سفيان بن عيسى الميلي
12-19-2010, 11:58 AM
الخَلِيْلُ بنُ أَحْمَدَ الفَرَاهِيْدِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قال عنه الإمام الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، شيخ المحدثين،محدث العصر، وخاتمة الحفاظ، شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد ابن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي التركماني الفارقي ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ، في كتاب سير أعلام النبلاء المجلد السابع الصفحة أربع مئة وواحد وثلاثون (7/431) ما نصّه:
(الإِمَامُ، صَاحِبُ العَرَبِيَّةِ، وَمُنْشِئُ عِلْمِ العَرُوضِ، البَصْرِيُّ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ.
حَدَّثَ عَنْ: أَيُّوْبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ، وَالعَوَّامِ بنِ حَوْشَبٍ، وَغَالِبٍ القَطَّانِ.
أَخَذَ عَنْهُ: سِيْبَوَيْه النَّحْوَ، وَالنَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، وَهَارُوْنُ بنُ مُوْسَى النَّحْوِيُّ، وَوَهْبُ بنُ جَرِيْرٍ، وَالأَصْمَعِيُّ، وَآخَرُوْنَ.
وَكَانَ رَأْساً فِي لِسَانِ العَرَبِ، دَيِّناً، وَرِعاً، قَانِعاً، مُتَوَاضِعاً، كَبِيْرَ الشَّأْنِ.
يُقَالُ: إِنَّهُ دَعَا اللهَ أَنْ يَرْزُقَه عِلْماً لاَ يُسبَقُ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَهُ بِالعَرُوضِ، وَلَهُ كِتَابُ (العَيْنِ) فِي اللُّغَةِ.
وَثَّقَهُ: ابْنُ حِبَّانَ.
وَقِيْلَ: كَانَ مُتَقَشِّفاً، مُتَعَبِّداً.
قَالَ النَّضْرُ: أَقَامَ الخَلِيْلُ فِي خُصٍّ لَهُ بِالبَصْرَةِ، لاَ يَقْدِرُ عَلَى فَلْسَيْنِ، وَتَلاَمِذتُهُ يَكسِبُوْنَ بِعِلْمِهِ الأَمْوَالَ، وَكَانَ كَثِيْراً مَا يُنشِدُ:
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ *** ذُخْراً يَكُوْنُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- مُفْرطَ الذَّكَاءِ.
وُلِدَ: سَنَةَ مائَةٍ.
وَمَاتَ: سَنَةَ بِضْعٍ وَسِتِّيْنَ وَمائَةٍ.
وَقِيْلَ: بَقِيَ إِلَى سَنَةِ سَبْعِيْنَ وَمائَةٍ.
وَكَانَ هُوَ وَيُوْنُسَ إِمَامَيْ أَهْلِ البَصْرَةِ فِي العَرَبِيَّةِ، وَمَاتَ وَلَمْ يُتَمِّمْ كِتَابَ (العَيْنِ)، وَلاَ هَذَّبَهُ، وَلَكِنَّ العُلَمَاءَ يَغرِفُوْنَ مِنْ بَحْرِهِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: الخَلِيْلُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَمْرِو بنِ تَمِيْمٍ الأَزْدِيُّ، قِيْلَ: كَانَ يَعْرِفُ عِلْمَ الإِيقَاعِ وَالنَّغَمِ، فَفَتَحَ لَهُ ذَلِكَ عِلْمَ العَرُوضِ.
وَقِيْلَ: مَرَّ بِالصَّفَّارِيْنَ، فَأَخَذَهُ مِنْ وَقْعِ مِطْرَقَةٍ عَلَى طَسْتٍ.
وَهُوَ مَعْدُوْدٌ فِي الزُّهَّادِ، كَانَ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأُغْلِقُ عَلَيَّ بَابِي، فَمَا يُجَاوِزُهُ هَمِّي.
وَقَالَ: أَكمَلُ مَا يَكُوْنُ الإِنْسَانُ عَقْلاً وَذِهْناً عِنْدَ الأَرْبَعِيْنَ.
وَعَنْهُ، قَالَ: لاَ يَعرِفُ الرَّجُلُ خَطَأَ مُعَلِّمِهِ حَتَّى يُجَالِسَ غَيْرَه.
قَالَ أَيُّوْبُ بنُ المُتَوَكِّلِ: كَانَ الخَلِيْلُ إِذَا أَفَادَ إِنْسَاناً شَيْئاً، لَمْ يُرِهِ بِأَنَّهُ أَفَادَه، وَإِنِ اسْتفَادَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً، أَرَاهُ بِأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْهُ.
قُلْتُ: صَارَ طَوَائِفُ فِي زَمَانِنَا بِالعَكْسِ. ) انتهى كلام الإمام الذهبي (رحمه الله)
سمّي بالفراهيدي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله ابن مالك بن مضر الأزدي البصري كما أورد ذالك ياقوت الحموي في معجم البلدان
وذكر الزبيدي في تاج العروس أن الأصمعي قال للخليل: وما الفراهيد؟ قال: جرو الأسد بلغة عُمان.
