أبوأنس بن سلة بشير
01-11-2011, 02:39 PM
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله الذي جعل ذكره رياض الصالحين، ومناجاته غذاء أرواح الفالحين والخضوع بين يديه والتضرع إليه عزّ العارفين، والتخلق بالأخلاق المحمدية والأخلاق النبوية شأن العالمين العاملين. أحمده سبحانه على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ القاصد من فضله سؤله وأمله، وتنيله من بحر جوده ما قصده وأمله، ويعطيه بها من أنوار العرفان ما أشرق قلبه ونوره وكمله. وأشهد أن سيدنا ونبينا ووسيلتنا إلى ربنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، وخليله، المؤيد بأنواع المعجزات الباهرة، المكرم بالمكرمات الباطنة والظاهرة،وعلى آله وأصحابه وأتباعه ووارثيه العلماء العاملين وأحزابه، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين دائبين بدوام ملك الله تعالى وإمداده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته
أمابعد: فهذا ما دعت إليه الحاجة من وضع فوائد فرائد، على نهج منيف، على كتاب «رياض الصالحين» تأليف شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، وعين المحققين، وشيخ الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين، الشيخ أبي زكريا محيى الدين بن شرف النووي الشافعي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، وأعاد عليّ وعلى المسلمين من بركته، لما أنه قد جمع ما يحتاج إليه السالك في سائر الأحوال، واشتمل على ما ينبغي التخلق به من الأخلاق والتمسك به من الأقوال والأفعال. مغترفاً له من عباب الكتاب والسنة النبوية، ناقلاً لتلك الجواهر من تلك المعادن السنية. ولم أقف على كتابة عليه، تكون كالدليل للسالك إليه، فاستخرت الله تعالى ، في وضع هذه الفوائد الفرائدعليه، ليكون كالرامز إليه. والمسؤول من الله سبحانه أن يعين على إتمامه. والسداد في تحرير أحكامه، وأن يجعله مصوناً من الخطأ والخطل، محفوظاً من الزيغ والزلل، خالصاً لوجهه الكريم،والله المعين، وبه أستعين، وسميته(فتح القوي المتين بفوائد الأحاديث رياض الصالحين)
ترجمة الإمام النووي رحمه الله (2)
قال الشيخ الإمام العالم المحدث علاء الدين مفتى المسلمين: أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود العطار رحمه الله، و نفعنا به، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته بمحمد وآله و عترته.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأصحابه الطاهرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شربك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد..
فلما كان لشيخي وقدوي إلى الله تعالى الإمام أبا زكريا يحيى بن شرف الخزامي النووي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنات النعيم، وجمع بيني وبينه في دار كرامته، إنه جواد كريم، على من الحقوق المتكاثرة مالا أطيق إحصاؤها بعثني ذلك على أن في جمع كتاباً فيه مناقبه ومآثره، وكيفية اشتغاله، وما كان عليه من الصبر علىَ خشونة العيش وضيق الحال مع القدرة على التنعيم والسعة في جميع، الأحوال على عادة أئمة الحديث في ذلك. ليكون سبباً للرحمة عليه، والدعاء له، وفقنا الله لما وفقه، ورزقنا ما رزقه، فقد روينا بالإسناد إلى سفيان بن عيينه - رضي الله عنه - انه قال: - (عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة).(3)
و روينا بإسنادنا إلى محمد بن يونس - رحمه الله - أنه قال: - (ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين).
و على الله الكريم، و إليه أبتهل أن ييسّر ذلك أكمل الوجوه و أتمها، إنه على كل شيء قدير، و هو حسبي و نعم الوكيل، و لا حول و لا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
فصل في نسبه و نسبته
هو أبو زكريا يحيى بن الشيخ الزاهد الورع ولى الله أبى يحيى شرف بن مري، بن حسن بن حسين، بن محمد، بن جمعة، بن حزام (بالحاء المهملة والزاي المعجمة) الحزامي، ذو التصانيف المفيدة، والمؤلفات الحميدة، أوحد دهره وفريد عصره، الصوام القوام، الزاهد في، الدنيا الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق المرضية والمحاسن السنية، العالم الرباني، المتفق على علمه، وإمامته وجلالته، وزهده، وورعه، وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله، وحالته، له الكرامات الطافحة والمكرمات الواضحة، المؤثر بنفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين، وكان كثير التلاوة والذكر لله تعالى حشرنا الله تعالى في زمرته، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته مع من اصطفاه من خليقته أهل الصفا والوفا والود، العاملين بكتاب الله تعالى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وأما نسبته الحزامي (فهي بالحاء والزاي ) نسبه إلى جده المذكور حزام، وذكر الشيخ المذكور رحمه الله أن بعض أجداده كان يزعم أنها نسبة إلى حزام بن حكيم الصحافي - رضى الله عنه، وهو غلط. وحزام جده نزل في (الجولان) بقرية (نوى) على عادة العرب، فأقام بها ورزقه الله ذرية إلى أن صار منهم خلق كثير.
والنووي نسبة إلى (نوى) المذكورة (وهى بحذف الألف بين الواوين على الأصل، ويجوز كتبها بالألف على العادة) وهى قاعدة الجولان ألان من أرض حوران من أعمال دمشق، لأنه أقام بها نحوا من ثمانية وعشرين سنة.
وقد قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله - : (من أقام في بلدة أربع سنين نسبب إليها).
فصل في مولده و وفاته رضي الله عفه
مولده: فهو في العشر الأواسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وذكر لي بعض الصالحين الكبار: أنه ولد وكتب من الصاد قين.
وذكر لي والده أن الشيخ كان نائماً إلى جنبه، وقد بلغ من العمر سبع سنين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، قال: فإنتبه نحو نصف الليل وأيقظني وقال: يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعاً فلم نر كلنا شيئاً.
قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر.
وأما وفاته رحمه الله: فهي ليلة الأربعاء الثلث الأخير من الليل الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة بنوى، ودفن فيها صبيحة الليلة المذكورة، وكانت وفاته عقيب واقعة جدّت لبعض الصالحين بأمره بزيارة القدس الشريف والخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فامتثل الأمر، وتوفى عقبها.
فصل في مبدأ أمر، اشتغاله
ذكر لي الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي - ولي الله - رحمه الله قال: رأيت الشيخ محيي الدين، وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي، لإكراههم، ويقرأ القرآن في هذه الحالة فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام.
وقال لي الشيخ رحمه الله: لما كان عمري تسع عشرة سنة قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي على الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.
قال: وحفظت التنبيه. في نحو أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة.
قال: وجعلت أشرح - وأصحح على شيخي الإمام الزاهد العالم الورع ذي الفضائل والمعارف:أبى إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي الشافعي رحمه الله تعالى، ولازمته.
قال: فأعجب بي لما - رأي من اشتغالي وملازمتي وعدم اختلاطي بالناس، وأحبني محبة شديدة وجعلني أعيد الدرس لأكثر الجماعة.
قال: فلما كان سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وكان رحيلنا من أول رجب قال: فأقمت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من شهر ونصف.
قال لي والده رحمه الله: لما توجهنا من (نوى) للرحيل أخذته الحمى فلم تفارقه إلى يوم عرفة قال: ولم يتأوه قط، فلما قضينا مناسكنا ووصلنا إلى (نوى) ونزل إلى دمشق صب الله عليه العلم صبا، ولم يزل يشتغل بالعلم ويقتفى آثار شيخه المذكور في العبادة من الصلاة وصيام الدهر، والزهد والورع وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى رحمه الله تعالى ورضى عنه، فلما توفى شيخه ازداد اشتغاله بالعلم والعمل.
قال لي شيخنا القاضي أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري رضي الله عنه: لو أدرك القشيري. صاحب الرسالة شيخكم وشيخه لما قدم عليهما في ذكره لمشايخها أحداً لما جمع فيها من العلم والعمل والزهد والورع والنطق بالحكم وغير ذلك.
وذكر لي شيخي - قدس الله روحه - قال: كنت أقرأ كل يوم أثنى عشر درساً على المشايخ شرحا وتصحيحاً، درسين في الوسيط ودرساً في المهذب.
ودرساً في (الجمع بين الصحيحين) أو درسا في صحيح مسلم، ودرساً في (اللمح) لابن جني في النحو، ودرساً في (إصلاح المنطق) بإبن السكيت في اللغة، ودرساً في التصريف ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين.
قال: وكنت أعلق ما يتعلق بها من شرح مشكل، ووضح عبارة، وضبط لغة.
قال رحمه الله: وبارك الله له في وقتي واشتغالي وأعانني عليه.
قال: وخطر لي الاشتغال بعلم الطب فاشتريت كتاب القانون فيه، وعرضت على الاشتغال فيه فاظلم على قلبي، وبقيت لا أقدر على الاشتغال بشيء ففكرت في أمري، ومن أين دخل على الداخل، فألهمني الله تعالى أن سببه اشتغالي بالطب فبعت في الحال الكتاب، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب فأستنار قلبي، ورجع إلى حالي، وعدت على ما كنت عليه أولاً.
فصل في ذكر شيوخه في الفقه رضي الله عنه
واذكرهم مسلسلاً مني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أنا فقرأت عليه الفقه تصحيحا وعرضاًً وشرحاً وضبطا، خاصاً وعاماً.
