أبوعبدالرحمن محمد جريفي
10-05-2010, 11:44 AM
هجران أهل البدع لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ـ حفظه الله ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة :
اللون الأحمر : كلام ابن قدامة رحمه الله
اللون الأسود : شرح الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ـ حفظه الله ـ
ومن السنة هجران أهل البدع
قال رحمه الله : ( ومن السنة ) أي : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي طريقته عليه الصلاة والسلام في أقواله وأفعاله وتقريراته ، هذا هو المراد بالسنة هاهنا ، وليس المراد بالسنة المستحب ؛ لأن هجران أهل البدع واجب وليس بمستحب فقط ، وإنما هو واجب .
والسنة في الأصل تطلق ويراد بها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تطلق ويراد بها المستحب ، ولكن الغالب أن المراد بها المعنى الأول ، فإذا قيل : من السنة كذا ، فمعناه أنه من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
( هجران أهل البدع ) الهجران : معناه الترك ، ومنه الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فرارا بالدين ، سميت هجرة لأنها ترك للأوطان من أجل الفرار بالدين من الفتنة ، قال تعالى : (( والرجز فاهجر )) [ المدثر : 5 ] والرجز : الأصنام ، واهجر : يعني اترك ، أي : أترك الأصنام وعبادتها وأهلها ، وقال عليه الصلاة والسلام : " والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " يعني ترك ما نهى الله عنه ، فالهجرة ترك ، وهجران أهل البدع يعني ترك مصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم والتعلم منهم ، إلا على طريق المناصحة والبيان ، وأما على طريق المؤانسة والمحبة فإن هذا لا يجوز ؛ لأن فيه رضا بما هم عليه من البدع وتشجيعا لهم ، وفيه إقرار لهم على ماهم عليه ، والواجب هجرهم حتى يعرف الناس شرهم ويبتعدوا عنهم ؛ لأن الغالب أن المبتدع لا يقبل النصيحة ، ولا يتوب إلى الله عز وجل لأنه يرى أن ما هو عليه هو الحق ، يزينه له الشيطان ، فقلّ أن يقبل النصيحة وقلّ أن يتوب ، ولهذا جاء في الأثر أن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية ، لأن المبتدع لا يتوب عن بدعته ، وأما العاصي فإنه يعلم أن ما فعله حرام ، فيكون خجلا ، يوبخ نفسه ثم يتوب إلى الله ـ عز وجل ـ إنه قريب من التوبة ، خلاف المبتدع فإنه يرى أن ماهو عليه هو الحق فلا يرجع عن بدعته ، ويرى أن ماهو عليه مشروع .
والبدعة : هي إحداث شيء في الدين ليس منه على سبيل التقرب إلى الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم :" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . وفي رواية :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال عليه الصلاة والسلام :" عليكم بسنتي وبسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " .
إن الله تعالى لا يرضى أن يتقرب إليه إلا بما شرع ؛ لأن الدين كمل ـ ولله الحمد ـ (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) [ المائدة 3 ] فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أكمل الله به الدين ، فلم يبق مجال للزيادات والإستحسنات ، فمن ابتدع فقد اتهم الدين بأنه ناقص ، وكذب قوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم )) .
والبدعة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : بدعة أصلية : كأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الدين ، كإحداث بدعة الإحتفال بالمولد ، هذه لا أصل لها في الدين ، لا موالد الرسل ولا موالد غيرهم من الأولياء والصالحين ، وإن حسنوها ورغبوا فيها وأشاعوا بأنها خير ، هي بدعة وشر ، هي شر وإن قالوا : إنها بدعة حسنة ، لأن هذا مصادم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " فالبدع كلها ضلالة بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالذي يدعي أن هناك بدعة حسنة مكذب لله ولرسوله ، ليس في الدين بدعة حسنة بل الدين ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، أما البدع فإنها من أهواء الشياطين .
وإذا فتحنا المجال تغير الدين بهذه الطريقة ، كل يحدث ما يستحسن وكل يعمل ما يشاء ثم يقضى على السنن ، ولا تجتمع السنن والبدع كما جاء في الحديث :" ما أحدث الناس بدعة إلا رفع مثلها من السنة " فيتحول الدين من سنن إلى بدع ومحدثات ، فلا يفتح المجال أبدا للبدع ولا يتساهل فيها أبدا .
القسم الثاني : بدعة نسبية : بأن أصل الشيء مشروع لكن يخصص بزمان أو بمكان لم يشرعه الله ولا رسوله ، مثلا صيام بعض الأيام خاصة ، مثل صيام يوم النصف من شعبان أو صيام شهر رجب ، تخصيص رجب بالصوم أو صيام النصف من شعبان بدعة ، الصيام أصله مشروع لكن إضافة تخصيص الوقت بدون دليل ، بأن تخصص وقتا للصوم بدون دليل أو تخصص مكانا للعبادة بدون دليل ، هذه بدعة في الدين ما أنزل الله بها من سلطان ، أو تخصص مكانا أو زمانا للعبادات الشرعية هذا لا أصل له في الدين ، وهو يكون بدعة إضافية ؛ لأنك أضفت إلى العبادة المشروعة ، شيئا من البدعة ، وسواء كانت البدعة أصلية أو كانت إضافية فإنها مردودة إلى صاحبها ويجب التحذير منها ومن أصحابها .