وكان الخليل يقول الشعر بالبيتين والثلاثة ونحوها إذ لم يتجاوز التسعة أبيات في ما كتب من الشعر
ومن تصانيفه العين، الجمل، كتاب النغم، كتاب العروض،كتاب الشّواهد، كتاب النقط والشَّكل
وهو أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد وهو من البسيط
صِف خَلقَ خَودِ كَمِثلِ الشَمسِ إِذ بَزَغَت *** يَحظى الضَجيعُ بِها نَجلاءَ مِعطارِ
ويقال أن الخليل لما أراد أن يضع العروض خلا في بيت ووضع بين يديه طستاً أو ما أشبه ذلك، وجعل يقرعه بعود ويقول: فاعلن مستفعلن فعولن، فسمعه أخوه فخرج إلى المسجدوقال: إنّ أخي قد أصابه جنون، وأدخلهم عليه وهو يضرب الطّست. فقالوا: يا أبا عبدالرحمن، ما لك أأصابك شيء؟ أتحبّ أن نعالجك؟ فقال: وما ذاك!!؟ فقالوا: أخوك يزعم أنك خولطت، فقال: من الكامل
لَو كُنتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرتَني *** أَو كُنتَ تَعلَمُ ما تَقولُ عَذَلتُكا
لِكِن جَهِلتَ مَقالَتي فَعَذَلتَني *** وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا
ووجه إليه سليمان بن علي والى الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل لرسول سليمان خبزاً يابساً وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال:
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ *** وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَداً *** يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ
وَإِنَّ بَينَ الغِنى وَالفَقرِ مَنزِلَةً *** مَخطومَةً بِجَديدٍ لَيسَ بِالبالي
الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ *** وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ
إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِهِ *** فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤالِ
وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ *** وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ
وَالمالَ يَغشى أُناساً لا خَلاقَ لَهُم *** كَالسيلِ يَغشى أُصولَ الدَندَنِ البالي
كُلُّ اِمرِىءِ بِسَبيلِ المَوتِ مُرتَهِنٌ *** فَاِعمَل لِنَفسِكَ إِنّي شاغِلٌ بالي
فقطع عنه سليمان الراتب فقال "من المتقارب":
إِنَّ الَّذي شَقَّ فَمي ضامِنُ *** الرِزقِ حَتّى يَتَوَفّاني
حَرَمتَني خَيراً كَثيراً فَما *** زادَكَ في مالِكَ حِرماني
وهو القائل عن نفسه "من البسيط":
اِعمَل بِعِلمي وَإِن قَصَّرتُ في عَمَلي*** يَنفَعكَ عِلمي وَلا يَضرُركَ تَقصيري
وَاُنظَر لِنَفسِكَ فيما أَنتَ فاعِلُهُ *** مِنَ الأُمورِ وَشَمِّر فَوقَ تَشميري
ومن شعره أيضاً "من المتقارب":
وَقَبلَكَ داوى الطَبيبُ المَريضَ *** فَعاشَ المَريضُ وَماتَ الطَبيب
فَكُن مُستَعِدّاً لِداعي الفَناءِ *** فَإِنَّ الَّذي هُوَ آتٍ قَريب
وكان يقول: أشتهي أن أكون عند الله من أرفع الناس وعند الناس من أوسط الناس وعند نفسي من أسفل الناس. وكان يدعو بذلك.- ومر بقوم يتكلمون فيه فقال "من الطويل":
سَأُلزِمُ نَفسي الصَفحَ عَن كُلِّ مُذنِبٍ *** وَإِن كَثُرَت مِنهُ عَلَيَّ الجَرائِمُ
وَما الناسُ إِلّا واحِدٌ مِن ثَلاثَةٍ *** شَريفٌ وَمَشروفٌ وَمَثَلٌ مُقاوِمُ
فَأَمّا الَّذي فَوقي فَأَعرِفُ فَضلَهُ *** وَأُتبِعُ فيهِ الحَقَّ وَالحَقُّ لازِمُ
وَأَمّا الَّذي مِثلي فَإِن زَلَّ أَو هَفا *** تَفَضَّلتُ إِنَّ الفَضلَ بِالعِزِّ حاكِمُ
وَأَمّا الَّذي دوني فَإِن قالَ صُنتُ عَن *** إِجابَتَهِ عَرضي وَإِن لامَ لائِمُ
وكان الخليل قد نظر في النجوم وبالغ وأشرف على مالا يحب، ثم لم يرضها، فأنشأ يقول "من الخفيف":
أَبلِغا عَني المُنَجِّمَ أَنّي *** كافِرٌ بِالَّذي قَضَتهُ الكَواكِب
عَالِمٌ أَنَّ ما يَكونُ وَما كا *** نَ بِحَتمٍ مِنَ المُهَيمِنِ واجِب
شاهِدٌ أَنَّ مَن يُفَوِّضَ أَو يُج *** بِرَ زارٍ عَلى المَقاديرِ كاذِب
وقال أيضاً "من الوافر":
وَما شَيءٌ أَحَبَّ إِلى لَئيمٍ *** إِذا سَبَّ الكِرامَ مِنَ الجَوابِ
مُتارَكَةُ اللَئيمِ بِلا جَوابٍ *** أَشَدُّ عَلى اللَئيمِ مِنَ السِبابِ
وقال أيضاً "من الطويل":
يَقولونَ لي دارُ الأَحِبَّةِ قَد دَنَت *** وأَنتَ كَئيبٌ إِنَّ ذا لَعَجيبُ
فَقُلتُ وَما تُغني الدِيّارُ وَقُربُها *** إِذا لَم يَكُن بَينَ القُلوبِ قَريبُ
وقال أيضاً "من الطويل":
وَأَفضَلُ قَسمِ اللَّهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ *** فلَيسَ مِنَ الخَيراتِ شَيءٌ يُقارِبُه