وعلم الحديث مختصره وغيره، تصحيحاً وضبطاً، وشرحاً وبحثاً وتعليقاً، خاصاً وعاماً، وكان - رحمه الله - رفيقاِ بي شفيقاً على، لا يمكن أحداً من خدمته غيري، على جهد مني في طلب ذلك منه، مع مراقبته لي - رحمه الله - في حركاتي وسكناتي، ولطفه بي في جميع ذلك، وتواضعه معي في جميع الحالات وتأديبه لي في كل شيء حتى الخطوات، وأعجز عن حصر ذلك، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه ضبطاً واتقاناً، وأذن لي - رحمه الله - في إصلاح ما يقع في تصانيفه، فأصلحت بحضرته أشياء، فكتبه بخطه، و أقرني عليه، ودفع إلى درج فيه عدة الكتب التي كان يكتب منها، ويصنف بخطه، وقال لي: إذا انتقلت إلى الله تعالى فأتم شرح المهذب من هذه الكتب، فلم يقدر ذلك لي، وكانت صحبتي له دون غيره من أول سنة سبعين وستمائة وقبلها بيسير إلى حين وفاته.
قال المؤلف - رحمه الله - قال لي شيخي أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي - رحمه الله - : أخذت الفقه قراءة وتصحيحا وسماعا وشرحا وتعليقا من جماعات: أولهم شيخي الإمام المتفق على علمه وزهده وورعه وكثرة عبادته وعظم فضله وتميزه في ذلك على إشكاله: أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، كمال الدين ثم المقدسي. رحمه الله ثم شيخنا أبو حفص عمر بن أسعد ين أبى غالب الرَبَعي (بفتح الراء والياء) الإربلي، والإمام المتقن المفتى، كمال الدين رحمه الله، وأدركته أنا، وحضرت بين يديه، وسمعت عليه جزء أبى الجهم العلا ابن موسى الباهلي، وكان شيخنا كثير الأدب معه حتى كنا في الحلقة بين يديه فقام منها، وملأ إبريقاً وحمله بين يديه إلى الطهارة رحمهما الله.
قال: ثم شيخنا الإمام المجمع على إمامته وحجتهِ و تقدمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي: أبو الحسن سلارين الإربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي، كمال الدين رضي الله عنه، وأدركته أنا وحضرت جنازته مع شيخنا رضي الله عنهم.
قال: وتفقه شيوخنا المذكورون أولاً على شيخهم أبى عمرو وعثمان ابن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح، وتفقه هو على والده وتفقه والده في طريق العراقيين على أبى سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموصلي، وتفقه أبو سعد على القاضي أبى على الحسين ابن إبراهيم الفارقي، وتفقه الفارقي على أبى إسحاق الشيرازي، وتفقه أبو إسحاق على القاضي أبى الطيب طاهر بن طاهر بن عبد الله الطبري، وتفقه أبى الطيب على أبى الحسين محمد بن على بن سهل بن مصلح الماسرجسي، و تفقه الماسرجسي على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروزي، و تفقه أبو إسحاق على أبو العباس أحمد بن سريج و تفقه بن سريج على أبي القاسم عثمان ابن بشار الاغاطي، و تفقه الاغاطي على إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، و تفقه المزني على أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، و تفقه الشافعي على جماعات منهم أبو عبد الله مالك بن أنس إمام المدينة، و مالك على ربيعة عن أنس و على نافع عن أبن عمر كلاهما عن النبي صلى الله عليه و سلم.
و الشيخ الثاني للشافعي سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن ابن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
والشيخ الثالث: أبو خالد مسلم بن خالد، المعروف بالزنجي، مفتى مكة، وتفقه مسلم على أبى الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، وتفقه ابن جريح على أبى محمد عطاء بن مسلم بن أبي رباح، و تفقه عطاء على أبي العباس عبد الله بن عباس، وأخذ أبن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وعن عمر بن الخطاب وعن زيد بن ثابت وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه طريقة أصحابنا العراقيين.
وأما طريقة أصحابنا الخراسانيين فأخذتها عن شيوخنا المذكورين وأخذها شيوخنا الثلاثة المذكورين عن أبى عمرو عن والده عن أبى القاسم بن البزري (بتقديم الزاي على الراء) عن أبى الحسن على بن محمد بن علي إليكا الهراسي عن أبى المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، إمام الحرمين عن والده أبى محمد، عن أبى بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير وهو إمام طريقة خراسان عن أبى زيد محمد بن أحمد عبد الله بنت محمد المروزي عن أبى إسحاق المروزي عن ابن سريج كما سبق، وتفقه شيخنا الإمام العالم أبو الحسن سلأر على جماعات منهم الإمام أبو بكر الماهاني، وتفقه الماهاني على ابن البرزي بطريقه السابق، والله أعلم.
فمعرفة هذه السلسلة من النفائس والمهم الذي يتعين على الفقيه والمتفقه علمه، و يقبح به جهله، والشيوخ في العلم آباء له في الدين، ووصلة بين العبد وبين رب العالمين.
قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: العلماء أرأف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم لأنهم يحفظونهم من نار الآخرة، وأهوالها وآباؤهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها يعنى الآباء العلماء، وأما الآباء الجهال فلا يحفظونهم لا في الدنيا ولا في الآخرة والله أعلم.
فصل في شيوخه الذين أخذ عنهم أصول الفقه
قرأ على جماعهم أشهرهم وأجلهم العلامة القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التغليسي الشافعي رحمه الله تعالى قرأ عليه المنتخب للإمام فخر الدين الرازي وقطعة من كتاب المستصفى الغزالي، وقرأ غيرهما من الكتب على غيره.
فصل فيمن أخذ منه اللغة والنحو التصريف
أول من أخذ عنه ذلك فخر الدين بن المالكي رضي الله عنه ذكر لي الشيخ رحمه الله ونفعنا به انه قرأ عليه كتاب اللمع لأبن جني، وانه قرأ على الشيخ أبى العباس أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي التصريفي بحثا كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وكتابا في التصريف. قال: وكان لي عليه درس إما في سيبويه و أما في غيره (والشك منى).
وقرأ على شيخنا العلامة أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني رحمه الله كتابا من تصانيفه وعلق عليه شيئاً، وأشياء كثيرة غير ذلك.
فصل فيمن اخذ عنه فقه الحديث و أسماء رجاله و ما يتعلق به
أخذ فقه الحديث عن الشيخ المحقق أبى إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي الشافعي رحمه الله، شرح عليه مسلماً وقرأ البخاري وجملة مستكثرة من الجمع بين الصحيحين للحميدي وأخذ علوم الحديث لابن الصلاح عن جماعة من أصحابه، وقرأ على الشيخ أبى البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي الحافظ كتاب الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني المقدسي وعلق عليه حواشي، وضبط عنه أشياء حسنة.
فصل في الكتب التي سمعها
سمع البخاري، ومسلماً، وسنن أبي داود، والترمذي، وسمع النسائي بقراءته وموطأ مالك، ومسند الشافعي.
وأحمد بن حنبل و الدارمي و أبي عوانه الاسفرايني و أبى يعلى الموصلي. و سنن أبن ماجه و الدار قطني وشرح السنة للبغوي ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب وأخرى كثيرة غير ذلك تعلق ذلك جمعيه من خط الشيخ رحمه الله تعالى، وقُرأ عليه (البخاري ومسلم " بدار الحديث الأشرفية سماعاً وبحثاً، وحضرت مسلماً وأكثر البخاري وقطعه من سنن أبى داود. وقرأ عليه الرسالة للقشيري، و (صفوة الكفوة) وكتاب " الحجة على تارك الحجة " للنصر المقدس سماعاً وبحثاً، وحضرت معظم ذلك، وعلقت عنه أشياء في ذلك وغيره فرحمه الله تعالى ورضى عنه.
فصل في شيوخه الذين سمع منهم
سمع أبا الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر، ومحمد بن أحمد المقدسي وهو أجل شيوخه، وأبا إسماعيل بن أبى إسحاق إبراهيم ابن أبى اليسر وأبا العباس أحمد بن عبد الدائم، وأبو البقاء خالد النابلسي، وأبا محمد عبد العزيز بن عبد الله محمد بن عبد المحسن الأنصاري، والضياء بن تمام الحيصي، والحافظ أبا الفضل محمد بن محمد البكري، وأبا الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد خطيب دمشق، وأبا محمد عبد الرحمن بن سالم ين يحيى الأبناري، وأبا زكريا يحيى بن الفتح الصيرفي الحراني، وأبا إسحاق إبراهيم بن على بن أحمد بن فاضل الواسطي وغيرهم.
وسمعت أنا من معظم شيوخه.
فصل فيمن سمع منه
وسمع منه خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق، ووقع على دينه وعلمه وزهده وورعه و معرفته وكرامته الوفاق، وانتفع الناس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيل تواليفه حتى رأيت من كنان سناها في حياته مجتهدا على تحصيلها وانتفاع بها بعد وفاته فرحمه الله ورضى عنه، وجمع بيننا وبينه في جناته.