جاء أبو موسى رضي الله عنه وكان أميرا على الكوفة ، إلى ابن مسعود وكان هو المفتي في الكوفة والقاضي ، فقال : يا أبا عبد الرحمن رأيت شيئا استنكرته ، قال : وما هو ؟ قال : سوف تراه ، فذهبا إلى المسجد فوجدا قوما مجتمعين وعندهم أكوام من الحصى وفيهم واحد يقول لهم : سبحوا كذا وكذا ، ويعدون من الحصى ، هللوا كذا وكذا ، كبروا كذا وكذا . ويكبرون ويهللون و يسبحون ويعدون بالحصى أعدادا معينة كذا وكذا فوقف عليهم ابن مسعود فقال : لأنتم أهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنتم مبتدعون بدعة عظيمة ، قالوا : وما ذاك يا أبا عبد الرحمن ، نحن نذكر الله ونريد الخير ، قال : وكم مريد للخير لا يدركه ، ثم أنكر عليهم هذا العمل .
التسبيح والتهليل والتكبير مطلوب ، لكن بدون هذه الصفة ، بدون هذا الإجتماع ، وبدون عدد محدد إلا بدليل ، التهليلات والتسبيحات والتكبيرات لا تحدد إلا بدليل من الرسول صلى الله عليه وسلم . فأنكر عليهم رضي الله عنه هذه الصفة مع أنهم يذكرون الله في المسجد ، لكن هذه الصفة التي أحدثوها هي البدعة ، لم ينكر عليهم الذكر ، ولكن أنكر عليهم هذه الصفات المحدثة ، وغلظ عليهم في ذلك ، وأنكر عليهم وفرقهم . قال الراوي : فرأيت هؤلاء أو كثيرا منهم يطاعنوننا في النهروان . بدعتهم تحولت بهم إلى مذهب الخوارج حيث قاتلوا أهل السنة في وقعة النهروان ، التي كانت بين أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وبين الخوارج ، صاروا مع الخوارج . هذا مآل البدعة ـ والعياذ بالله ـ وكيف تذهب بصاحبها .
فمن طريقة أهل السنة ، هجران أهل البدعة حتى يرتدعوا عن بدعتهم ؛ لأن في عدم هجرتهم تشجيعا لهم وإقرارا لهم وتغريرا بالناس أيضا أن ينخدعوا بهم ، فإذا هجرهم أهل العلم والقدوة فالناس يتركونهم ، وهم أيضا يخجلون أمام الناس ، ولهذا كانت البدع مغمورة في عهد الصحابة والقرون المفضلة ، وإنما ظهرت بعد القرن الرابع ، بعد مضي القرون المفضلة ظهرت البدع في الناس . ولا يقال ما يقوله بعض الجهال الآن : إن المبتدع تذكر حسناته ، ويبين ما عنده من البدع ، وما يسمونه الموازنات .
فهذا فيه ترويج للبدع ، نحن لم نؤمر بعد الحسنات ، هذا إلى الله سبحانه وتعالى ، ثم ما الذي يدرينا عن حسناتهم ، وأنها حسنات عند الله ، ما الذي يدرينا عنها ؟ لم نؤمر بهذا ، وإنما أمرنا أن ننبه على الخطأ ليجتنبه الناس وليتوب المخطئ إلى الله ـ عز وجل ـ إذا أراد الله به خيرا ، أما أن تذكر حسانته ومزاياه فهذا يهون البدعة عند الناس .
( ومباينتهم ): يعني مفارقتهم وعدم مصاحبتهم ومجالستهم ، من أجل أن يحذرهم الناس ومن أجل أن يخجلوا هم ، ويكونا ضعفاء في المجتمع ، كما كان ذلك في عهد القرون المفضلة ، كان المبتدعة مغمورين لا قيمة لهم ، ولا يؤبه بهم ، وإنما ظهروا بعد مضي القرون المفضلة .
( وترك الجدال والخصومات في الدين ) :
كذلك من السنة ترك الخصومات في الدين ، الدين ولله الحمد واضح بينه الله ورسوله ، والواجب علينا الإمتثال والعمل ، ولا نتخاصم في أمور العبادات وأمور الدين ، ونناقش لماذا شرع الله كذا ؟ ولما أمر الله بكذا ؟ وما هي الفائدة في كذا ؟ كما يفعل بعض الناس ، يمضون وقتهم في هذه الأمور لماذا كذا ولماذا كذا ؟ ما الحكمة في كذا ؟ كأنه عنده شك ، فالواجب الإمتثال ، إذا صح الدليل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فواجبك الإمتثال وترك الجدال والخصومة (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمر أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )) [ الأحزاب : 36 ] ، إن عرفت الحكمة فالحمد لله ، وإن لم تعرفها فلست بمكلف بالبحث عن الحكمة ، أنت مكلف بمعرفة الدليل ، وما دام قد عرفت الدليل ، وجب عليك الإمتثال ، ولا يتوقف امتثالك على معرفة الحكمة .