إِذا أَكمَلَ الرَّحمنُ لِلمَرءِ عَقلَهُ *** فَقَد كَمُلَت أَخلاقُهُ وَضَرائِبُه
يَعيشُ الفَتَى بِالعَقلِ في الناسِ إنَّهُ *** على العَقلِ يَجري عِلمُهُ وتَجارِبُه
وَمَن كانَ غَلاباً بِعَقلٍ وَنجدَةٍ *** فَذو الجَدِّ في أَمرِ المَعيشَةِ غَالِبُه
يَزينُ الفَتَى في النَّاسِ صِحَّةُ عَقلِهِ *** وَإِن كانَ مَحظُوراً عَلَيهِ مَكاسِبُه
ويُزرِي بِهِ في الناسِ قِلَّةُ عَقلِهِ *** وإِن كَرُمَت أَعراقُهُ وَمَناسِبُه
وقال أيضاً "من مجزوء الوافر":
يَعيشُ المَرءُ في أَمَلٍ *** يُرَدِّدُهُ إِلى الأَبَدِ
يُؤَمِّلُ ما يُؤَمِّلُ مِن *** صُنوفِ المالِ وَالوَلَدِ
وَلا يَدري لَعَلَّ المَو *** تَ يَأَتي دونَ بَعدِ غَدِ
فَلا يُبقي لِوالِدِهِ *** وَلا يُبقي عَلى وَلَدِ
وقال أيضاً "منالبسيط":
وَعاجِزُ الرَأيِ مِضياعٌ لِفُرصَتِهِ *** حَتّى إِذا فاتَ أَمرٌ عاتَبَ القَدَرا
وقال أيضاً "من البسيط":
إِن كُنتَ لَستَ مَعي فَالذِكرُ مِنكَ هُنا *** يَرعاكَ قَلبي وَإِن غُيِّبتَ عَن بَصَري
العَينُ تَفقِدُ مَن تَهوى وَتُبصِرُهُ *** وَناظِرُ القَلبِ لا يَخلو مِنَ النَظَرِ
وقال أيضاً "من الطويل":
إِذا كُنتَ لا تَدري وَلَم تَكُ كَالَّذي *** يُشاوِرُ مَن يَدري فَكَيفَ إِذاً تَدري
جَهِلتَ فَلَم تَدرِ بِأَنَّكَ جاهِلٌ *** وَأَنَّكَ لا تَدري بِأَنَّكَ لا تَدري
وَمِن أَعظَمِ البَلوى بِأَنَّكَ جاهِلٌ *** فَمَن لي بِأَن تَدري بِأَنَّكِ لا تَدري
رُبَّ اِمرِىءٍ يَجري وَيَدري بَأَنَّهُ *** إِذا كانَ لا يَدري جَهولٌ بِما يَجري
وقال أيضاً "من الطويل":
وَما هِيَ إِلّا لَيلَةٌ ثُمَّ يَومُها *** وَحَولُ إِلى حَولٍ وَشَهرٌ إِلى شَهرِ
مَطايا يُقَرِّبنَ الجَديدَ إِلى البِلى *** وَيُدنينَ أَشلاءَ الكَريمِ إِلى القَبرِ
وَيَترُكنَ أَزواجَ الغَيورِ لِغَيرِهِ *** وَيَقسِمنَ ما يَحوي الشَحيحُ مِنَ الوَفرِ
وقال أيضاً "من الطويل":
كَتَبتُ بِخَطي ما تَرى في دَفاتِري *** عَنِ الناسِ في عَصري وَعَن كُلِّ غابِرِ
وَلَولا عَزائي أَنَّهُ غَيرُ خالِدٍ *** عَلى الأَرضِ لَاِستَودَعتُهُ في المَقابِرِ
وقال أيضاً "من الطويل":
تَكَثَّر مِنَ الإِخوانِ ما اِسطَعتَ إِنَّهُم *** بُطونٌ إِذا اِستَنجَدتَهُم وَظُهورُ
وَما بِكَثيرٍ أَلفُ خِلٍّ لِعاقِلٍ *** وَإِنَّ عَدُوّاً واحِداً لَكَثيرُ
وقال أيضاً "من المتقارب":
يَدَاكَ يَدٌ خَيرُهَا يُرتَجَى *** وَأُخرَى لِأَعدائِهَا غائِظَه
فَأمَّا الَّتي خَيرُها يُرتَجَى *** فأجود جوداً من اللافِظَه
وَأَمَّا الَّتي يُتَّقَى شَرُّها *** فَنَفسُ العَدُوِّ لَها فائِظَه
خرج أبي والخليل والفضل بن المؤتمن العتكي إلى سليمان بن الحبيب بن المهلب إلى الأهواز، فبدأ بعطاء الإثنين قبل الخليل، فكتب إليه الخليل بأبيات تمثل بها "من الكامل":
وَرَدَ العُفاةُ المُعطَشون فَأَصدَروا *** رِيّاً فَطابَ لَهُم لَدَيكَ المَكرَعُ
وَوَرَدتُ حَوضَكَ ظامِئاً مُتَدَفِّقاً *** فَرَدَدتَ دَلوي شَنُّها يَتَقَعقَعُ
وَأَراكَ تُمطِرُ جانِباً مِن جانِبٍ *** وَفَناءُ أَرضي مِن سَمائِكَ بَلقَعُ
أَبِحُسنِ مَنزِلَتي تُؤخِرُ حاجَتي *** أَم لَيسَ عِندَكَ لي لِخَيرٍ مَطمَعُ
ورحل عنه، فوّجه إليه بألف دينار، فردّها وقال: هيهات، أفلتت قائبة من قوبها! وقال:أبلغ سليمان الأبيات، وأنشد "من البسيط":
وَخَصلَةٍ يُكثِرُ الشَيطانُ إِن ذُكِرَت *** مِنها التَعَجُّبَ جاءَت مِن سُلَيمانا
لا تَعجَبَنَّ لِخَيرٍ زَلَّ عَن يَدِهِ *** فَالكَوكَبُ النَحسُ يَسقي الأَرضَ أَحيانا
وقيل: كان الخليل صديق سليمان بن حبيب، وكثر الزوار، فتشاغل عنهم، فسألوا الخليل يذكره بأمرهم، فكتب إليه "من الكامل":
لا تَقبَلَنَّ الشِعرَ ثُمَّ تَعُقُهُ *** وَتَنامُ وَالشُعَراءُ غَيرُ نَيامِ
وَاِعلَم بِأَنَّهُم إِذا لَم يُنصَفوا *** حَكَموا لِأَنفُسِهِم عَلى الحُكَّامِ
وَجِنايَةُ الجاني عَلَيهِم تَنقَضي *** وَعِتابُهُم يَبقى عَلى الأَيّامِ
وقيل: أراد بعض آل المهلب أن يشتري أرضاً، فأشير عليه أن لايشتريها. وأشار عليها لخليل بشرائها، ففعل فرأى مايحب، فقال الخليل يصفها "من البسيط":
تَرَفَّعَت عَن نَدى الأَعماقِ وَاِنخَفَضَت *** عَنِ المَعاطِشِ وَاِستَغنَت بِسُقياها
فَاِعتَمَّ بِالطَلحِ وَالزَيتونِ أَسفَلَها *** وَمادَ بِالنَخلِ وَالرُمّانِ أَعلاها
وَصارَ يَحسُدُهُ مَن كانَ يَعذِلُهُ *** وَلائِمٌ لامَ فيها قَد تَمَنّاها