فصل في شغل أوقاته كلها بالعلم و العمل
ذكر لي رحمه الله أنه كان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا في نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرار أو مطالعة، وأنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين.
ثم اشتغل بالتصنيف والأشتغال و الافادة والمناصحة للمسلمين وولاتهم مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، و إن كان بعيد المراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من السوء، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في علمه ولفنونه حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم عارفاً بأنواعه كلها من صحيحه وسقيمه وغرب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه حافظاً المذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، وما أشتهر من ذلك جميعه، ومازال سالكاً في كل ذلك من طريقة السلف.
قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل فبعضها للتصنيف وبعضها للتعليم، وبعضها للصلاة، وبعضها للتلاوة، وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذكر لي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن أبى الفتح البعلي الحنبلي الفاضل نفع الله به في حياة الشيخ رض الله عنه قال: كنت في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة وهو يردد قوله تعالى (وَقِفُوهُم إنهم مَّسْئُولُونَ)، مراراً بنحيب وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك شيء الله به عليم، وكان رضي الله عنه إذا ذكر الصالحين ذكرهم بتعظيم وتوقير واحترام وسودهم وذكر مناقبهم وكراماتهم.
فصل في كراماته
ذكر لي شيخنا العارف القدوة المسلك ولي الدين أبو الحسن علي، المقيم بجامع بيت لهيا خارج دمشق، قال: كنت مريضاً بمرض يسمى (النقرس) في رجلي فعادني الشيخ محيي الدين - قدس الله روحه - العزيز فلما جلس عندي شرع يتكلم في الصبر قال: فكلما تكلم جعل الألم يذهب قليلاً قليلاً فلم يزل يتعَلم فيه حتى زال جميع الألم، وكأن لم يكن قط.
قال: وكنت قبل ذلك لم أنم الليل كله من الألم، فعرفت أن زوال الألم من بركته رضي الله عنه.
وذكر لي صاحبنا في القراءة على الشيخ رحمه الله لمعرفة السنن للطحاوي الشيح العلامة المفتي رشيد الدين إسماعيل بن المعلم الحنفي رحمه الله قال: كنت عذلت الشيخ محيي الدين رحمه الله في عدم دخوله الحمام وتضييق عيشه في أكله ولبسه وجميع أحواله.
وقلت له: أخشى عليك مرضاً يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده قال فقال: إن فلاناً صام وعبد الله تعالى حتى اخضر عظمه.
قال: فعرفت إنه ليس له غرض في المقام في دارنا ولا يلتفت إلى ما نحن فيه.
ورأيت رجلاً من أصحابه قشر له خيارة ليطعمه إياها، فأمتنع عن أكلها، وقال: أخثس أن يرطب جسمى، ويجلب النوم.
وكان رضي الله عنه لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، وكان لا يشرب الماء المبرد وكان لا يأكل فاكهه دمشق فسألته عن ذلك فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وإملاك من هو تحت الحجر شرعاً والتصرف لهم لا يجوز لأوجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيه اختلاف بين العلماء: فمن جوزها قال: جوزها بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. وقال لي الشيخ العارف المحقق المكاشف أبو عبد الرحيم الأخميمي. قدس الله روحه ونور ضريحه: كان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه سالكاً منهاج الصحابة. رضي الله عنهم، ولا أعلم في عصرنا سالكا، منهاجهم غيره.
وكتب شيخنا أبو عبد الله محمد الظهير، الحنفي الأربلي شيخ الأدب في وقته رحمه الله تعالى في كتاب (العمدة في تصحيح التنبيه)، للشيخ قدس الله روحه وسألني مقابلته معه بنسختي ليكون له رواية عنه مني، فلما فرغنا من ذلك قال لي: ما وصل الشيخ تقي الدين بن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ محيى الدين من الفقه والعلم والحديث واللغة وعذوبة اللفظ و العبارة.
فصل في كتبه
صنف - رحمه الله - كتبا في الحديث والفقه عم النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها منها: المنهاج في الفقه، وشرح مسلم، ومنها المبهمات، ورياض الصالحين، والأذكار، وكتاب الأربعين، والتيسير في مختصر الإرشاد في علوم الحديث. ومنها الإرشاد، ومنها التحرير في ألفاظ التنبيه، والعمدة في صحيح التنبيه، والإيضاح في المناسك، والإيجاز في المناسك، والمناسك الثالث والرابع والخامس والسادس، ومنها التبيان في آداب حملة القرآن ومختصره، ومنها مسألة الغنيمة، وكتاب القيام، ومنها كتاب الفتاوي ورتبته أنا، ومنها الروضة في مختصر شرح الرافعي، ومنها المجموع في شرح المهذب إلى المعراة.
ومنها كتب ابتدأها ولم يتمها، عاجلته المنية، وقطعة في شرح التنبيه، و قطعة في شرح البخاري، وقطعة يسيره في شرح سنن أبي داود، وقطعة في الإسناد على حديث الأعمال والنيات، وقطعة في الأحكام، وقطعة كبيرة في التهذيب للأسماء واللغات، وقطعة مسودة في طبقات الفقهاء، ومنها قطعة في التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر، ومنها كتاب المنهاج في مختصر المحور للرافعي وشرح ألفاظه منه، ومسودات كثيرة. ولقد أمرني ببيع كراريس نحو ألف كراس بخطه وأمرني بأن أقف على غسلها في الوراقة، وخوفني إن خالفت أمره في ذلك فما أمكنني إلا طاعته، وإلى الآن في قلبي منها حسرات.
ولما اختصر المحرر للرافعي رحمه الله المسمى (بالمنهاج) حفظه بعد موته خلق كثير، ووقف عليه في حياته شيخنا الأديب الفاضل رشيد الدين أبو حفص إسماعيل بن مسعود الفارقي شيخ الأدب في وقته، فامتدحه بأبيات حسنة، وقف عليها الشيخ بخطه:
واعتنى بالفضل يحيى فاغتنى ... من بسيط بوجيز نافع
وتجلى بتقاه فضله ... فتجلى بلطيف جامع
ناصباً أعلام علم جازما ... بمقال رافع المواقع
وكان ابن الصلاح حاضراً ... وكأن ما غاب عنا الشافعي
قال شيخنا العلامة حجة العرب شيخ النحاه، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني رحمه الله وذكر المنهاج لي بعد أن كان وقف عليه، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لحفظته، وأثنى على حسن اختصاره وعذوبة ألفاظه.
فصل في قناعته و تواضعه واستعداده للموت
وكان رحمه الله لا يأخذ من أحد شيئا، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علاقه من اقراء وانتفاع به قاصداً الخروج من حديث القوس، والجزاء في الدار الآخرة وربما أنه كان يرى نشر العلم متعيناً عليه مع قناعة نفسه وصبرها، والأمور المتعينة لا يجوز أخذ الجزاء عليها في دار الدنيا بل جزاؤه في الدار الآخرة شرعاً كالقرض الجار إلى منفعه فإنها حرام باتفاق العلماء.
وكنت جالسا بين يديه قبل انتقاله بشهرين ونحوها، وإذا بفقير قد دخل عليه وقال: الشيخ فلان يسلم عليك من بلاد صرخا، وأرسل معي هذا الإبريق لك، فقبله الشيخ وأمرنى بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت من قبوله فشعر بتعجبي وقال: أرسل إلى بعض فقراء زدبولا، وهذا إبريق فهذه آلة السفر.
ثم بعد أيام يسيره كنت عنده فقال لي قد أذن في السفر، فقلت كيف أذن لك؟ قال: أنا جالس هنا يعني ببيته في المدرسة الرواحية وقدامه طاقة مشرفة عليها مستقبلة القبلة إذ مر على شخص في الهوى ومر هنا. ومن كذا (يشير من غرب المدرسة إلى شرقها) وقال قم سافر لزيارة بيت المقدس. وقد حملت كلام الشيخ على سفر العادة فإذا هو السفر الحقيقي. ثم قال: قم حتى تودع أصحابنا وأصحابنا فخرجت معه إلى القبور الذي دفن بها بعض مشايخه فزارهم، وقرأ شيئاً، ودعا وبكى ثم زار أصحابه الأحياء كالشيخ يوسف القفاعي والشيخ محمد الأخميمي وشيخنا الشيخ شمس الدين ابن أبي عمر شيخ الحنابلة. ثم سافر صبيحة ذلك اليوم، و جرى لي معه وقائع، ورأيت منه أمور تحتمل مجلدات، فسار إلى نوى، و زار القدس والخليل عليه السلام ثم عاد إلى نوى، و مرض عقب زيارته بها في بيت والده فبلغني مرضه، فذهبت من دمشق لعيادته ففرح رحمه الله ثم قال لي: ارجع إلى اهلك و ودعته وقد أشرف على العافية يوم السبت العشرين من رجب سنة ست و سبعين و ستمائة ثم توفي ليلة الأربعاء المتقدم ذكرها الرابع و العشرين من رجب فبينما أنا نائم تلك الليلة مناد ينادي على سدة جامع دمشق في يوم جمعة الصلاة على الشيخ ركن الدين المرقع، فصاح الناس لذلك النداء فاستيقظت فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، فلم يكن إلا ليلة الجمعة عشية الخميس إذ جاء الخبر بموته، و صلى عليه رحمه الله فنودي يوم الجمعة عقيب الصلاة بموته و صلى عليه بجامع دمشق، و تأسف المسلمون عليه تأسفاً بليغاً الخاص و العام، و المداح و الذام و رثاه الناس بمراثي كثيرة سيأتي ذكرها آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل في ذكر المراثي التي رثاه بها العلماء
قرأت على شيخنا العلامة شيخ الأدب أبى عبد الله محمد. أحمد بن عمر بن شاكر الحنفي الأربلي رحمه الله وكان مدرساً للقيمازية بدمشق.