هذا سبيل المؤمنين ، أما سبيل أهل الشك وأهل الضلال فهو الجدال والخصومات والنقاش مع أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وإضاعة الوقت في هذه الأمور ، وتنقص الأوامر والنواهي عندهم ، فهذا من عمل الشيطان ـ والعياذ بالله ـ فهذا في الجدال الذي لا فائدة من ورائه ، أما الجدال الذي فيه فائدة في إظهار الدين ورد الشبه فهذا واجب ، قال تعالى لنبيه : (( وجادلهم بالتي هي أحسن )) [ النحل 115 ] (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم )) [ العنكبوت 46 ] فالجدال إذا كان المقصود منه إظهار الحق ، وقمع الباطل ، ورد الشبه ، فهذا جدال محمود ، لأنه لبيان الحق وحماية الدين ، أما الجدال الذي يقصد منه التعسف والتكلف وإظهار الشخصية عند الناس ، فهذا لا يجوز لأنه لا فائدة من ورائه بل يوغر الصدور ويوقع العداوة بين الناس .
فالجدال الذي لا فائدة من ورائه منهي عنه .
في عهد عمر ظهر رجل يقال له صبيغ كان يجادل في بعض الأمور ، يسأل عن متشابه القرآن ، فاستدعاه عمر رضي الله عنه وضربه ثم أجلاه من المدينة حتى تاب إلى الله عز وجل ورجع عن ما هو عليه . هذا دليل على أن الذي ليس له هم إلا الجدال والمناقشات في أمور العبادات والتشكيك في أمور الدين ، أن هذا رجل سوء ، ينبغي أن يؤدب ويمنع من هذه الأمور والتظاهر بها أمام الناس .
ويدخل في ذلك ما يعمله بعض الجهال الآن من التشكيك في الأحاديث وتضعيفها ، ويبثون هذا بين الناس والعوام ، العوام ما مصلحتهم في هذا ؟ هذا يشكك الناس في أمور الدين ويشككهم في السنة لا يظهر هذا أمام الناس وأمام الجهال والمبتدئين في طلب العلم ، هذا إنما يكون من شئون العلماء المتخصصين في أمور الجرح والتعديل وأمور الشريعة ، ويكون بينهم ، ولا يظهر للناس وأمام الناس ، فيجب الحذر من هذه الطريق .
( وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم ):هذا عود على ما سبق ، فإذا كان الواجب هجر المبتدع فإنه يجب هجر كتبهم أيضا ، لأنهم ربما يكونون قد ماتوا وليس هم بين أظهرنا ، ماتوا ولكن كتبهم بقيت ، وكثير من كتب المبتدعة باقية ، فلا يجوز للإنسان المبتدئ الذي ليس عنده أهلية أن يطلع على هذه الكتب ؛ لأنه يغتر بما فيها وتروج عليه ، أما الإنسان المتمكن في العلم ، الراسخ في العلم ، فإن له أن يطلع على هذه الكتب من أجل أن يرد عليها ويحذر الناس مما فيها ، أما من ليست عنده أهلية علمية يعرف بها الحق من الباطل والخطأ من الصواب فليس له أن يطالع في كتب أهل البدع وكتب الفرق الضالة ، لئلا تدخل في فكره وفي عقيدته لأنه جاهل . هي قد يكون لها بريق ولها عبارات رشيقة تضر الإنسان الذي ليس عنده بصيرة ، لأن الغالب أن أهل الجدل يعطون الفصاحة والشقاشق[[ أورد الزبيدي في تاج العروس ( 25/ 521 )ـ شقق ـ مايلي : وفي حديث عمر رضي الله عنه أن رجلا خطب فأكثر ، فقال عمر : " إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان " أي يتكلم به الشيطان ؛ لما يدخل فيه من الكذب والباطل . وقال الأزهري : شبه الذي يتفيهق في كلام ويسرده سردا ، لا يبالي ما قال من صدق أو كذب بالشيطان وإسخاطه ربه . ويقال للماهر بالكلام هو أهرت الشقشقة ، وجمع الشقشقة: شقاشق . ]] .
من أجل الفتنة والعياذ بالله قال الله ـ جلا وعلا ـ في المنافقين (( وإن يقولوا تسمع لقولهم )) [ المنافقون : 4 ] لأنهم يحسنون القول ، والحجج ، ويحسنون صياغة الألفاظ ، وهم منافقون في الدرك الأسفل من النار . والشاعر يقول :
في زخرف القول تزيين لباطله ـ ـ ـ ـ ـ والحق قد يعتريه سوء تعبير .
يقول الله عز وجل : (( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) [ الأنعام 112 ] .
فالزخرف أصله التزيين والتنميق ، فأصحاب الضلال في الغالب عندهم تزويق للعبارات وتنميق في خطبهم وفي محاضراتهم وفي كتبهم ، فإذا سمعها أو قرأها الإنسان الجاهل انطلت عليه وتمكنت من القلب ، فلذلك يحذر من مطالعة كتب أهل البدع ، والإستماع إليهم في دروسهم أو محاضراتهم أو برامجهم ، يحذر الإنسان من الإستماع إليهم إلا على وجه يريد الإنكار عليهم وهو يقدر على ذلك ، ويعرف الحق من الباطل .