أَبا مُعاوِيَةَ اِشكُر فَضلَ واهِبِها *** وَكُلَّما جِئتَها فَاِعمُر مُصلّاها
وقال أيضاً "من الطويل":
إِذا ضاقَ بابُ الرِّزقِ عَنكَ بِبَلدَةٍ *** فثَمَّ بِلادٌ رِزقُها غَيرُ ضَيِّقِ
وَإيَّاكَ وَالسُّكنى بِدَارِ مَذَلَّةٍ *** فَتَشقَى بِكَأسِ الذِّلَّةِ المُتَدفِّقِ
فَمَا ضاقَتِ الدُنيا عَلَيكَ بِرَحبِهَا *** وَلا بابُ رِزقِ اللَّه عَنكَ بِمُغلَقِ
وقال أيضاً "من الوافر":
أَتَبكي بَعدَ شَيبٍ قَد عَلاكا *** وَلا يَنهاكَ شَيبُكَ عَن بُكاكا
فَهَلّا إِذ بَكَيتَ عَلى التَصابي *** بَكَيتُ عَلى الصَبابَةِ في صِباكا
وقال أيضاً "من الوافر":
أَلا يَنهاكَ شَيبُكَ عَن صِباكا *** وَتَترُكَ ما أَضَلَّكَ مِن هَواكا
أَتَرجو أَن يُطيعَكَ قَلبُ سَلمى *** وَتَزعُمَ أَنَّ قَلبَكَ قَد عَصاكا
وقال أيضاً "من الطويل":
وَما بَلَغَ الإِنعامُ في النَفعِ غايَةً *** مِنَ الفَضلِ إِلّا مَبلَغُ الشُكرِ أَفضَلُ
وَما بَلَغَت أَيدي المُنيلينَ بَسطَةً *** مِنَ الطَولِ إِلّا بَسطَةُ الشُكرِ أَطوَل
وَما رَجَحَت بِالمَرءِ يَوماً صَنيعَةٌ *** عَلى المَرءِ إِلّا وَهيَ بِالشُكرِ أَثقَل
وقال أيضاً "من الوافر":
وَما بَقِيَت مِنَ اللَذاتِ إِلّا *** مُحاوَرَةُ الرِجالِ ذَوي العُقولِ
وَقَد كانوا إِذا عُدّوا قَليلاً *** فَقَد صاروا أَقَلَّ مِنَ القَليلِ
وقال أيضاً "من البسيط":
رُزِقتُ جوداً وَلَم أُرزَق مُروءَتَهُ *** وَما المُروءَةُ إِلّا كَثرَةُ المالِ
إِذا أَرَدتُ مُساماةً تُقاعِدني *** عَمّا يُنَوِّهُ بِاِسمي رِقَّةُ الحالِ
وقال أيضاً "من الوافر":
وَهَذا المالُ يُرزَقُهُ رِجالٌ *** مَناديلٌ إِذا اِختُبِروا فَسولُ
وَرِزقُ الخَلقِ مَجلوبٌ إِلَيهم *** مَقاديرٌ يُقَدِّرُها الجَليلُ
كَما تُسقى سَباخُ الأَرضِ رِيّاً *** وَلا بِالمالِ تُقتَسَمُ العُقولُ
كَأَنَّكَ كُنتَ قَد خامَرتَ قَلبي *** فَجِئتَ بِما شَفَيتَ بَهَ الغَليلا
رَأَيتُ بَراعَةَ الإيجازِ أَشفى *** فَصارَ كَثيرُ غَيرِكَ لي قَليلا
وقال أيضاً "من المتدارك":
سُئِلوا فَأَبَوا فَلَقَد بَخِلوا *** فَلَبِئسَ لَعَمرُكَ ما فَعَلوا
أَبَكَيتَ عَلى طَلَلٍ طَرَباً *** فَشَجاكَ وَأَحزَنَكَ الطَلَلُ
وقال أيضاً "من البسيط":
ما اِزدَدتُ في أَدَبي حَرفاً أُسِرُّ بِهِ *** أَلا تَبَيَّنتُ حَرفاً تَحتَهُ شومُ
إِنَّ المُقَدَّمَ في حَذَقٍ بِصَنعَتِهِ *** أَنّى تَوَجَّهَ فيها فَهوَ مَحرومُ
وقال أيضاً "من البسيط":
وَفَّيتُ كُلَّ صَديقٍ وَدَّني ثَمَناً *** إِلّا المُؤَمِّلَ دولاتي وَأَيّامي
فَإِنَّني ضامِنٌ أَلّا أُكافِئَهُ *** إِلّا بِتَسويقِهِ فَضلي وَإِنعامي
وقال أيضاً "من الكامل":
لَيسَ المُسيءُ إِذا تَغَيَّبَ سوءُهُ *** عَنّي بِمَنزِلَةِ المُسيءِ المُعلِنِ
مَن كانَ يُظهِرُ ما أُحِبُّ فَإِنَّهُ *** عِندي بِمَنزِلَةِ الأَمينِ المُحسِنِ
وَاللَهُ أَعلَمُ بِالقُلوبِ وَإِنَّما *** لَكَ ما بَدا لَكَ مِنهُمُ بِالأَلسُنِ
وقال أيضاً "من الوافر":
أَذا ضَيَّقتَ أَمراً زادَ ضيقاً *** وَإِن هَوَّنتَ الأَمرَ هانا
فَلا تَجزَع لِأَمرٍ ضاقَ شَيئاً *** فَكَم صَعبٍ تَشَدَّدَ ثُمَّ لانا
دخل أعرابي مسجد البصرة فطاف على الخلق وسمع ما يقولون حتى صار إلى حلقة
الخليل، فسمعهم يتذاكرون النحو والشعر حتى افضوا إلى دقيق النحو والعروض، فقام عنهم وقال:
ما زال أحدهم في النحو يعجبني *** حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
حتى سمعت كلاماً لست اعرفه *** كأنه زجل الغربان والبوم
رفضت نحوهم والله يعصمني *** من التقحم في تلك الحراثيم
وقيل أنّ أخبار الخليل وعجائبه كثيرة، وشعره قليل لأن شُغله بالعلم كان أكثر منه بقول الشعر
هذا ما تيسّر نقله وليس هذا هو كل شعره
مصدر الأبيات هو الموسوعة الشعرية الإصدار الثالث
ومصدر الأخبار هو كتاب نور القبس للحافظ اليغموري من نفس الموسوعة
قال عنه الإمام الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، شيخ المحدثين،محدث العصر، وخاتمة الحفاظ، شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد ابن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي التركماني الفارقي ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ، في كتاب سير أعلام النبلاء المجلد السابع الصفحة أربع مئة وواحد وثلاثون (7/431) ما نصّه:
(الإِمَامُ، صَاحِبُ العَرَبِيَّةِ، وَمُنْشِئُ عِلْمِ العَرُوضِ، البَصْرِيُّ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ.