قلت رضي الله عنك وكان ذلك في العشر الأول من شعبان سنة ست وسبعين وستمائة.
عزً العزاء وعَم الحادث الجَللُ ... وخاب بالموت في تَعميرك الأجل
واستَوْحشَتْ بعد ما كنت الأنيس بها ... وَساءَها فَقْدُك الأسخار و الاصل
وكنت تَتلو كتاب الله مُعتبراً ... ولايعتريك على تكراره مَللُ
وقد كنْتَ للدين نوراً يستضاءُ به ... مسدداً منك فيه القولُ والعمل
وكنت في سنة المختارمجتهداً ... وأنت باليُمن والتوفيق مُشتَملُ
وكنت زَيْناً لأهل العلِم مُفتخراً ... على جَديد كساهم ثوبك السَّمَل
وكنتً اسبغهم ظِلاً إذا اسستعَرتْ ... هواجرَ الجهل والأطلال ينتقلُ
كسلك ربكَ أوصافاً مُجملةً ... يضيق عن حصرها التفصيلُ والجملُ
اسلى كمالك من قوم مَضنوا بدلا ... وعن كماك لا مثل ولا بدل
فمثلُ فقْدك ترتاع العقولُ له ... وفَقد مِثلكَ جرح ليس يَندمِل
زهدتَ في باطل الدنيا وزخرفها ... عزما وحزماً فمضروب بك المثلُ
أعرضت عنها احتقاراً غير مُحتفلٍ ... وأنتَ بالسعي في أخراك مُحتفلُ
عزفتَ عن شهوات مالعَزم فتىً ... بها سِواك إذا عَنتَ له قِبلُ
اسهرتَ في العلم عيناً لمَ تَذق سِنةً ... إلا وأنت به في الحلم مشتَغلُ
يا لهف حفلِ عظيم كنت بهجتهُ ... وحله فعراه بعدك العَطلُ
فطالبوا العلم من دان ومُغترب ... نالوا بيمُنك منهُ فوق ما أمِلوا
حاروا لغيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليه السهلُ والحيلُ
تُرى ذَرَى تُربه من غيبوه به ... أو نعشُه من على أعواده حملوا؟
عناه شُغلهم دهراً وعاذ لهم ... بلا عج الوجْد عن أشغالهم شغلُ
يامحيى الدين كم غادرت من كبدٍ ... حرّي عليك وعين دمعها هطلُ
وكم مُقام كحد السيف لا جَلدُ ... تقوي على هَوْله فيه ولا جدلُ
أمرتَ فيه بحمد الله منتضِيا ... وسيفاً من العزم كم يُصنع له خللُ
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمسةٍ هامه الجوزاء تنتعل
عالجت نفسسك والأذواء مسلمه ... حتى استقامت وحتى زالت العلل
بالغت بالتعب الفاني رضي ملك ... ثوابهُ في جنان الخُلد متصل
ضيفُ الكريم جدير أن يُضاف به ... إلى الكرامة من ألطافه نُزلُ
بَررت أهليك في داريك مُحتسباً ... فقد تكافأ فيك الحزن والجذلُ
فجعت بالأمس ليلاً كنت ساهره ... لله والنوم قد طابت به المقلُ
رَجاك نور نهار وكُنت صائمه ... إذا الهجير بنار النُفس مشتعلُ
لا زال مَثواك مثوى كل عارفه ... وروضة القصر من سُحب الرْضا خَضِلُ
إلى متى بغرور تطمئن ولا ... الملوك رُد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حِمى من حمام جحفل لجب ... ولا حصون منيعات ولا قُللَ
ياساهماً لا هياً مسن هولِ مصرعه ... وضاحك السِّنِّ منه يضحك الأجلُ
لا تُخل نفسك من زاد فانك مِن ... حين النفاس مع الأنفاس مُرتحِلُ
وما قام يديم السير يتبعه ... إلى محل بلاهُ سائقُ عجلُ
قال شيخنا ناظمها نجزت بحمد الله تعالى ومنه خمسه وثلاثون بيتاً.
والجلل (بفتح الجيم): هو الأمر العظيم، ويستعمل في الحقير، وينصرف إلى أحدهما بالقرينة.
قال : فقدك مرفوع الدال نصيره.
واستوحشت الأسحار : وساها الفقد عتب أي عرضت. واللهف: الحزن العُطل (بفتح العين) أي: خلا.
والظاهر عند التحلي هَامة الجوزاء : أعلاها البلاعح (بكر البلاء الموحدة) بعارض وهو الغرق.
بررت أهليلك في الدارين: من حيث أنهما صبرا على موته فاثنوا عليه.
وقرأ الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب رحمه الله بدار الحديث النورية مرثاه نظمها وأنا أسمع، وكان قرأ على الشيخ قدس الله روحه قطعه من المنهاج في محضر المحرر، واستنسخ الروضة له، وقابلت له بعضها مع الشيخ، وأصلحت بأملائه رضي. الله عنه مواضع فيها، وهى:
وأكْتُم حزني والمدامع تُبدْيه ... لِفَقد امرئ كُلُّ البرية تبْكيه
رأى الناسُ منه زهدَ يحيى سَميه ... وتقواه فيما كان يُبْدى ويُخفيه
ولم يَرْضَ بالدُنيا ولا مَال لحظة ... إلى عيشتها فالله لا شك يرضيه
فليس له في زهده وخشوعه ... وتجريده في الناس مثل يُدانيه
تحلى بأوصاف النبي وصَحبه ... وتابعهم هَدْياً فمن ذا يُناويه
وشمر عن سَاق اجتهاد يُعلم ... الجهُول ويهديه السبيل ويلًقيهِ
وكان رؤوف بالضعيف وطالب ... العلوم يوفيه الجواب ويدنيه
إذا ماسدَّد الخصم حجة ... فان ضل عن قصد المحجة يُهديه
ومن جاء يسْتفتيه يدنى محله ... ويجلسه بالقرب منه ويفتيه
تصانيفه في كل علم بديعة ... وأبدع منه ما يقول ويمُليه
حديثُ رسول الله والفقه دَأبُهُ ... فصنف في هذا وهذاك يرويه
ويتلوا كتاب الله سراً وجهرة ... بفكر في تفسيره ومعانيه
يرى الموت حلوا في إمانة بدعة ... وكم سُنة أحيى بصدق مساعيه
فطوبى له ما شاقه طيف مطعم ... ولا ملبس رقت ولانت حواشيه
دائر مع فقريه وخصاصة ... على نفسه جودا بما كان يحويه
تفرق في أهل العلوم محاسن ... وقد جمعت أوصافهم كلها فيه
شكى فَقْده عِلْم الحديث وحفْظهُ ... وأهلوه والكتب الصحاح وقرايه
ولاحَ على وَجْه العلوم كآبة ... تُخبر أن الدَّين قد مات مُحيْيْه
مضى وله علم تجدد ذكره ... وينشره فالدهر هيهات يطويه
وعم بلاد المسلمين مصابه ... وخص دمشقا بالرزية ناعي
وكم نلت من خير له في حياته ... وبعد مماتي في معادي ارجيه
وما كنت أرجو أن أوخر بعده ... فاندبه بعد الممات وارشيه
فلو أنه يفدى بأهلي وجيرتي ... ومالي ونفسي كنت والله أفديه
ولكنه الموت الذي قهر الورى ... فما منهم إلا مجيب لداعيه
إذا عُدم الإسلام أشرَف أهله ... فحق لنا في ذا المصاب نُعزيه
فحيا الحيا قبراً به راح ساكنا ... ليروي ثري ذاك الضريح وواديه
و رثاه قارئ دار الحديث الاشرفية، و الاخذ عن الشيخ، الفاضل المحدث أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله الكاتب الأديب المصري ثم الدمشقي.