فهذا مقتضى التعامل مع أهل البدع وكتبهم ، بعض الناس يقولون : اطبعوا كتبهم وروجوها لأجل الثقافة ، وهذه آرائهم والناس أحرار في آرائهم وفي أن يبدوا ما عندهم . نقول لهم : هذا لا يجوز لأنه فتح باب شر على المسلمين ، بل يجب أن تصادر كتب أهل البدع وكتب أهل الضلال ، أن تصادر من أسواق المسلمين ومن مكتباتهم ومن متناول أيديهم ؛ لأنها سموم مثل ما يحجر على الناس في السموم ، وتمنع السموم من الإنتشار ، فهذه الكتب أضر ـ والعياذ بالله ـ كذلك كما يحمى الناس ويحجر على المرض من أجل صحة أبدانهم ، فهذا أولى أن يحجر عليه ؛ لأن السم يغير الأبدان ، وكتاب الضلال يغير الإيمان والعقول ، فهو أخطر وأشد فيجب الحجر عليه من أجل سلامة الدين والعقيدة .
فلا نتساهل في كتب أهل البدع وكتب أهل الضلال ونقول : هذه ثقافة ، والإنسان يصبح عنده اتساع فكر وعقل لا يضيق ، هذا كله من الدعاية للباطل . فالواجب أن يحذر من أهل البدع ، ويحذر من سماع كلامهم ، ويحذر من كتبهم ، بقاء كتبهم من بعدهم بلية ، لا نقول : إنهم ماتوا وذهبوا ، هم وإن ماتوا بأبدانهم إلا أن أفكارهم موجودة في هذه الكتب ولها باعة وزبائن يروجونها . فيجب الحذر من ذلك غاية الحذر ، فإنها خطر يهدد المسلمين .
( وكل محدثة في الدين بدعة ):
لما حذر من البدع والمبتدعة أراد أن يبين ما هي البدعة ؟ قال : ( كل محدثة بدعة ) لأن الدين لا يقبل البدع ، الدين هو ما شرعه الله ورسوله فقط ، ولا يقبل ما شرعه فلان أو قاله فلان إلا بدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كل محدثة في الدين فإنها بدعة .
أما المحدثات في أمور العادات وأمور المنافع فالأصل فيه الإباحة ـ والحمد لله ـ حدث أشياء من الصناعات والإختراعات لم تكن موجودة من قبل ، لا نقول : إن هذه بدع ، بل نقول هذه مما أباحها الله سبحانه وتعالى ؛ لأن هذه ليست من أمور الدين هذه من أمور العادات وأمور المصالح التي خلقها الله لعباده ، فنحن نركب الطائرة والسيارة والباخرة ونستعمل مكبرات الصوت والمسجلات ، كل هذه مخترعات ليست من الدين إنما هي وسائل نفع للناس ، ومن استخدمها في الخير ، صارت نعمة وعونا على طاعة الله ، ومن استعملها في الشر فهذه من سوء تصرفه ، وإلا فهي مصالح للناس .
فالحاصل أن البدع هي ما أحدث في الدين ، أما ما أحدث في أمور العادات وأمور الصناعات وأمور الدنيا ، هذه ليست من البدع .
الصحابة كانوا يجاهدون بالرمح وبالسهام والنبل والسيوف ، والآن حدث ما تعلمون من الأسلحة المتطورة ، الصواريخ والطائرات والدبابات والقنابل ، حدث أشياء لم تكن موجودة من قبل ، هل نقول هذه بدع ولا نريدها ؟ لا .. يجب علينا أن نأخذ ما يعيننا على قمع عدونا ، قال تعالى (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل )) [ الأنفال 60 ] من قوة : هذه نكرة في سياق الأمر ، فتعم كل قوة وفي كل وقت بحسبه وإمكانيته . ولو بقينا على الرمح والنبل والسيف مع وجود هذه الأسلحة المدمرة والفتاكة لما أغنت عنا شيئا ، يمكن أن تدفع شيئا يسيرا ، لكن لا تدفع هجوم العدو ، وقوة العدو لا تدفع إلا بمثلها أو أشد منها ، ولهذا قال ـ جل وعلا ـ (( وأعدوا لهم ما استطعتم )) قال : ما استطعتم ، ولم يحدد (( من قوة ومن رباط الخيل )) لأن الخيل فيها الخير إلى يوم القيامة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " فهي (( ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )) [ الأنفال 60 ] هناك أعداء مندسون بيننا لا نعلمهم ، إذا أعددنا القوة أغظنا العدو الخارجي والعدو الداخلي ، أما إذا لم نعد القوة فرح العدو الخارجي والعدو الداخلي فلا بد من القوتين : قوة الحجة ، وذلك بالعلم النافع ، وقوة السلاح وذلك بإعداد آلات الجهاد ، وذلك المتطورة في كل زمان بحسبه ، قال تعالى : (( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم )) [ التوبة 73 ] . أما المنافقون فإنهم يجاهدون بالحجة واللسان، وأما الكافرون ، فإنهم يجاهدون بالسيف والسنان .
( وكل متّسم بغير الإسلام مبتدع ) : ومن البدع أيضا : التسمي بغير الإسلام والسنة ، كالذي ينتسب إلى مبدأ أو إلى مذهب أو إلى شخص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالإنتساب إنما يكون إلى أهل السنة والجماعة والإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الإنتساب الصحيح ، أما الإنتساب لأهل الفرق والنحل والمذاهب والمبادئ المخالفة للكتاب والسنة فإن هذا ضلال .