حَدَّثَ عَنْ: أَيُّوْبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ، وَالعَوَّامِ بنِ حَوْشَبٍ، وَغَالِبٍ القَطَّانِ.
أَخَذَ عَنْهُ: سِيْبَوَيْه النَّحْوَ، وَالنَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، وَهَارُوْنُ بنُ مُوْسَى النَّحْوِيُّ، وَوَهْبُ بنُ جَرِيْرٍ، وَالأَصْمَعِيُّ، وَآخَرُوْنَ.
وَكَانَ رَأْساً فِي لِسَانِ العَرَبِ، دَيِّناً، وَرِعاً، قَانِعاً، مُتَوَاضِعاً، كَبِيْرَ الشَّأْنِ.
يُقَالُ: إِنَّهُ دَعَا اللهَ أَنْ يَرْزُقَه عِلْماً لاَ يُسبَقُ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَهُ بِالعَرُوضِ، وَلَهُ كِتَابُ (العَيْنِ) فِي اللُّغَةِ.
وَثَّقَهُ: ابْنُ حِبَّانَ.
وَقِيْلَ: كَانَ مُتَقَشِّفاً، مُتَعَبِّداً.
قَالَ النَّضْرُ: أَقَامَ الخَلِيْلُ فِي خُصٍّ لَهُ بِالبَصْرَةِ، لاَ يَقْدِرُ عَلَى فَلْسَيْنِ، وَتَلاَمِذتُهُ يَكسِبُوْنَ بِعِلْمِهِ الأَمْوَالَ، وَكَانَ كَثِيْراً مَا يُنشِدُ:
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ *** ذُخْراً يَكُوْنُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ
وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- مُفْرطَ الذَّكَاءِ.
وُلِدَ: سَنَةَ مائَةٍ.
وَمَاتَ: سَنَةَ بِضْعٍ وَسِتِّيْنَ وَمائَةٍ.
وَقِيْلَ: بَقِيَ إِلَى سَنَةِ سَبْعِيْنَ وَمائَةٍ.
وَكَانَ هُوَ وَيُوْنُسَ إِمَامَيْ أَهْلِ البَصْرَةِ فِي العَرَبِيَّةِ، وَمَاتَ وَلَمْ يُتَمِّمْ كِتَابَ (العَيْنِ)، وَلاَ هَذَّبَهُ، وَلَكِنَّ العُلَمَاءَ يَغرِفُوْنَ مِنْ بَحْرِهِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: الخَلِيْلُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَمْرِو بنِ تَمِيْمٍ الأَزْدِيُّ، قِيْلَ: كَانَ يَعْرِفُ عِلْمَ الإِيقَاعِ وَالنَّغَمِ، فَفَتَحَ لَهُ ذَلِكَ عِلْمَ العَرُوضِ.
وَقِيْلَ: مَرَّ بِالصَّفَّارِيْنَ، فَأَخَذَهُ مِنْ وَقْعِ مِطْرَقَةٍ عَلَى طَسْتٍ.
وَهُوَ مَعْدُوْدٌ فِي الزُّهَّادِ، كَانَ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأُغْلِقُ عَلَيَّ بَابِي، فَمَا يُجَاوِزُهُ هَمِّي.
وَقَالَ: أَكمَلُ مَا يَكُوْنُ الإِنْسَانُ عَقْلاً وَذِهْناً عِنْدَ الأَرْبَعِيْنَ.
وَعَنْهُ، قَالَ: لاَ يَعرِفُ الرَّجُلُ خَطَأَ مُعَلِّمِهِ حَتَّى يُجَالِسَ غَيْرَه.
قَالَ أَيُّوْبُ بنُ المُتَوَكِّلِ: كَانَ الخَلِيْلُ إِذَا أَفَادَ إِنْسَاناً شَيْئاً، لَمْ يُرِهِ بِأَنَّهُ أَفَادَه، وَإِنِ اسْتفَادَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً، أَرَاهُ بِأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْهُ.
قُلْتُ: صَارَ طَوَائِفُ فِي زَمَانِنَا بِالعَكْسِ. ) انتهى كلام الإمام الذهبي (رحمه الله)
سمّي بالفراهيدي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله ابن مالك بن مضر الأزدي البصري كما أورد ذالك ياقوت الحموي في معجم البلدان
وذكر الزبيدي في تاج العروس أن الأصمعي قال للخليل: وما الفراهيد؟ قال: جرو الأسد بلغة عُمان.