وقال: نظمتها راثياً مشايخي رحمهم الله وسمعتها من لفظه وهي:
الحَمدُ لله العظيم الهادي ... جَلت محاَمده عن التعدادي
ربُّ علىَّ في مجده وجلالهِ ... عمن يُضاهيه من الأنداد
جل الذي هو واحد في ملكه ... مِنْ غير صاحبة ولا أولاد
خلقَ الورى والخَلقُ أظهارا لما ... يخفى من الملك العظيم البادي
قسَمْ الخلائق كيف شاء فكلهم ... ملك له من رائح أو غادي
فقضى لمن قد شاء بالإبعاد ... وقضى لمن قد شاء بالإسعاد
وقضاؤه عدلُ وليس بجائر ... إذ كان مالكهم بلا ترداد
رحم الأنام فأرسل الرسل الكرام ... الراشدين بواضح الإرشاد
والله شرفنا بفضل نبينا ... المبعوث حقاً رحمة لعباد
فأتى بقران عظيم باهر ... فيه الهدي أكرمْ به من هادي
وحديثه يُشفي الصدور نوره ... يَحي القلوب به و يروي الضادي
وأقام للدين المتين أئمة ... يهدي الورى فهم نجوم بلاد
نرجوهم بين الخلائق رحمة ... ومماتهم علم بقرب معادِ
فالعلم مقبوض بقبض نفوسهم ... قد جاء ذاك من النبي الهادي
فلقد فقدنا سادة في دهرنا ... نورُ العباد وعصمة الرواد
ابن الصلاح إمامنا خير الورى ... وبقية العلماء و العبادِ
والشيخ عز الدين أوحد دهره ... وكذا السخاوي الرحيب النادي
وكذا أبو عمر الإمام وشيخنا ... الحبر الخطيب ملقب بعماد
وكذا شهاب الدين شيخ بارع ... في كل علم ثابت الاطوادِ
وكذاك محيي الدين فاق بزُهدهِ ... وبفقهه الفقها مع الزُهادِ
القانت الأواب والحَبْر الذي ... نصرَا الشريعة دائما بجهاد
تَبْكيه دار للحديث وأهلها ... لخُلوْها من فضله المعتاد
لم يَبق بعدَك للصحيح مُعَّرفُ ... قد كنت فيه جهْبذا النقاد
من ذا يبين مرسلاً من مُسند ... أو من حديث عُدَّ في الأفراد
أو كان مقطوعاً ضعيفاً مُعضلاً ... أو كان موضوعاً لذي إلحاد
أو من يبين منكراً في مَتْنِهِ ... أو من يعرَف عِلَة الإسنْادِ
من ذا لِدفع المنكرات وقد غَدَتْ ... بين الأنام كثيرة التردادِ
أنهكت جسمك بالصيام مراضياً ... وسهرتَ غير ممتع رقادِ
ونَصرْتَ دين الله وحدك جاهداً ... ورفعت منه شَبهة المراد
حتى حصلت على علوم جمة ... وفسرت أخبار النبي الهادي
تُشفي النفوس إذا أجيب سؤال ... من يلقى عليك دقائق الإيراد
الواضحات من الأدلة كلها ... ونص القران بذهنك الوقاد
وزهدت في الدنيا وفى لذتها ... وكُتبت عند الله في الزهادِ
أوحشت حلق إذا فقدت وأهلها ... من بعد أنس خالص وواددِ
يبكيك جامع حلق لما خلا ... منه تهجده على الأباد
يبكيه صحَبُ كان يجمع شَملهم ... فيه بشرح شارح لفؤادي
يا حبذا تلك الخلائق والنهي ... ما كان أبردها على الأكباد
يا حبذا من مستشار ناصح ... بمشورة تأتي بكل رشاد
قد كنت غيثاً للبلاد وأهلها ... تسعى بك الأرضون عند جهادِ
وقد كنت نوراً للبلاد وأهلها ... قد عاد بعدك مبدلاً بسواد
فبكينه لما ثوي بثرى نوى ... وفائي فقد أصمى صميم فؤادي
فقد سلبناه وبدل قربه ... لما حواه لحده له بيعاد
قد كان يسلينا محاسن علمه ... عن سالف الأباء والأجداد
أتري يعود لنا ليالي أنسكم ... هيهات لكن ذاك يوم معادِ
حقا البكا على الإمام لفقدكم ... حزناً وحق تفتت الأكباد
تَركوا منازلهم وساروا سرعة ... تتري كأنهم حداهم حادي
غدتْ المنونَ عليهم فتتابعوا ... فكأنما كانوا على ميعاد
ماذا اَمل بعدهم من لذة ... تبقى وهم كانوا جميع فؤادي
يا صائرا هدْا المصير إلا أشفق ... من عقلة تردي وطول رقادي
واعمل لنفسك قبل سكنان الثرى ... وَتصير في لحد من الألحاد
لا تستطيع إذا لنفسك حيلة ... وأحذر هواك فهو بالمرصاد
ما الناس إلا غافلون عن الهدى ... في هذه الدنيا سوي الزهاد
يا رب فاجبر كسرناً فيمن مضى ... منهم وأقظنا لاستعداد
واختم لنا بالخير عند مماتنا ... أنت الكريم وملجأ القصاد
والحمد لله المهيمن دائماً ... ثم الصلاة على النبي الهادي
وآل والأصحاب ثم سلامه ... ما عزّت ورق على الأعوادِ
(1) مقدمة دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للإمام محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي رحمه الله ( مع شيء من الإختصار مني )
(2) تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي للحافظ ابن العطار رحمه الله ( مع شيء من الإختصار مني )
(3) قال الإمام السَّخاوي رحمه الله في ( المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) ص 467
حديث ( عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة )
قال شيخنا لا أستحضره مرفوعا وسبقه لذلك شيخه العراقي فقال في تخريج الإحياء ليس له أصل في المرفوع وإنما هو قول سفيان بن عيينة كذا ذكره ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة قلت وسأل أبو عمرو بن تجيد أبا جعفر بن حمدان وهما صالحان بأي نية أكتب الحديث فقال ألستم ترون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة قال نعم قال فرسول الله رأس الصالحين
ـ وقال الإمام الملا علي القاري رحمه الله في ( الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة المعروف بالموضوعات الكبرى)(ص 249)
قال العسقلاني لا أصل له وقال العراقي في تخريج الإحياء ليس له أصل في المرفوع وإنما هو قول سفيان بن عيينة لكن قال ابن الصلاح في علوم الحديث روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد ابن حمدان وكانا عبدين صالحين فقال له״ بأي نية أكتب الحديث ؟ قال:ألستم ترون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ فقال: نعم، قال فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين ״انتهى
ولم ينبه على ذلك العراقي في نكته عليه كذا ذكره بعضهم
لكن اللفظ إن كان تروون بواوين من الرواية فيدل في الجملة على أنه حديث وله أصل وإن كان ترون من الرؤية مجهولا أو معلوما فلا دلالة فيه إذ معناه تعتقدون أو تظنون
الحمد لله الذي جعل ذكره رياض الصالحين، ومناجاته غذاء أرواح الفالحين والخضوع بين يديه والتضرع إليه عزّ العارفين، والتخلق بالأخلاق المحمدية والأخلاق النبوية شأن العالمين العاملين. أحمده سبحانه على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ القاصد من فضله سؤله وأمله، وتنيله من بحر جوده ما قصده وأمله، ويعطيه بها من أنوار العرفان ما أشرق قلبه ونوره وكمله. وأشهد أن سيدنا ونبينا ووسيلتنا إلى ربنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، وخليله، المؤيد بأنواع المعجزات الباهرة، المكرم بالمكرمات الباطنة والظاهرة،وعلى آله وأصحابه وأتباعه ووارثيه العلماء العاملين وأحزابه، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين دائبين بدوام ملك الله تعالى وإمداده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته
أمابعد: فهذا ما دعت إليه الحاجة من وضع فوائد فرائد، على نهج منيف، على كتاب «رياض الصالحين» تأليف شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، وعين المحققين، وشيخ الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين، الشيخ أبي زكريا محيى الدين بن شرف النووي الشافعي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، وأعاد عليّ وعلى المسلمين من بركته، لما أنه قد جمع ما يحتاج إليه السالك في سائر الأحوال، واشتمل على ما ينبغي التخلق به من الأخلاق والتمسك به من الأقوال والأفعال. مغترفاً له من عباب الكتاب والسنة النبوية، ناقلاً لتلك الجواهر من تلك المعادن السنية. ولم أقف على كتابة عليه، تكون كالدليل للسالك إليه، فاستخرت الله تعالى ، في وضع هذه الفوائد الفرائدعليه، ليكون كالرامز إليه. والمسؤول من الله سبحانه أن يعين على إتمامه. والسداد في تحرير أحكامه، وأن يجعله مصوناً من الخطأ والخطل، محفوظاً من الزيغ والزلل، خالصاً لوجهه الكريم،والله المعين، وبه أستعين، وسميته(فتح القوي المتين بفوائد الأحاديث رياض الصالحين)
ترجمة الإمام النووي رحمه الله (2)
قال الشيخ الإمام العالم المحدث علاء الدين مفتى المسلمين: أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود العطار رحمه الله، و نفعنا به، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته بمحمد وآله و عترته.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأصحابه الطاهرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شربك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد..
فلما كان لشيخي وقدوي إلى الله تعالى الإمام أبا زكريا يحيى بن شرف الخزامي النووي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنات النعيم، وجمع بيني وبينه في دار كرامته، إنه جواد كريم، على من الحقوق المتكاثرة مالا أطيق إحصاؤها بعثني ذلك على أن في جمع كتاباً فيه مناقبه ومآثره، وكيفية اشتغاله، وما كان عليه من الصبر علىَ خشونة العيش وضيق الحال مع القدرة على التنعيم والسعة في جميع، الأحوال على عادة أئمة الحديث في ذلك. ليكون سبباً للرحمة عليه، والدعاء له، وفقنا الله لما وفقه، ورزقنا ما رزقه، فقد روينا بالإسناد إلى سفيان بن عيينه - رضي الله عنه - انه قال: - (عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة).(3)
و روينا بإسنادنا إلى محمد بن يونس - رحمه الله - أنه قال: - (ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين).
