أبو الزبير عبد الحليم الإدريسي
10-10-2010, 03:06 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
نعود لتفريغ باب من أبواب" كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته .
"في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه"
قد تقدم بيان معناه لغة ، وأما حقيقته : فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل مالا يحسن ولا يجمل ، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها .
وسئل عنه الجنيد بن محمد فقال : تجزع المرارة من غير تعبس .
وقال ذو النون : هو التباعد عن المخالفات ، والسكون عند تجرع غصص البلية ، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة .
وقيل : الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب .
وقيل : هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى .
وقال أبو عثمان : الصبار هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره .
وقيل : الصبر المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية .
ومعنى هذا : أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه ، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر ، وصحبة البلاء بالصبر .
وقال عمرو بن عثمان المكي : الصبر هو الثبات مع الله وتلقى بلائه بالرحب والدعة . ومعنى هذا : أنه يتلقى البلاء وبصدر واسع لا يتعلق بالضيق والسخط والشكوى .
وقال الخواص : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة .
وقال رويم : الصبر ترك الشكوى فسره لازمه .
وقال غيره : الصبر هو الاستعانة بالله .
وقال أبو على : الصبر كاسمه .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو .
وقال أبو محمد الجريري : الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما .
قلت : وهذا غير مقدور ولا مأمور به ، فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين ، وإنما المقدور حبس النفس عن الجزع لا استواء الحالتين عند العبد ، وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر ، ولا ينافض هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر " [متفق عليه] ، فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر ، وأما قبله فالعافية أوسع له .
وقال أبو علي الدقاق : حد الصبر أن لا يعترض على التقدير . فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر ، قال الله تعالى في قصة أيوب : ( إنا وجدناه صابرا ) [ ص : 44] مع قوله : ( مسني الضر ) [ الأنبئاء : 83] ، قلت : فسر اللفظ بلازمها .
وأما قوله : " على غير وجه الشكوى " فالشكوى نوعان :
أحدهما : الشكوى إلى الله فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ) [يوسف : 86] مع قوله : ( فصبر جميل ) [يوسف : 18] . وقال : ( مسني الضر ) مع وصف الله له بالصبر.
والنوع الثاني : شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال ، فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله ، فالفرق بين شكواه والشكوى إليه . وسنعود لهذه المسألة في باب اجتماع الشكوى و الصبر وافتراقهما إن شاء الله تعالى .
وقيل : الصبر شجاعة النفس ومن ها هنا أخذ القائل قوله : ( الشجاعة صبر ساعة ) .
وقيل الصبر : ثبات القلب عند موارد الاضطراب والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) [إبراهيم : 21] .
والجزع قرين العجز وشقيقه ، والصبر قرين الكيس ومادته ، فلو سئل الجزع : من أبوك ؟ لقال : العجز ، ولو سئل الكيس : من أبوك ؟ لقال الصبر .
والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار . والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية ، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب .
وحفظ من خطب الحجاج : اقدعوا (1) هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء ، فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله ، وصرفها بزمامها عن معاصي الله ، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه .
قلت : والنفس فيها قوتان : قوة الإقدام وقوة الإحجام ، فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ماينفعه ، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره .
ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره ، فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه . ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك . وأفضل الناس أصبرهم على النوعين .
فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد ، وعلى مشقة الصيام ، ولا يصبر عن نظرة محرمة . وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين ، بل هو أضعف شيئ عن هذا وأعجزه ، وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين . وأقلهم أصبرهم في الموضعين .
وقيل : " الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة " ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه ، والحرب قائمة بينهما وهي سجال ، ومحرك هذه الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات " . انتهى
-
(1) والمعنى : كفوا نفوسكم عن التطلع إلى الشهوات
نعود لتفريغ باب من أبواب" كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته .
"في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه"
قد تقدم بيان معناه لغة ، وأما حقيقته : فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل مالا يحسن ولا يجمل ، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها .
وسئل عنه الجنيد بن محمد فقال : تجزع المرارة من غير تعبس .
وقال ذو النون : هو التباعد عن المخالفات ، والسكون عند تجرع غصص البلية ، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة .
وقيل : الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب .
وقيل : هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى .
وقال أبو عثمان : الصبار هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره .
وقيل : الصبر المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية .
ومعنى هذا : أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه ، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر ، وصحبة البلاء بالصبر .
وقال عمرو بن عثمان المكي : الصبر هو الثبات مع الله وتلقى بلائه بالرحب والدعة . ومعنى هذا : أنه يتلقى البلاء وبصدر واسع لا يتعلق بالضيق والسخط والشكوى .
وقال الخواص : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة .
وقال رويم : الصبر ترك الشكوى فسره لازمه .
وقال غيره : الصبر هو الاستعانة بالله .
وقال أبو على : الصبر كاسمه .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو .
وقال أبو محمد الجريري : الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما .
قلت : وهذا غير مقدور ولا مأمور به ، فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين ، وإنما المقدور حبس النفس عن الجزع لا استواء الحالتين عند العبد ، وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر ، ولا ينافض هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر " [متفق عليه] ، فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر ، وأما قبله فالعافية أوسع له .
وقال أبو علي الدقاق : حد الصبر أن لا يعترض على التقدير . فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر ، قال الله تعالى في قصة أيوب : ( إنا وجدناه صابرا ) [ ص : 44] مع قوله : ( مسني الضر ) [ الأنبئاء : 83] ، قلت : فسر اللفظ بلازمها .
وأما قوله : " على غير وجه الشكوى " فالشكوى نوعان :
أحدهما : الشكوى إلى الله فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ) [يوسف : 86] مع قوله : ( فصبر جميل ) [يوسف : 18] . وقال : ( مسني الضر ) مع وصف الله له بالصبر.
والنوع الثاني : شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال ، فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله ، فالفرق بين شكواه والشكوى إليه . وسنعود لهذه المسألة في باب اجتماع الشكوى و الصبر وافتراقهما إن شاء الله تعالى .
وقيل : الصبر شجاعة النفس ومن ها هنا أخذ القائل قوله : ( الشجاعة صبر ساعة ) .
وقيل الصبر : ثبات القلب عند موارد الاضطراب والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) [إبراهيم : 21] .
والجزع قرين العجز وشقيقه ، والصبر قرين الكيس ومادته ، فلو سئل الجزع : من أبوك ؟ لقال : العجز ، ولو سئل الكيس : من أبوك ؟ لقال الصبر .
والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار . والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية ، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب .
وحفظ من خطب الحجاج : اقدعوا (1) هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء ، فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله ، وصرفها بزمامها عن معاصي الله ، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه .
قلت : والنفس فيها قوتان : قوة الإقدام وقوة الإحجام ، فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ماينفعه ، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره .
ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه أقوى من صبره عما يضره ، فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه . ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك . وأفضل الناس أصبرهم على النوعين .
فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد ، وعلى مشقة الصيام ، ولا يصبر عن نظرة محرمة . وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين ، بل هو أضعف شيئ عن هذا وأعجزه ، وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين . وأقلهم أصبرهم في الموضعين .
وقيل : " الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة " ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه ، والحرب قائمة بينهما وهي سجال ، ومحرك هذه الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات " . انتهى
-
(1) والمعنى : كفوا نفوسكم عن التطلع إلى الشهوات