وكان الخليل يقول الشعر بالبيتين والثلاثة ونحوها إذ لم يتجاوز التسعة أبيات في ما كتب من الشعر
ومن تصانيفه العين، الجمل، كتاب النغم، كتاب العروض،كتاب الشّواهد، كتاب النقط والشَّكل
وهو أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد وهو من البسيط
صِف خَلقَ خَودِ كَمِثلِ الشَمسِ إِذ بَزَغَت *** يَحظى الضَجيعُ بِها نَجلاءَ مِعطارِ
ويقال أن الخليل لما أراد أن يضع العروض خلا في بيت ووضع بين يديه طستاً أو ما أشبه ذلك، وجعل يقرعه بعود ويقول: فاعلن مستفعلن فعولن، فسمعه أخوه فخرج إلى المسجدوقال: إنّ أخي قد أصابه جنون، وأدخلهم عليه وهو يضرب الطّست. فقالوا: يا أبا عبدالرحمن، ما لك أأصابك شيء؟ أتحبّ أن نعالجك؟ فقال: وما ذاك!!؟ فقالوا: أخوك يزعم أنك خولطت، فقال: من الكامل
لَو كُنتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرتَني *** أَو كُنتَ تَعلَمُ ما تَقولُ عَذَلتُكا
لِكِن جَهِلتَ مَقالَتي فَعَذَلتَني *** وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا
ووجه إليه سليمان بن علي والى الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل لرسول سليمان خبزاً يابساً وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال:
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ *** وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَداً *** يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ
وَإِنَّ بَينَ الغِنى وَالفَقرِ مَنزِلَةً *** مَخطومَةً بِجَديدٍ لَيسَ بِالبالي
الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ *** وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ
إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِهِ *** فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤالِ
وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ *** وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ
وَالمالَ يَغشى أُناساً لا خَلاقَ لَهُم *** كَالسيلِ يَغشى أُصولَ الدَندَنِ البالي
كُلُّ اِمرِىءِ بِسَبيلِ المَوتِ مُرتَهِنٌ *** فَاِعمَل لِنَفسِكَ إِنّي شاغِلٌ بالي
فقطع عنه سليمان الراتب فقال "من المتقارب":
إِنَّ الَّذي شَقَّ فَمي ضامِنُ *** الرِزقِ حَتّى يَتَوَفّاني
حَرَمتَني خَيراً كَثيراً فَما *** زادَكَ في مالِكَ حِرماني
وهو القائل عن نفسه "من البسيط":
اِعمَل بِعِلمي وَإِن قَصَّرتُ في عَمَلي*** يَنفَعكَ عِلمي وَلا يَضرُركَ تَقصيري
وَاُنظَر لِنَفسِكَ فيما أَنتَ فاعِلُهُ *** مِنَ الأُمورِ وَشَمِّر فَوقَ تَشميري
ومن شعره أيضاً "من المتقارب":
وَقَبلَكَ داوى الطَبيبُ المَريضَ *** فَعاشَ المَريضُ وَماتَ الطَبيب
فَكُن مُستَعِدّاً لِداعي الفَناءِ *** فَإِنَّ الَّذي هُوَ آتٍ قَريب
وكان يقول: أشتهي أن أكون عند الله من أرفع الناس وعند الناس من أوسط الناس وعند نفسي من أسفل الناس. وكان يدعو بذلك.- ومر بقوم يتكلمون فيه فقال "من الطويل":
سَأُلزِمُ نَفسي الصَفحَ عَن كُلِّ مُذنِبٍ *** وَإِن كَثُرَت مِنهُ عَلَيَّ الجَرائِمُ
وَما الناسُ إِلّا واحِدٌ مِن ثَلاثَةٍ *** شَريفٌ وَمَشروفٌ وَمَثَلٌ مُقاوِمُ
فَأَمّا الَّذي فَوقي فَأَعرِفُ فَضلَهُ *** وَأُتبِعُ فيهِ الحَقَّ وَالحَقُّ لازِمُ
وَأَمّا الَّذي مِثلي فَإِن زَلَّ أَو هَفا *** تَفَضَّلتُ إِنَّ الفَضلَ بِالعِزِّ حاكِمُ
وَأَمّا الَّذي دوني فَإِن قالَ صُنتُ عَن *** إِجابَتَهِ عَرضي وَإِن لامَ لائِمُ
وكان الخليل قد نظر في النجوم وبالغ وأشرف على مالا يحب، ثم لم يرضها، فأنشأ يقول "من الخفيف":
أَبلِغا عَني المُنَجِّمَ أَنّي *** كافِرٌ بِالَّذي قَضَتهُ الكَواكِب
عَالِمٌ أَنَّ ما يَكونُ وَما كا *** نَ بِحَتمٍ مِنَ المُهَيمِنِ واجِب
شاهِدٌ أَنَّ مَن يُفَوِّضَ أَو يُج *** بِرَ زارٍ عَلى المَقاديرِ كاذِب
وقال أيضاً "من الوافر":
وَما شَيءٌ أَحَبَّ إِلى لَئيمٍ *** إِذا سَبَّ الكِرامَ مِنَ الجَوابِ
مُتارَكَةُ اللَئيمِ بِلا جَوابٍ *** أَشَدُّ عَلى اللَئيمِ مِنَ السِبابِ
وقال أيضاً "من الطويل":
يَقولونَ لي دارُ الأَحِبَّةِ قَد دَنَت *** وأَنتَ كَئيبٌ إِنَّ ذا لَعَجيبُ