و على الله الكريم، و إليه أبتهل أن ييسّر ذلك أكمل الوجوه و أتمها، إنه على كل شيء قدير، و هو حسبي و نعم الوكيل، و لا حول و لا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
فصل في نسبه و نسبته
هو أبو زكريا يحيى بن الشيخ الزاهد الورع ولى الله أبى يحيى شرف بن مري، بن حسن بن حسين، بن محمد، بن جمعة، بن حزام (بالحاء المهملة والزاي المعجمة) الحزامي، ذو التصانيف المفيدة، والمؤلفات الحميدة، أوحد دهره وفريد عصره، الصوام القوام، الزاهد في، الدنيا الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق المرضية والمحاسن السنية، العالم الرباني، المتفق على علمه، وإمامته وجلالته، وزهده، وورعه، وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله، وحالته، له الكرامات الطافحة والمكرمات الواضحة، المؤثر بنفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين، وكان كثير التلاوة والذكر لله تعالى حشرنا الله تعالى في زمرته، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته مع من اصطفاه من خليقته أهل الصفا والوفا والود، العاملين بكتاب الله تعالى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وأما نسبته الحزامي (فهي بالحاء والزاي ) نسبه إلى جده المذكور حزام، وذكر الشيخ المذكور رحمه الله أن بعض أجداده كان يزعم أنها نسبة إلى حزام بن حكيم الصحافي - رضى الله عنه، وهو غلط. وحزام جده نزل في (الجولان) بقرية (نوى) على عادة العرب، فأقام بها ورزقه الله ذرية إلى أن صار منهم خلق كثير.
والنووي نسبة إلى (نوى) المذكورة (وهى بحذف الألف بين الواوين على الأصل، ويجوز كتبها بالألف على العادة) وهى قاعدة الجولان ألان من أرض حوران من أعمال دمشق، لأنه أقام بها نحوا من ثمانية وعشرين سنة.
وقد قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله - : (من أقام في بلدة أربع سنين نسبب إليها).
فصل في مولده و وفاته رضي الله عفه
مولده: فهو في العشر الأواسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وذكر لي بعض الصالحين الكبار: أنه ولد وكتب من الصاد قين.
وذكر لي والده أن الشيخ كان نائماً إلى جنبه، وقد بلغ من العمر سبع سنين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، قال: فإنتبه نحو نصف الليل وأيقظني وقال: يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعاً فلم نر كلنا شيئاً.
قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر.
وأما وفاته رحمه الله: فهي ليلة الأربعاء الثلث الأخير من الليل الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة بنوى، ودفن فيها صبيحة الليلة المذكورة، وكانت وفاته عقيب واقعة جدّت لبعض الصالحين بأمره بزيارة القدس الشريف والخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فامتثل الأمر، وتوفى عقبها.
فصل في مبدأ أمر، اشتغاله
ذكر لي الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي - ولي الله - رحمه الله قال: رأيت الشيخ محيي الدين، وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي، لإكراههم، ويقرأ القرآن في هذه الحالة فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام.
وقال لي الشيخ رحمه الله: لما كان عمري تسع عشرة سنة قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي على الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.
قال: وحفظت التنبيه. في نحو أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة.
قال: وجعلت أشرح - وأصحح على شيخي الإمام الزاهد العالم الورع ذي الفضائل والمعارف:أبى إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي الشافعي رحمه الله تعالى، ولازمته.
قال: فأعجب بي لما - رأي من اشتغالي وملازمتي وعدم اختلاطي بالناس، وأحبني محبة شديدة وجعلني أعيد الدرس لأكثر الجماعة.
قال: فلما كان سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وكان رحيلنا من أول رجب قال: فأقمت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من شهر ونصف.
قال لي والده رحمه الله: لما توجهنا من (نوى) للرحيل أخذته الحمى فلم تفارقه إلى يوم عرفة قال: ولم يتأوه قط، فلما قضينا مناسكنا ووصلنا إلى (نوى) ونزل إلى دمشق صب الله عليه العلم صبا، ولم يزل يشتغل بالعلم ويقتفى آثار شيخه المذكور في العبادة من الصلاة وصيام الدهر، والزهد والورع وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى رحمه الله تعالى ورضى عنه، فلما توفى شيخه ازداد اشتغاله بالعلم والعمل.
قال لي شيخنا القاضي أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري رضي الله عنه: لو أدرك القشيري. صاحب الرسالة شيخكم وشيخه لما قدم عليهما في ذكره لمشايخها أحداً لما جمع فيها من العلم والعمل والزهد والورع والنطق بالحكم وغير ذلك.
وذكر لي شيخي - قدس الله روحه - قال: كنت أقرأ كل يوم أثنى عشر درساً على المشايخ شرحا وتصحيحاً، درسين في الوسيط ودرساً في المهذب.
ودرساً في (الجمع بين الصحيحين) أو درسا في صحيح مسلم، ودرساً في (اللمح) لابن جني في النحو، ودرساً في (إصلاح المنطق) بإبن السكيت في اللغة، ودرساً في التصريف ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين.
قال: وكنت أعلق ما يتعلق بها من شرح مشكل، ووضح عبارة، وضبط لغة.
قال رحمه الله: وبارك الله له في وقتي واشتغالي وأعانني عليه.
قال: وخطر لي الاشتغال بعلم الطب فاشتريت كتاب القانون فيه، وعرضت على الاشتغال فيه فاظلم على قلبي، وبقيت لا أقدر على الاشتغال بشيء ففكرت في أمري، ومن أين دخل على الداخل، فألهمني الله تعالى أن سببه اشتغالي بالطب فبعت في الحال الكتاب، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب فأستنار قلبي، ورجع إلى حالي، وعدت على ما كنت عليه أولاً.
فصل في ذكر شيوخه في الفقه رضي الله عنه
واذكرهم مسلسلاً مني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أنا فقرأت عليه الفقه تصحيحا وعرضاًً وشرحاً وضبطا، خاصاً وعاماً.
وعلم الحديث مختصره وغيره، تصحيحاً وضبطاً، وشرحاً وبحثاً وتعليقاً، خاصاً وعاماً، وكان - رحمه الله - رفيقاِ بي شفيقاً على، لا يمكن أحداً من خدمته غيري، على جهد مني في طلب ذلك منه، مع مراقبته لي - رحمه الله - في حركاتي وسكناتي، ولطفه بي في جميع ذلك، وتواضعه معي في جميع الحالات وتأديبه لي في كل شيء حتى الخطوات، وأعجز عن حصر ذلك، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه ضبطاً واتقاناً، وأذن لي - رحمه الله - في إصلاح ما يقع في تصانيفه، فأصلحت بحضرته أشياء، فكتبه بخطه، و أقرني عليه، ودفع إلى درج فيه عدة الكتب التي كان يكتب منها، ويصنف بخطه، وقال لي: إذا انتقلت إلى الله تعالى فأتم شرح المهذب من هذه الكتب، فلم يقدر ذلك لي، وكانت صحبتي له دون غيره من أول سنة سبعين وستمائة وقبلها بيسير إلى حين وفاته.
قال المؤلف - رحمه الله - قال لي شيخي أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي - رحمه الله - : أخذت الفقه قراءة وتصحيحا وسماعا وشرحا وتعليقا من جماعات: أولهم شيخي الإمام المتفق على علمه وزهده وورعه وكثرة عبادته وعظم فضله وتميزه في ذلك على إشكاله: أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، كمال الدين ثم المقدسي. رحمه الله ثم شيخنا أبو حفص عمر بن أسعد ين أبى غالب الرَبَعي (بفتح الراء والياء) الإربلي، والإمام المتقن المفتى، كمال الدين رحمه الله، وأدركته أنا، وحضرت بين يديه، وسمعت عليه جزء أبى الجهم العلا ابن موسى الباهلي، وكان شيخنا كثير الأدب معه حتى كنا في الحلقة بين يديه فقام منها، وملأ إبريقاً وحمله بين يديه إلى الطهارة رحمهما الله.
قال: ثم شيخنا الإمام المجمع على إمامته وحجتهِ و تقدمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي: أبو الحسن سلارين الإربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي، كمال الدين رضي الله عنه، وأدركته أنا وحضرت جنازته مع شيخنا رضي الله عنهم.
قال: وتفقه شيوخنا المذكورون أولاً على شيخهم أبى عمرو وعثمان ابن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح، وتفقه هو على والده وتفقه والده في طريق العراقيين على أبى سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموصلي، وتفقه أبو سعد على القاضي أبى على الحسين ابن إبراهيم الفارقي، وتفقه الفارقي على أبى إسحاق الشيرازي، وتفقه أبو إسحاق على القاضي أبى الطيب طاهر بن طاهر بن عبد الله الطبري، وتفقه أبى الطيب على أبى الحسين محمد بن على بن سهل بن مصلح الماسرجسي، و تفقه الماسرجسي على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروزي، و تفقه أبو إسحاق على أبو العباس أحمد بن سريج و تفقه بن سريج على أبي القاسم عثمان ابن بشار الاغاطي، و تفقه الاغاطي على إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، و تفقه المزني على أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، و تفقه الشافعي على جماعات منهم أبو عبد الله مالك بن أنس إمام المدينة، و مالك على ربيعة عن أنس و على نافع عن أبن عمر كلاهما عن النبي صلى الله عليه و سلم.