المصدر :
شرح لمعة الإعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة ـ رحمه الله ـ
تأليف : فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ـ حفظه الله ـ ( ص 270 )
منقول (http://www.noor-alyaqeen.com/vb/t14281/)
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة :
اللون الأحمر : كلام ابن قدامة رحمه الله
اللون الأسود : شرح الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ـ حفظه الله ـ
ومن السنة هجران أهل البدع
قال رحمه الله : ( ومن السنة ) أي : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي طريقته عليه الصلاة والسلام في أقواله وأفعاله وتقريراته ، هذا هو المراد بالسنة هاهنا ، وليس المراد بالسنة المستحب ؛ لأن هجران أهل البدع واجب وليس بمستحب فقط ، وإنما هو واجب .
والسنة في الأصل تطلق ويراد بها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تطلق ويراد بها المستحب ، ولكن الغالب أن المراد بها المعنى الأول ، فإذا قيل : من السنة كذا ، فمعناه أنه من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .
( هجران أهل البدع ) الهجران : معناه الترك ، ومنه الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فرارا بالدين ، سميت هجرة لأنها ترك للأوطان من أجل الفرار بالدين من الفتنة ، قال تعالى : (( والرجز فاهجر )) [ المدثر : 5 ] والرجز : الأصنام ، واهجر : يعني اترك ، أي : أترك الأصنام وعبادتها وأهلها ، وقال عليه الصلاة والسلام : " والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " يعني ترك ما نهى الله عنه ، فالهجرة ترك ، وهجران أهل البدع يعني ترك مصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم والتعلم منهم ، إلا على طريق المناصحة والبيان ، وأما على طريق المؤانسة والمحبة فإن هذا لا يجوز ؛ لأن فيه رضا بما هم عليه من البدع وتشجيعا لهم ، وفيه إقرار لهم على ماهم عليه ، والواجب هجرهم حتى يعرف الناس شرهم ويبتعدوا عنهم ؛ لأن الغالب أن المبتدع لا يقبل النصيحة ، ولا يتوب إلى الله عز وجل لأنه يرى أن ما هو عليه هو الحق ، يزينه له الشيطان ، فقلّ أن يقبل النصيحة وقلّ أن يتوب ، ولهذا جاء في الأثر أن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية ، لأن المبتدع لا يتوب عن بدعته ، وأما العاصي فإنه يعلم أن ما فعله حرام ، فيكون خجلا ، يوبخ نفسه ثم يتوب إلى الله ـ عز وجل ـ إنه قريب من التوبة ، خلاف المبتدع فإنه يرى أن ماهو عليه هو الحق فلا يرجع عن بدعته ، ويرى أن ماهو عليه مشروع .
والبدعة : هي إحداث شيء في الدين ليس منه على سبيل التقرب إلى الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم :" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . وفي رواية :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال عليه الصلاة والسلام :" عليكم بسنتي وبسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " .
إن الله تعالى لا يرضى أن يتقرب إليه إلا بما شرع ؛ لأن الدين كمل ـ ولله الحمد ـ (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) [ المائدة 3 ] فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أكمل الله به الدين ، فلم يبق مجال للزيادات والإستحسنات ، فمن ابتدع فقد اتهم الدين بأنه ناقص ، وكذب قوله تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم )) .
والبدعة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : بدعة أصلية : كأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الدين ، كإحداث بدعة الإحتفال بالمولد ، هذه لا أصل لها في الدين ، لا موالد الرسل ولا موالد غيرهم من الأولياء والصالحين ، وإن حسنوها ورغبوا فيها وأشاعوا بأنها خير ، هي بدعة وشر ، هي شر وإن قالوا : إنها بدعة حسنة ، لأن هذا مصادم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " فالبدع كلها ضلالة بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالذي يدعي أن هناك بدعة حسنة مكذب لله ولرسوله ، ليس في الدين بدعة حسنة بل الدين ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، أما البدع فإنها من أهواء الشياطين .
وإذا فتحنا المجال تغير الدين بهذه الطريقة ، كل يحدث ما يستحسن وكل يعمل ما يشاء ثم يقضى على السنن ، ولا تجتمع السنن والبدع كما جاء في الحديث :" ما أحدث الناس بدعة إلا رفع مثلها من السنة " فيتحول الدين من سنن إلى بدع ومحدثات ، فلا يفتح المجال أبدا للبدع ولا يتساهل فيها أبدا .
القسم الثاني : بدعة نسبية : بأن أصل الشيء مشروع لكن يخصص بزمان أو بمكان لم يشرعه الله ولا رسوله ، مثلا صيام بعض الأيام خاصة ، مثل صيام يوم النصف من شعبان أو صيام شهر رجب ، تخصيص رجب بالصوم أو صيام النصف من شعبان بدعة ، الصيام أصله مشروع لكن إضافة تخصيص الوقت بدون دليل ، بأن تخصص وقتا للصوم بدون دليل أو تخصص مكانا للعبادة بدون دليل ، هذه بدعة في الدين ما أنزل الله بها من سلطان ، أو تخصص مكانا أو زمانا للعبادات الشرعية هذا لا أصل له في الدين ، وهو يكون بدعة إضافية ؛ لأنك أضفت إلى العبادة المشروعة ، شيئا من البدعة ، وسواء كانت البدعة أصلية أو كانت إضافية فإنها مردودة إلى صاحبها ويجب التحذير منها ومن أصحابها .
