون حاكمية الله الشاملة للعقائد وغيرها مما ذكرته في كتابي المذكور، ثم قلت بعد شيء من التفصيل: "هذا الذي أقوله يجري في حق الحكام والمحكومين والأفراد والجماعات.
ثم قلت: " وقد قرّر ذلك علماء الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتلميذه ابن القيم".
ثم أشرت إلى كلام هذين الإمامين في الحاشية حيث قلت: (1): "منهاج السنة النبوية" (3/32) فما بعدها"، حيث بيّن أن من لم يلتزم بحاكمية الله فهو كافر، وبيّن أن ذلك في الأمور العلمية والعملية.
وأشرت في الحاشية برقم (2) إلى مدارج السالكين (1/336)، فظن الأخ محمود أن قولي" "فمن يلتزم بهذه الحاكمية في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات وفي السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع فهو المؤمن، ومن لا يلتزمها في الكل أو في البعض فهو الكافر، فرداً كان أو جماعة، حاكماً أو محكوماً داعية أو مدعواً...".
ظن محمود أن هذا كلام ابن القيم فقال:
"قلت: كان ينبغي على شيخنا العلامة ربيع بن هادي أن يوضح هذه العبارة لابن القيم أو يقيدها، فهو يعلم أكثر مني مدى انتشار فكر التكفير بصفة عامة، وتكفير الحكام بصفة خاصة بين قطاع كبير من المتدينين على اختلاف مشاربهم، فالقول فيمن لا يلتزم في الكل أو في البعض من حاكمية الله في أصول الدين وفروعه بأنه كافر فرداً أم جماعة حاكماً أو محكوماً فيه ذريعة للتكفيريين".
أقول: إن هذا الكلام إنما هو كلامي، وليس بكلام ابن القيم، فهذا ذهول منه وتسرع.
ثم قال: "بل كان ينبغي أن تنقح العبارة بما يلي:
فمن لم يعتقد بحاكمية الله في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات.. فقد كفر وليس مجرد عدم الالتزام (أي: العمل) ببعض الفروع يوجب الكفر كما يفهم من كلام ابن القيم ووافقه الشيخ ربيع على ذلك، وهذا من باب الشيء بالشيء يذكر، خاصة وأنني قد بحثت سابقاً مسألة الحاكمية في المبحثين الرابع والخامس".
أقول: وهذا من الأخ محمود ذهول عجيب، ففي كلامي ما يدفع تعلق التكفيريين ويدفع اعتراضه هذا.
وأنا مضظر لإعادة بعض ما سلف من الكلام.
حيث قلت قبل هذا الكلام مباشرة: قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم)، فلا ينكر هذه الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر بالله شديد العداوة لله ولرسله وكتبه، بل حتى من يجحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفرعية فضلاً عن الأصول يكون كافراً بالله خارجاً عن دائرة الإسلام إذا كان جحده لها عن علم، أما الجاهل فيعذر حتى تقام عليه الحجة.
فالنكران والجحود ضد الإيمان والانقياد المفهومان مفهوم مخالفة للجحود والنكران الواردين في كلامي يمنعان الاعتراض.
قلت في السياق نفسه:
"وإني لأدعو الأمة جميعها حكامها ومحكوميها أفرادها وفرقها وأحزابها أن يؤمنوا جميعاً حق الإيمان بحاكمية الله العامة الشاملة لأصول الدين وفروعه وأن يلتزموها كل الالتزام".
فقولي: "أن يؤمنوا بها حق الإيمان"، أفضل وأقوى من عبارة محمود لطفي التي أراد بها تصحيح كلامي وتوضيحه، ألا وهي قوله: " فمن لم يعتقد بحاكمية الله في أصول الدين وفروعه في العقائد والعبادات والمعاملات.. فقد كفر".
ثم قال: "وليس مجرد عدم الالتزام (أي: العمل) ببعض الفروع يوجب الكفر كما يفهم من كلام ابن القيم ووافقه الشيخ ربيع على ذلك".
أقول: إن تفسيره للالتزام بالعمل خطأ، فإن العمل هو أثر الالتزام القلبي إن كان هذا الالتزام قوياً قوي التطبيق والعمل، وإن كان ضعيفاً ضعف التطبيق والعمل.
ولفظ الالتزام الذي أوردته إنما هو تأكيد للإيمان المذكور في كلامي، وتأكيد لقولي: "فلا ينكر هذه الحاكمية ولا يجحدها إلا كافر بالله"، وهو عندي يقوم مقام الإيمان أو الاعتقاد الذي ذكره الأخ محمود، فاندفع الاعتراض القائم على التسرع من وجوه كما ترى.