و الشيخ الثاني للشافعي سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن ابن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
والشيخ الثالث: أبو خالد مسلم بن خالد، المعروف بالزنجي، مفتى مكة، وتفقه مسلم على أبى الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، وتفقه ابن جريح على أبى محمد عطاء بن مسلم بن أبي رباح، و تفقه عطاء على أبي العباس عبد الله بن عباس، وأخذ أبن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وعن عمر بن الخطاب وعن زيد بن ثابت وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه طريقة أصحابنا العراقيين.
وأما طريقة أصحابنا الخراسانيين فأخذتها عن شيوخنا المذكورين وأخذها شيوخنا الثلاثة المذكورين عن أبى عمرو عن والده عن أبى القاسم بن البزري (بتقديم الزاي على الراء) عن أبى الحسن على بن محمد بن علي إليكا الهراسي عن أبى المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، إمام الحرمين عن والده أبى محمد، عن أبى بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير وهو إمام طريقة خراسان عن أبى زيد محمد بن أحمد عبد الله بنت محمد المروزي عن أبى إسحاق المروزي عن ابن سريج كما سبق، وتفقه شيخنا الإمام العالم أبو الحسن سلأر على جماعات منهم الإمام أبو بكر الماهاني، وتفقه الماهاني على ابن البرزي بطريقه السابق، والله أعلم.
فمعرفة هذه السلسلة من النفائس والمهم الذي يتعين على الفقيه والمتفقه علمه، و يقبح به جهله، والشيوخ في العلم آباء له في الدين، ووصلة بين العبد وبين رب العالمين.
قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: العلماء أرأف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم لأنهم يحفظونهم من نار الآخرة، وأهوالها وآباؤهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها يعنى الآباء العلماء، وأما الآباء الجهال فلا يحفظونهم لا في الدنيا ولا في الآخرة والله أعلم.
فصل في شيوخه الذين أخذ عنهم أصول الفقه
قرأ على جماعهم أشهرهم وأجلهم العلامة القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التغليسي الشافعي رحمه الله تعالى قرأ عليه المنتخب للإمام فخر الدين الرازي وقطعة من كتاب المستصفى الغزالي، وقرأ غيرهما من الكتب على غيره.
فصل فيمن أخذ منه اللغة والنحو التصريف
أول من أخذ عنه ذلك فخر الدين بن المالكي رضي الله عنه ذكر لي الشيخ رحمه الله ونفعنا به انه قرأ عليه كتاب اللمع لأبن جني، وانه قرأ على الشيخ أبى العباس أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي التصريفي بحثا كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وكتابا في التصريف. قال: وكان لي عليه درس إما في سيبويه و أما في غيره (والشك منى).
وقرأ على شيخنا العلامة أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني رحمه الله كتابا من تصانيفه وعلق عليه شيئاً، وأشياء كثيرة غير ذلك.
فصل فيمن اخذ عنه فقه الحديث و أسماء رجاله و ما يتعلق به
أخذ فقه الحديث عن الشيخ المحقق أبى إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي الشافعي رحمه الله، شرح عليه مسلماً وقرأ البخاري وجملة مستكثرة من الجمع بين الصحيحين للحميدي وأخذ علوم الحديث لابن الصلاح عن جماعة من أصحابه، وقرأ على الشيخ أبى البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي الحافظ كتاب الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني المقدسي وعلق عليه حواشي، وضبط عنه أشياء حسنة.
فصل في الكتب التي سمعها
سمع البخاري، ومسلماً، وسنن أبي داود، والترمذي، وسمع النسائي بقراءته وموطأ مالك، ومسند الشافعي.
وأحمد بن حنبل و الدارمي و أبي عوانه الاسفرايني و أبى يعلى الموصلي. و سنن أبن ماجه و الدار قطني وشرح السنة للبغوي ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب وأخرى كثيرة غير ذلك تعلق ذلك جمعيه من خط الشيخ رحمه الله تعالى، وقُرأ عليه (البخاري ومسلم " بدار الحديث الأشرفية سماعاً وبحثاً، وحضرت مسلماً وأكثر البخاري وقطعه من سنن أبى داود. وقرأ عليه الرسالة للقشيري، و (صفوة الكفوة) وكتاب " الحجة على تارك الحجة " للنصر المقدس سماعاً وبحثاً، وحضرت معظم ذلك، وعلقت عنه أشياء في ذلك وغيره فرحمه الله تعالى ورضى عنه.
فصل في شيوخه الذين سمع منهم
سمع أبا الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر، ومحمد بن أحمد المقدسي وهو أجل شيوخه، وأبا إسماعيل بن أبى إسحاق إبراهيم ابن أبى اليسر وأبا العباس أحمد بن عبد الدائم، وأبو البقاء خالد النابلسي، وأبا محمد عبد العزيز بن عبد الله محمد بن عبد المحسن الأنصاري، والضياء بن تمام الحيصي، والحافظ أبا الفضل محمد بن محمد البكري، وأبا الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد خطيب دمشق، وأبا محمد عبد الرحمن بن سالم ين يحيى الأبناري، وأبا زكريا يحيى بن الفتح الصيرفي الحراني، وأبا إسحاق إبراهيم بن على بن أحمد بن فاضل الواسطي وغيرهم.
وسمعت أنا من معظم شيوخه.
فصل فيمن سمع منه
وسمع منه خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق، ووقع على دينه وعلمه وزهده وورعه و معرفته وكرامته الوفاق، وانتفع الناس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيل تواليفه حتى رأيت من كنان سناها في حياته مجتهدا على تحصيلها وانتفاع بها بعد وفاته فرحمه الله ورضى عنه، وجمع بيننا وبينه في جناته.
فصل في شغل أوقاته كلها بالعلم و العمل
ذكر لي رحمه الله أنه كان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا في نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في تكرار أو مطالعة، وأنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين.
ثم اشتغل بالتصنيف والأشتغال و الافادة والمناصحة للمسلمين وولاتهم مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، و إن كان بعيد المراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من السوء، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في علمه ولفنونه حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم عارفاً بأنواعه كلها من صحيحه وسقيمه وغرب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه حافظاً المذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، وما أشتهر من ذلك جميعه، ومازال سالكاً في كل ذلك من طريقة السلف.
قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل فبعضها للتصنيف وبعضها للتعليم، وبعضها للصلاة، وبعضها للتلاوة، وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذكر لي صاحبنا أبو عبد الله محمد بن أبى الفتح البعلي الحنبلي الفاضل نفع الله به في حياة الشيخ رض الله عنه قال: كنت في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة وهو يردد قوله تعالى (وَقِفُوهُم إنهم مَّسْئُولُونَ)، مراراً بنحيب وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك شيء الله به عليم، وكان رضي الله عنه إذا ذكر الصالحين ذكرهم بتعظيم وتوقير واحترام وسودهم وذكر مناقبهم وكراماتهم.
فصل في كراماته
ذكر لي شيخنا العارف القدوة المسلك ولي الدين أبو الحسن علي، المقيم بجامع بيت لهيا خارج دمشق، قال: كنت مريضاً بمرض يسمى (النقرس) في رجلي فعادني الشيخ محيي الدين - قدس الله روحه - العزيز فلما جلس عندي شرع يتكلم في الصبر قال: فكلما تكلم جعل الألم يذهب قليلاً قليلاً فلم يزل يتعَلم فيه حتى زال جميع الألم، وكأن لم يكن قط.
قال: وكنت قبل ذلك لم أنم الليل كله من الألم، فعرفت أن زوال الألم من بركته رضي الله عنه.
وذكر لي صاحبنا في القراءة على الشيخ رحمه الله لمعرفة السنن للطحاوي الشيح العلامة المفتي رشيد الدين إسماعيل بن المعلم الحنفي رحمه الله قال: كنت عذلت الشيخ محيي الدين رحمه الله في عدم دخوله الحمام وتضييق عيشه في أكله ولبسه وجميع أحواله.
وقلت له: أخشى عليك مرضاً يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده قال فقال: إن فلاناً صام وعبد الله تعالى حتى اخضر عظمه.
قال: فعرفت إنه ليس له غرض في المقام في دارنا ولا يلتفت إلى ما نحن فيه.
ورأيت رجلاً من أصحابه قشر له خيارة ليطعمه إياها، فأمتنع عن أكلها، وقال: أخثس أن يرطب جسمى، ويجلب النوم.
وكان رضي الله عنه لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، وكان لا يشرب الماء المبرد وكان لا يأكل فاكهه دمشق فسألته عن ذلك فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وإملاك من هو تحت الحجر شرعاً والتصرف لهم لا يجوز لأوجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيه اختلاف بين العلماء: فمن جوزها قال: جوزها بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. وقال لي الشيخ العارف المحقق المكاشف أبو عبد الرحيم الأخميمي. قدس الله روحه ونور ضريحه: كان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه سالكاً منهاج الصحابة. رضي الله عنهم، ولا أعلم في عصرنا سالكا، منهاجهم غيره.