جاء أبو موسى رضي الله عنه وكان أميرا على الكوفة ، إلى ابن مسعود وكان هو المفتي في الكوفة والقاضي ، فقال : يا أبا عبد الرحمن رأيت شيئا استنكرته ، قال : وما هو ؟ قال : سوف تراه ، فذهبا إلى المسجد فوجدا قوما مجتمعين وعندهم أكوام من الحصى وفيهم واحد يقول لهم : سبحوا كذا وكذا ، ويعدون من الحصى ، هللوا كذا وكذا ، كبروا كذا وكذا . ويكبرون ويهللون و يسبحون ويعدون بالحصى أعدادا معينة كذا وكذا فوقف عليهم ابن مسعود فقال : لأنتم أهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنتم مبتدعون بدعة عظيمة ، قالوا : وما ذاك يا أبا عبد الرحمن ، نحن نذكر الله ونريد الخير ، قال : وكم مريد للخير لا يدركه ، ثم أنكر عليهم هذا العمل .
التسبيح والتهليل والتكبير مطلوب ، لكن بدون هذه الصفة ، بدون هذا الإجتماع ، وبدون عدد محدد إلا بدليل ، التهليلات والتسبيحات والتكبيرات لا تحدد إلا بدليل من الرسول صلى الله عليه وسلم . فأنكر عليهم رضي الله عنه هذه الصفة مع أنهم يذكرون الله في المسجد ، لكن هذه الصفة التي أحدثوها هي البدعة ، لم ينكر عليهم الذكر ، ولكن أنكر عليهم هذه الصفات المحدثة ، وغلظ عليهم في ذلك ، وأنكر عليهم وفرقهم . قال الراوي : فرأيت هؤلاء أو كثيرا منهم يطاعنوننا في النهروان . بدعتهم تحولت بهم إلى مذهب الخوارج حيث قاتلوا أهل السنة في وقعة النهروان ، التي كانت بين أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وبين الخوارج ، صاروا مع الخوارج . هذا مآل البدعة ـ والعياذ بالله ـ وكيف تذهب بصاحبها .
فمن طريقة أهل السنة ، هجران أهل البدعة حتى يرتدعوا عن بدعتهم ؛ لأن في عدم هجرتهم تشجيعا لهم وإقرارا لهم وتغريرا بالناس أيضا أن ينخدعوا بهم ، فإذا هجرهم أهل العلم والقدوة فالناس يتركونهم ، وهم أيضا يخجلون أمام الناس ، ولهذا كانت البدع مغمورة في عهد الصحابة والقرون المفضلة ، وإنما ظهرت بعد القرن الرابع ، بعد مضي القرون المفضلة ظهرت البدع في الناس . ولا يقال ما يقوله بعض الجهال الآن : إن المبتدع تذكر حسناته ، ويبين ما عنده من البدع ، وما يسمونه الموازنات .
فهذا فيه ترويج للبدع ، نحن لم نؤمر بعد الحسنات ، هذا إلى الله سبحانه وتعالى ، ثم ما الذي يدرينا عن حسناتهم ، وأنها حسنات عند الله ، ما الذي يدرينا عنها ؟ لم نؤمر بهذا ، وإنما أمرنا أن ننبه على الخطأ ليجتنبه الناس وليتوب المخطئ إلى الله ـ عز وجل ـ إذا أراد الله به خيرا ، أما أن تذكر حسانته ومزاياه فهذا يهون البدعة عند الناس .
( ومباينتهم ): يعني مفارقتهم وعدم مصاحبتهم ومجالستهم ، من أجل أن يحذرهم الناس ومن أجل أن يخجلوا هم ، ويكونا ضعفاء في المجتمع ، كما كان ذلك في عهد القرون المفضلة ، كان المبتدعة مغمورين لا قيمة لهم ، ولا يؤبه بهم ، وإنما ظهروا بعد مضي القرون المفضلة .
( وترك الجدال والخصومات في الدين ) :
كذلك من السنة ترك الخصومات في الدين ، الدين ولله الحمد واضح بينه الله ورسوله ، والواجب علينا الإمتثال والعمل ، ولا نتخاصم في أمور العبادات وأمور الدين ، ونناقش لماذا شرع الله كذا ؟ ولما أمر الله بكذا ؟ وما هي الفائدة في كذا ؟ كما يفعل بعض الناس ، يمضون وقتهم في هذه الأمور لماذا كذا ولماذا كذا ؟ ما الحكمة في كذا ؟ كأنه عنده شك ، فالواجب الإمتثال ، إذا صح الدليل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فواجبك الإمتثال وترك الجدال والخصومة (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمر أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )) [ الأحزاب : 36 ] ، إن عرفت الحكمة فالحمد لله ، وإن لم تعرفها فلست بمكلف بالبحث عن الحكمة ، أنت مكلف بمعرفة الدليل ، وما دام قد عرفت الدليل ، وجب عليك الإمتثال ، ولا يتوقف امتثالك على معرفة الحكمة .