معنى الالتزام في اللغة:
قال في "المعجم الوسيط" في مادة "لزم":
"...ألزم الشيء أثبته وأدامه و__( 4) فلانا الشيء أوجبه عليه، ويقال: ألزمه المال والعمل والحجة وغير ذلك، ويقال: ألزمه به وألزمت خصمي: حججته.
وقال الإمام ابن قدامة في الروضة:
" أقسام أحكام التكليف خمسة واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور".
علق عليه العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بقوله: "التكليف لغة هو إلزام ما فيه كلفة أي مشقة"، الشاهد منه أن التكليف يفسر لغة بالإلزام، فالله يكلف عباده بتكاليف أي يلزمهم بها، أي يوجبها عليهم، واستجابة العباد لهذه التكاليف وخضوعهم لها يقال له التزام.
ثم قال العلامة الشنقيطي:
وحده (أي التكليف) في الاصطلاح: قيل: إلزام ما فيه مشقة، وقيل: طلب ما فيه مشقة.
فعلى الأولى لا يدخل في حده إلا الواجب والحرام؛ إذ لا إلزام بغيرهما، وعلى الثاني يدخل معهما المندوب والمكروه؛ لأن الأربعة مطلوبة.
وأما الجائز فلا يدخل في تعريف من تعاريف التكليف" ، انظر "مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر" للعلامة الشنقيطي (ص30-31).
وقد قدمنا أن الاستجابة والخضوع للتكليف الإلهي هو الالتزام.
وممن يطلق الالتزام بمعنى الاعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال في "منهاج السنة النبوية" (3/32-33): "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينـزلها الله كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمره.
وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) ( سورة النساء59).
وقال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنـزلة أمثاله من العصاة.
وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله وقد تكلم الناس بما يطول ذكره ها هنا وما ذكرته يدل عليه سياق الآية.
والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد والحكم بما أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل من اتبعه.
ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر.
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات) [سورة البقرة 213].
وقال تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) [سورة الشورى 10]، وقال: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [سورة النساء 59]، فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك.
ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله وإن لم يكن فما في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافة فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار.
وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجهين".
أقول:
1-انظر إلى قوله: "فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمره".
2- وقوله بعد الاستدلال بالآيتين الموجبتين للاحتكام إلى الله والرسول: " فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنـزلة أمثاله من العصاة".
فقوله: " فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن".
انظر كيف جعل الالتزام قائماً مقام الاعتقاد لا العمل، وقال عن المعتقد بقلبه بوجوب الاحتكام إلى الله ورسوله باطناً وظاهراً: "لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنـزلة أمثاله من العصاة" ، يعني أن هذا النوع من الناس المقصرين عملياً لا يعدون من الكافرين الكفر المخرج من الملة، فالالتزام عنده مغاير للعمل بخلاف ما ذهب إليه الأخ محمود.
3- وانظر إلى قوله: " والحكم به (أي بما أنزل الله) واجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر.
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية...الخ.
الشاهد من كلامه أنه يعبر بالالتزام عن الاعتقاد.
فلقد أطلق الاعتقاد في كلامه الطويل مرة واحدة، وأطلق الالتزام مرات.
وبكل ما سبق من كلام شيخ الإسلام وأهل اللغة والأصول يظهر سقوط اعتراض محمود لطفي.
وأهل السنة جميعاً يعتقدون أن كل واحد كائناً من كان يؤخذ من كلامه ويترك غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرد خطؤه، ولكن يجب أن يكون الرد بعلم وبعدل وإخلاص لله رب العالمين ومراقبة لله رب العالمين، قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، وقال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً للإخلاص لوجهه الكريم والعدل في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
10/10/1431هـ
----------------
الحواشي:
1 - ودون أهل السنة جميعاً.
2 - "منهج الأنبياء" (ص23) الطبعة الثانية، مكتبة الغرباء، والكلام الذي نقله محمود في بداية (ص24)، وهو مبني على الكلام الأول وتأكيد له، فليتأمل المنصف.
3 - انظر هذا البيان في (ص173-174)، الطبعة الثانية.
4 - حذف هنا لفظ ألزم اختصاراً يريد ألزم فلانا الشيء.
عن شبكة شحاب السلفية
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=381705