فَقُلتُ وَما تُغني الدِيّارُ وَقُربُها *** إِذا لَم يَكُن بَينَ القُلوبِ قَريبُ
وقال أيضاً "من الطويل":
وَأَفضَلُ قَسمِ اللَّهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ *** فلَيسَ مِنَ الخَيراتِ شَيءٌ يُقارِبُه
إِذا أَكمَلَ الرَّحمنُ لِلمَرءِ عَقلَهُ *** فَقَد كَمُلَت أَخلاقُهُ وَضَرائِبُه
يَعيشُ الفَتَى بِالعَقلِ في الناسِ إنَّهُ *** على العَقلِ يَجري عِلمُهُ وتَجارِبُه
وَمَن كانَ غَلاباً بِعَقلٍ وَنجدَةٍ *** فَذو الجَدِّ في أَمرِ المَعيشَةِ غَالِبُه
يَزينُ الفَتَى في النَّاسِ صِحَّةُ عَقلِهِ *** وَإِن كانَ مَحظُوراً عَلَيهِ مَكاسِبُه
ويُزرِي بِهِ في الناسِ قِلَّةُ عَقلِهِ *** وإِن كَرُمَت أَعراقُهُ وَمَناسِبُه
وقال أيضاً "من مجزوء الوافر":
يَعيشُ المَرءُ في أَمَلٍ *** يُرَدِّدُهُ إِلى الأَبَدِ
يُؤَمِّلُ ما يُؤَمِّلُ مِن *** صُنوفِ المالِ وَالوَلَدِ
وَلا يَدري لَعَلَّ المَو *** تَ يَأَتي دونَ بَعدِ غَدِ
فَلا يُبقي لِوالِدِهِ *** وَلا يُبقي عَلى وَلَدِ
وقال أيضاً "منالبسيط":
وَعاجِزُ الرَأيِ مِضياعٌ لِفُرصَتِهِ *** حَتّى إِذا فاتَ أَمرٌ عاتَبَ القَدَرا
وقال أيضاً "من البسيط":
إِن كُنتَ لَستَ مَعي فَالذِكرُ مِنكَ هُنا *** يَرعاكَ قَلبي وَإِن غُيِّبتَ عَن بَصَري
العَينُ تَفقِدُ مَن تَهوى وَتُبصِرُهُ *** وَناظِرُ القَلبِ لا يَخلو مِنَ النَظَرِ
وقال أيضاً "من الطويل":
إِذا كُنتَ لا تَدري وَلَم تَكُ كَالَّذي *** يُشاوِرُ مَن يَدري فَكَيفَ إِذاً تَدري
جَهِلتَ فَلَم تَدرِ بِأَنَّكَ جاهِلٌ *** وَأَنَّكَ لا تَدري بِأَنَّكَ لا تَدري
وَمِن أَعظَمِ البَلوى بِأَنَّكَ جاهِلٌ *** فَمَن لي بِأَن تَدري بِأَنَّكِ لا تَدري
رُبَّ اِمرِىءٍ يَجري وَيَدري بَأَنَّهُ *** إِذا كانَ لا يَدري جَهولٌ بِما يَجري
وقال أيضاً "من الطويل":
وَما هِيَ إِلّا لَيلَةٌ ثُمَّ يَومُها *** وَحَولُ إِلى حَولٍ وَشَهرٌ إِلى شَهرِ
مَطايا يُقَرِّبنَ الجَديدَ إِلى البِلى *** وَيُدنينَ أَشلاءَ الكَريمِ إِلى القَبرِ
وَيَترُكنَ أَزواجَ الغَيورِ لِغَيرِهِ *** وَيَقسِمنَ ما يَحوي الشَحيحُ مِنَ الوَفرِ
وقال أيضاً "من الطويل":
كَتَبتُ بِخَطي ما تَرى في دَفاتِري *** عَنِ الناسِ في عَصري وَعَن كُلِّ غابِرِ
وَلَولا عَزائي أَنَّهُ غَيرُ خالِدٍ *** عَلى الأَرضِ لَاِستَودَعتُهُ في المَقابِرِ
وقال أيضاً "من الطويل":
تَكَثَّر مِنَ الإِخوانِ ما اِسطَعتَ إِنَّهُم *** بُطونٌ إِذا اِستَنجَدتَهُم وَظُهورُ
وَما بِكَثيرٍ أَلفُ خِلٍّ لِعاقِلٍ *** وَإِنَّ عَدُوّاً واحِداً لَكَثيرُ
وقال أيضاً "من المتقارب":
يَدَاكَ يَدٌ خَيرُهَا يُرتَجَى *** وَأُخرَى لِأَعدائِهَا غائِظَه
فَأمَّا الَّتي خَيرُها يُرتَجَى *** فأجود جوداً من اللافِظَه
وَأَمَّا الَّتي يُتَّقَى شَرُّها *** فَنَفسُ العَدُوِّ لَها فائِظَه
خرج أبي والخليل والفضل بن المؤتمن العتكي إلى سليمان بن الحبيب بن المهلب إلى الأهواز، فبدأ بعطاء الإثنين قبل الخليل، فكتب إليه الخليل بأبيات تمثل بها "من الكامل":
وَرَدَ العُفاةُ المُعطَشون فَأَصدَروا *** رِيّاً فَطابَ لَهُم لَدَيكَ المَكرَعُ
وَوَرَدتُ حَوضَكَ ظامِئاً مُتَدَفِّقاً *** فَرَدَدتَ دَلوي شَنُّها يَتَقَعقَعُ
وَأَراكَ تُمطِرُ جانِباً مِن جانِبٍ *** وَفَناءُ أَرضي مِن سَمائِكَ بَلقَعُ
أَبِحُسنِ مَنزِلَتي تُؤخِرُ حاجَتي *** أَم لَيسَ عِندَكَ لي لِخَيرٍ مَطمَعُ
ورحل عنه، فوّجه إليه بألف دينار، فردّها وقال: هيهات، أفلتت قائبة من قوبها! وقال:أبلغ سليمان الأبيات، وأنشد "من البسيط":
وَخَصلَةٍ يُكثِرُ الشَيطانُ إِن ذُكِرَت *** مِنها التَعَجُّبَ جاءَت مِن سُلَيمانا
لا تَعجَبَنَّ لِخَيرٍ زَلَّ عَن يَدِهِ *** فَالكَوكَبُ النَحسُ يَسقي الأَرضَ أَحيانا
وقيل: كان الخليل صديق سليمان بن حبيب، وكثر الزوار، فتشاغل عنهم، فسألوا الخليل يذكره بأمرهم، فكتب إليه "من الكامل":
لا تَقبَلَنَّ الشِعرَ ثُمَّ تَعُقُهُ *** وَتَنامُ وَالشُعَراءُ غَيرُ نَيامِ
وَاِعلَم بِأَنَّهُم إِذا لَم يُنصَفوا *** حَكَموا لِأَنفُسِهِم عَلى الحُكَّامِ
وَجِنايَةُ الجاني عَلَيهِم تَنقَضي *** وَعِتابُهُم يَبقى عَلى الأَيّامِ