هذا سبيل المؤمنين ، أما سبيل أهل الشك وأهل الضلال فهو الجدال والخصومات والنقاش مع أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وإضاعة الوقت في هذه الأمور ، وتنقص الأوامر والنواهي عندهم ، فهذا من عمل الشيطان ـ والعياذ بالله ـ فهذا في الجدال الذي لا فائدة من ورائه ، أما الجدال الذي فيه فائدة في إظهار الدين ورد الشبه فهذا واجب ، قال تعالى لنبيه : (( وجادلهم بالتي هي أحسن )) [ النحل 115 ] (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم )) [ العنكبوت 46 ] فالجدال إذا كان المقصود منه إظهار الحق ، وقمع الباطل ، ورد الشبه ، فهذا جدال محمود ، لأنه لبيان الحق وحماية الدين ، أما الجدال الذي يقصد منه التعسف والتكلف وإظهار الشخصية عند الناس ، فهذا لا يجوز لأنه لا فائدة من ورائه بل يوغر الصدور ويوقع العداوة بين الناس .
فالجدال الذي لا فائدة من ورائه منهي عنه .
في عهد عمر ظهر رجل يقال له صبيغ كان يجادل في بعض الأمور ، يسأل عن متشابه القرآن ، فاستدعاه عمر رضي الله عنه وضربه ثم أجلاه من المدينة حتى تاب إلى الله عز وجل ورجع عن ما هو عليه . هذا دليل على أن الذي ليس له هم إلا الجدال والمناقشات في أمور العبادات والتشكيك في أمور الدين ، أن هذا رجل سوء ، ينبغي أن يؤدب ويمنع من هذه الأمور والتظاهر بها أمام الناس .
ويدخل في ذلك ما يعمله بعض الجهال الآن من التشكيك في الأحاديث وتضعيفها ، ويبثون هذا بين الناس والعوام ، العوام ما مصلحتهم في هذا ؟ هذا يشكك الناس في أمور الدين ويشككهم في السنة لا يظهر هذا أمام الناس وأمام الجهال والمبتدئين في طلب العلم ، هذا إنما يكون من شئون العلماء المتخصصين في أمور الجرح والتعديل وأمور الشريعة ، ويكون بينهم ، ولا يظهر للناس وأمام الناس ، فيجب الحذر من هذه الطريق .
( وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم ):هذا عود على ما سبق ، فإذا كان الواجب هجر المبتدع فإنه يجب هجر كتبهم أيضا ، لأنهم ربما يكونون قد ماتوا وليس هم بين أظهرنا ، ماتوا ولكن كتبهم بقيت ، وكثير من كتب المبتدعة باقية ، فلا يجوز للإنسان المبتدئ الذي ليس عنده أهلية أن يطلع على هذه الكتب ؛ لأنه يغتر بما فيها وتروج عليه ، أما الإنسان المتمكن في العلم ، الراسخ في العلم ، فإن له أن يطلع على هذه الكتب من أجل أن يرد عليها ويحذر الناس مما فيها ، أما من ليست عنده أهلية علمية يعرف بها الحق من الباطل والخطأ من الصواب فليس له أن يطالع في كتب أهل البدع وكتب الفرق الضالة ، لئلا تدخل في فكره وفي عقيدته لأنه جاهل . هي قد يكون لها بريق ولها عبارات رشيقة تضر الإنسان الذي ليس عنده بصيرة ، لأن الغالب أن أهل الجدل يعطون الفصاحة والشقاشق[[ أورد الزبيدي في تاج العروس ( 25/ 521 )ـ شقق ـ مايلي : وفي حديث عمر رضي الله عنه أن رجلا خطب فأكثر ، فقال عمر : " إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان " أي يتكلم به الشيطان ؛ لما يدخل فيه من الكذب والباطل . وقال الأزهري : شبه الذي يتفيهق في كلام ويسرده سردا ، لا يبالي ما قال من صدق أو كذب بالشيطان وإسخاطه ربه . ويقال للماهر بالكلام هو أهرت الشقشقة ، وجمع الشقشقة: شقاشق . ]] .
من أجل الفتنة والعياذ بالله قال الله ـ جلا وعلا ـ في المنافقين (( وإن يقولوا تسمع لقولهم )) [ المنافقون : 4 ] لأنهم يحسنون القول ، والحجج ، ويحسنون صياغة الألفاظ ، وهم منافقون في الدرك الأسفل من النار . والشاعر يقول :
في زخرف القول تزيين لباطله ـ ـ ـ ـ ـ والحق قد يعتريه سوء تعبير .
يقول الله عز وجل : (( شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) [ الأنعام 112 ] .
فالزخرف أصله التزيين والتنميق ، فأصحاب الضلال في الغالب عندهم تزويق للعبارات وتنميق في خطبهم وفي محاضراتهم وفي كتبهم ، فإذا سمعها أو قرأها الإنسان الجاهل انطلت عليه وتمكنت من القلب ، فلذلك يحذر من مطالعة كتب أهل البدع ، والإستماع إليهم في دروسهم أو محاضراتهم أو برامجهم ، يحذر الإنسان من الإستماع إليهم إلا على وجه يريد الإنكار عليهم وهو يقدر على ذلك ، ويعرف الحق من الباطل .
فهذا مقتضى التعامل مع أهل البدع وكتبهم ، بعض الناس يقولون : اطبعوا كتبهم وروجوها لأجل الثقافة ، وهذه آرائهم والناس أحرار في آرائهم وفي أن يبدوا ما عندهم . نقول لهم : هذا لا يجوز لأنه فتح باب شر على المسلمين ، بل يجب أن تصادر كتب أهل البدع وكتب أهل الضلال ، أن تصادر من أسواق المسلمين ومن مكتباتهم ومن متناول أيديهم ؛ لأنها سموم مثل ما يحجر على الناس في السموم ، وتمنع السموم من الإنتشار ، فهذه الكتب أضر ـ والعياذ بالله ـ كذلك كما يحمى الناس ويحجر على المرض من أجل صحة أبدانهم ، فهذا أولى أن يحجر عليه ؛ لأن السم يغير الأبدان ، وكتاب الضلال يغير الإيمان والعقول ، فهو أخطر وأشد فيجب الحجر عليه من أجل سلامة الدين والعقيدة .
فلا نتساهل في كتب أهل البدع وكتب أهل الضلال ونقول : هذه ثقافة ، والإنسان يصبح عنده اتساع فكر وعقل لا يضيق ، هذا كله من الدعاية للباطل . فالواجب أن يحذر من أهل البدع ، ويحذر من سماع كلامهم ، ويحذر من كتبهم ، بقاء كتبهم من بعدهم بلية ، لا نقول : إنهم ماتوا وذهبوا ، هم وإن ماتوا بأبدانهم إلا أن أفكارهم موجودة في هذه الكتب ولها باعة وزبائن يروجونها . فيجب الحذر من ذلك غاية الحذر ، فإنها خطر يهدد المسلمين .
( وكل محدثة في الدين بدعة ):
لما حذر من البدع والمبتدعة أراد أن يبين ما هي البدعة ؟ قال : ( كل محدثة بدعة ) لأن الدين لا يقبل البدع ، الدين هو ما شرعه الله ورسوله فقط ، ولا يقبل ما شرعه فلان أو قاله فلان إلا بدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كل محدثة في الدين فإنها بدعة .
أما المحدثات في أمور العادات وأمور المنافع فالأصل فيه الإباحة ـ والحمد لله ـ حدث أشياء من الصناعات والإختراعات لم تكن موجودة من قبل ، لا نقول : إن هذه بدع ، بل نقول هذه مما أباحها الله سبحانه وتعالى ؛ لأن هذه ليست من أمور الدين هذه من أمور العادات وأمور المصالح التي خلقها الله لعباده ، فنحن نركب الطائرة والسيارة والباخرة ونستعمل مكبرات الصوت والمسجلات ، كل هذه مخترعات ليست من الدين إنما هي وسائل نفع للناس ، ومن استخدمها في الخير ، صارت نعمة وعونا على طاعة الله ، ومن استعملها في الشر فهذه من سوء تصرفه ، وإلا فهي مصالح للناس .
فالحاصل أن البدع هي ما أحدث في الدين ، أما ما أحدث في أمور العادات وأمور الصناعات وأمور الدنيا ، هذه ليست من البدع .
الصحابة كانوا يجاهدون بالرمح وبالسهام والنبل والسيوف ، والآن حدث ما تعلمون من الأسلحة المتطورة ، الصواريخ والطائرات والدبابات والقنابل ، حدث أشياء لم تكن موجودة من قبل ، هل نقول هذه بدع ولا نريدها ؟ لا .. يجب علينا أن نأخذ ما يعيننا على قمع عدونا ، قال تعالى (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل )) [ الأنفال 60 ] من قوة : هذه نكرة في سياق الأمر ، فتعم كل قوة وفي كل وقت بحسبه وإمكانيته . ولو بقينا على الرمح والنبل والسيف مع وجود هذه الأسلحة المدمرة والفتاكة لما أغنت عنا شيئا ، يمكن أن تدفع شيئا يسيرا ، لكن لا تدفع هجوم العدو ، وقوة العدو لا تدفع إلا بمثلها أو أشد منها ، ولهذا قال ـ جل وعلا ـ (( وأعدوا لهم ما استطعتم )) قال : ما استطعتم ، ولم يحدد (( من قوة ومن رباط الخيل )) لأن الخيل فيها الخير إلى يوم القيامة ، كما قال صلى الله عليه وسلم :" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " فهي (( ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )) [ الأنفال 60 ] هناك أعداء مندسون بيننا لا نعلمهم ، إذا أعددنا القوة أغظنا العدو الخارجي والعدو الداخلي ، أما إذا لم نعد القوة فرح العدو الخارجي والعدو الداخلي فلا بد من القوتين : قوة الحجة ، وذلك بالعلم النافع ، وقوة السلاح وذلك بإعداد آلات الجهاد ، وذلك المتطورة في كل زمان بحسبه ، قال تعالى : (( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم )) [ التوبة 73 ] . أما المنافقون فإنهم يجاهدون بالحجة واللسان، وأما الكافرون ، فإنهم يجاهدون بالسيف والسنان .
( وكل متّسم بغير الإسلام مبتدع ) : ومن البدع أيضا : التسمي بغير الإسلام والسنة ، كالذي ينتسب إلى مبدأ أو إلى مذهب أو إلى شخص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالإنتساب إنما يكون إلى أهل السنة والجماعة والإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الإنتساب الصحيح ، أما الإنتساب لأهل الفرق والنحل والمذاهب والمبادئ المخالفة للكتاب والسنة فإن هذا ضلال .
المصدر :
شرح لمعة الإعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة ـ رحمه الله ـ
تأليف : فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ـ حفظه الله ـ ( ص 270 )
منقول (http://www.noor-alyaqeen.com/vb/t14281/)