وقيل: أراد بعض آل المهلب أن يشتري أرضاً، فأشير عليه أن لايشتريها. وأشار عليها لخليل بشرائها، ففعل فرأى مايحب، فقال الخليل يصفها "من البسيط":
تَرَفَّعَت عَن نَدى الأَعماقِ وَاِنخَفَضَت *** عَنِ المَعاطِشِ وَاِستَغنَت بِسُقياها
فَاِعتَمَّ بِالطَلحِ وَالزَيتونِ أَسفَلَها *** وَمادَ بِالنَخلِ وَالرُمّانِ أَعلاها
وَصارَ يَحسُدُهُ مَن كانَ يَعذِلُهُ *** وَلائِمٌ لامَ فيها قَد تَمَنّاها
أَبا مُعاوِيَةَ اِشكُر فَضلَ واهِبِها *** وَكُلَّما جِئتَها فَاِعمُر مُصلّاها
وقال أيضاً "من الطويل":
إِذا ضاقَ بابُ الرِّزقِ عَنكَ بِبَلدَةٍ *** فثَمَّ بِلادٌ رِزقُها غَيرُ ضَيِّقِ
وَإيَّاكَ وَالسُّكنى بِدَارِ مَذَلَّةٍ *** فَتَشقَى بِكَأسِ الذِّلَّةِ المُتَدفِّقِ
فَمَا ضاقَتِ الدُنيا عَلَيكَ بِرَحبِهَا *** وَلا بابُ رِزقِ اللَّه عَنكَ بِمُغلَقِ
وقال أيضاً "من الوافر":
أَتَبكي بَعدَ شَيبٍ قَد عَلاكا *** وَلا يَنهاكَ شَيبُكَ عَن بُكاكا
فَهَلّا إِذ بَكَيتَ عَلى التَصابي *** بَكَيتُ عَلى الصَبابَةِ في صِباكا
وقال أيضاً "من الوافر":
أَلا يَنهاكَ شَيبُكَ عَن صِباكا *** وَتَترُكَ ما أَضَلَّكَ مِن هَواكا
أَتَرجو أَن يُطيعَكَ قَلبُ سَلمى *** وَتَزعُمَ أَنَّ قَلبَكَ قَد عَصاكا
وقال أيضاً "من الطويل":
وَما بَلَغَ الإِنعامُ في النَفعِ غايَةً *** مِنَ الفَضلِ إِلّا مَبلَغُ الشُكرِ أَفضَلُ
وَما بَلَغَت أَيدي المُنيلينَ بَسطَةً *** مِنَ الطَولِ إِلّا بَسطَةُ الشُكرِ أَطوَل
وَما رَجَحَت بِالمَرءِ يَوماً صَنيعَةٌ *** عَلى المَرءِ إِلّا وَهيَ بِالشُكرِ أَثقَل
وقال أيضاً "من الوافر":
وَما بَقِيَت مِنَ اللَذاتِ إِلّا *** مُحاوَرَةُ الرِجالِ ذَوي العُقولِ
وَقَد كانوا إِذا عُدّوا قَليلاً *** فَقَد صاروا أَقَلَّ مِنَ القَليلِ
وقال أيضاً "من البسيط":
رُزِقتُ جوداً وَلَم أُرزَق مُروءَتَهُ *** وَما المُروءَةُ إِلّا كَثرَةُ المالِ
إِذا أَرَدتُ مُساماةً تُقاعِدني *** عَمّا يُنَوِّهُ بِاِسمي رِقَّةُ الحالِ
وقال أيضاً "من الوافر":
وَهَذا المالُ يُرزَقُهُ رِجالٌ *** مَناديلٌ إِذا اِختُبِروا فَسولُ
وَرِزقُ الخَلقِ مَجلوبٌ إِلَيهم *** مَقاديرٌ يُقَدِّرُها الجَليلُ
كَما تُسقى سَباخُ الأَرضِ رِيّاً *** وَلا بِالمالِ تُقتَسَمُ العُقولُ
كَأَنَّكَ كُنتَ قَد خامَرتَ قَلبي *** فَجِئتَ بِما شَفَيتَ بَهَ الغَليلا
رَأَيتُ بَراعَةَ الإيجازِ أَشفى *** فَصارَ كَثيرُ غَيرِكَ لي قَليلا
وقال أيضاً "من المتدارك":
سُئِلوا فَأَبَوا فَلَقَد بَخِلوا *** فَلَبِئسَ لَعَمرُكَ ما فَعَلوا
أَبَكَيتَ عَلى طَلَلٍ طَرَباً *** فَشَجاكَ وَأَحزَنَكَ الطَلَلُ
وقال أيضاً "من البسيط":
ما اِزدَدتُ في أَدَبي حَرفاً أُسِرُّ بِهِ *** أَلا تَبَيَّنتُ حَرفاً تَحتَهُ شومُ
إِنَّ المُقَدَّمَ في حَذَقٍ بِصَنعَتِهِ *** أَنّى تَوَجَّهَ فيها فَهوَ مَحرومُ
وقال أيضاً "من البسيط":
وَفَّيتُ كُلَّ صَديقٍ وَدَّني ثَمَناً *** إِلّا المُؤَمِّلَ دولاتي وَأَيّامي
فَإِنَّني ضامِنٌ أَلّا أُكافِئَهُ *** إِلّا بِتَسويقِهِ فَضلي وَإِنعامي
وقال أيضاً "من الكامل":
لَيسَ المُسيءُ إِذا تَغَيَّبَ سوءُهُ *** عَنّي بِمَنزِلَةِ المُسيءِ المُعلِنِ
مَن كانَ يُظهِرُ ما أُحِبُّ فَإِنَّهُ *** عِندي بِمَنزِلَةِ الأَمينِ المُحسِنِ
وَاللَهُ أَعلَمُ بِالقُلوبِ وَإِنَّما *** لَكَ ما بَدا لَكَ مِنهُمُ بِالأَلسُنِ
وقال أيضاً "من الوافر":
أَذا ضَيَّقتَ أَمراً زادَ ضيقاً *** وَإِن هَوَّنتَ الأَمرَ هانا
فَلا تَجزَع لِأَمرٍ ضاقَ شَيئاً *** فَكَم صَعبٍ تَشَدَّدَ ثُمَّ لانا
دخل أعرابي مسجد البصرة فطاف على الخلق وسمع ما يقولون حتى صار إلى حلقة
الخليل، فسمعهم يتذاكرون النحو والشعر حتى افضوا إلى دقيق النحو والعروض، فقام عنهم وقال:
ما زال أحدهم في النحو يعجبني *** حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
حتى سمعت كلاماً لست اعرفه *** كأنه زجل الغربان والبوم
رفضت نحوهم والله يعصمني *** من التقحم في تلك الحراثيم
وقيل أنّ أخبار الخليل وعجائبه كثيرة، وشعره قليل لأن شُغله بالعلم كان أكثر منه بقول الشعر
هذا ما تيسّر نقله وليس هذا هو كل شعره
مصدر الأبيات هو الموسوعة الشعرية الإصدار الثالث
ومصدر الأخبار هو كتاب نور القبس للحافظ اليغموري من نفس الموسوعة