وكتب شيخنا أبو عبد الله محمد الظهير، الحنفي الأربلي شيخ الأدب في وقته رحمه الله تعالى في كتاب (العمدة في تصحيح التنبيه)، للشيخ قدس الله روحه وسألني مقابلته معه بنسختي ليكون له رواية عنه مني، فلما فرغنا من ذلك قال لي: ما وصل الشيخ تقي الدين بن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ محيى الدين من الفقه والعلم والحديث واللغة وعذوبة اللفظ و العبارة.
فصل في كتبه
صنف - رحمه الله - كتبا في الحديث والفقه عم النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها منها: المنهاج في الفقه، وشرح مسلم، ومنها المبهمات، ورياض الصالحين، والأذكار، وكتاب الأربعين، والتيسير في مختصر الإرشاد في علوم الحديث. ومنها الإرشاد، ومنها التحرير في ألفاظ التنبيه، والعمدة في صحيح التنبيه، والإيضاح في المناسك، والإيجاز في المناسك، والمناسك الثالث والرابع والخامس والسادس، ومنها التبيان في آداب حملة القرآن ومختصره، ومنها مسألة الغنيمة، وكتاب القيام، ومنها كتاب الفتاوي ورتبته أنا، ومنها الروضة في مختصر شرح الرافعي، ومنها المجموع في شرح المهذب إلى المعراة.
ومنها كتب ابتدأها ولم يتمها، عاجلته المنية، وقطعة في شرح التنبيه، و قطعة في شرح البخاري، وقطعة يسيره في شرح سنن أبي داود، وقطعة في الإسناد على حديث الأعمال والنيات، وقطعة في الأحكام، وقطعة كبيرة في التهذيب للأسماء واللغات، وقطعة مسودة في طبقات الفقهاء، ومنها قطعة في التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر، ومنها كتاب المنهاج في مختصر المحور للرافعي وشرح ألفاظه منه، ومسودات كثيرة. ولقد أمرني ببيع كراريس نحو ألف كراس بخطه وأمرني بأن أقف على غسلها في الوراقة، وخوفني إن خالفت أمره في ذلك فما أمكنني إلا طاعته، وإلى الآن في قلبي منها حسرات.
ولما اختصر المحرر للرافعي رحمه الله المسمى (بالمنهاج) حفظه بعد موته خلق كثير، ووقف عليه في حياته شيخنا الأديب الفاضل رشيد الدين أبو حفص إسماعيل بن مسعود الفارقي شيخ الأدب في وقته، فامتدحه بأبيات حسنة، وقف عليها الشيخ بخطه:
واعتنى بالفضل يحيى فاغتنى ... من بسيط بوجيز نافع
وتجلى بتقاه فضله ... فتجلى بلطيف جامع
ناصباً أعلام علم جازما ... بمقال رافع المواقع
وكان ابن الصلاح حاضراً ... وكأن ما غاب عنا الشافعي
قال شيخنا العلامة حجة العرب شيخ النحاه، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني رحمه الله وذكر المنهاج لي بعد أن كان وقف عليه، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لحفظته، وأثنى على حسن اختصاره وعذوبة ألفاظه.
فصل في قناعته و تواضعه واستعداده للموت
وكان رحمه الله لا يأخذ من أحد شيئا، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علاقه من اقراء وانتفاع به قاصداً الخروج من حديث القوس، والجزاء في الدار الآخرة وربما أنه كان يرى نشر العلم متعيناً عليه مع قناعة نفسه وصبرها، والأمور المتعينة لا يجوز أخذ الجزاء عليها في دار الدنيا بل جزاؤه في الدار الآخرة شرعاً كالقرض الجار إلى منفعه فإنها حرام باتفاق العلماء.
وكنت جالسا بين يديه قبل انتقاله بشهرين ونحوها، وإذا بفقير قد دخل عليه وقال: الشيخ فلان يسلم عليك من بلاد صرخا، وأرسل معي هذا الإبريق لك، فقبله الشيخ وأمرنى بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت من قبوله فشعر بتعجبي وقال: أرسل إلى بعض فقراء زدبولا، وهذا إبريق فهذه آلة السفر.
ثم بعد أيام يسيره كنت عنده فقال لي قد أذن في السفر، فقلت كيف أذن لك؟ قال: أنا جالس هنا يعني ببيته في المدرسة الرواحية وقدامه طاقة مشرفة عليها مستقبلة القبلة إذ مر على شخص في الهوى ومر هنا. ومن كذا (يشير من غرب المدرسة إلى شرقها) وقال قم سافر لزيارة بيت المقدس. وقد حملت كلام الشيخ على سفر العادة فإذا هو السفر الحقيقي. ثم قال: قم حتى تودع أصحابنا وأصحابنا فخرجت معه إلى القبور الذي دفن بها بعض مشايخه فزارهم، وقرأ شيئاً، ودعا وبكى ثم زار أصحابه الأحياء كالشيخ يوسف القفاعي والشيخ محمد الأخميمي وشيخنا الشيخ شمس الدين ابن أبي عمر شيخ الحنابلة. ثم سافر صبيحة ذلك اليوم، و جرى لي معه وقائع، ورأيت منه أمور تحتمل مجلدات، فسار إلى نوى، و زار القدس والخليل عليه السلام ثم عاد إلى نوى، و مرض عقب زيارته بها في بيت والده فبلغني مرضه، فذهبت من دمشق لعيادته ففرح رحمه الله ثم قال لي: ارجع إلى اهلك و ودعته وقد أشرف على العافية يوم السبت العشرين من رجب سنة ست و سبعين و ستمائة ثم توفي ليلة الأربعاء المتقدم ذكرها الرابع و العشرين من رجب فبينما أنا نائم تلك الليلة مناد ينادي على سدة جامع دمشق في يوم جمعة الصلاة على الشيخ ركن الدين المرقع، فصاح الناس لذلك النداء فاستيقظت فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، فلم يكن إلا ليلة الجمعة عشية الخميس إذ جاء الخبر بموته، و صلى عليه رحمه الله فنودي يوم الجمعة عقيب الصلاة بموته و صلى عليه بجامع دمشق، و تأسف المسلمون عليه تأسفاً بليغاً الخاص و العام، و المداح و الذام و رثاه الناس بمراثي كثيرة سيأتي ذكرها آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل في ذكر المراثي التي رثاه بها العلماء
قرأت على شيخنا العلامة شيخ الأدب أبى عبد الله محمد. أحمد بن عمر بن شاكر الحنفي الأربلي رحمه الله وكان مدرساً للقيمازية بدمشق.
قلت رضي الله عنك وكان ذلك في العشر الأول من شعبان سنة ست وسبعين وستمائة.
عزً العزاء وعَم الحادث الجَللُ ... وخاب بالموت في تَعميرك الأجل
واستَوْحشَتْ بعد ما كنت الأنيس بها ... وَساءَها فَقْدُك الأسخار و الاصل
وكنت تَتلو كتاب الله مُعتبراً ... ولايعتريك على تكراره مَللُ
وقد كنْتَ للدين نوراً يستضاءُ به ... مسدداً منك فيه القولُ والعمل
وكنت في سنة المختارمجتهداً ... وأنت باليُمن والتوفيق مُشتَملُ
وكنت زَيْناً لأهل العلِم مُفتخراً ... على جَديد كساهم ثوبك السَّمَل
وكنتً اسبغهم ظِلاً إذا اسستعَرتْ ... هواجرَ الجهل والأطلال ينتقلُ
كسلك ربكَ أوصافاً مُجملةً ... يضيق عن حصرها التفصيلُ والجملُ
اسلى كمالك من قوم مَضنوا بدلا ... وعن كماك لا مثل ولا بدل
فمثلُ فقْدك ترتاع العقولُ له ... وفَقد مِثلكَ جرح ليس يَندمِل
زهدتَ في باطل الدنيا وزخرفها ... عزما وحزماً فمضروب بك المثلُ
أعرضت عنها احتقاراً غير مُحتفلٍ ... وأنتَ بالسعي في أخراك مُحتفلُ
عزفتَ عن شهوات مالعَزم فتىً ... بها سِواك إذا عَنتَ له قِبلُ
اسهرتَ في العلم عيناً لمَ تَذق سِنةً ... إلا وأنت به في الحلم مشتَغلُ
يا لهف حفلِ عظيم كنت بهجتهُ ... وحله فعراه بعدك العَطلُ
فطالبوا العلم من دان ومُغترب ... نالوا بيمُنك منهُ فوق ما أمِلوا
حاروا لغيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليه السهلُ والحيلُ
تُرى ذَرَى تُربه من غيبوه به ... أو نعشُه من على أعواده حملوا؟
عناه شُغلهم دهراً وعاذ لهم ... بلا عج الوجْد عن أشغالهم شغلُ
يامحيى الدين كم غادرت من كبدٍ ... حرّي عليك وعين دمعها هطلُ
وكم مُقام كحد السيف لا جَلدُ ... تقوي على هَوْله فيه ولا جدلُ
أمرتَ فيه بحمد الله منتضِيا ... وسيفاً من العزم كم يُصنع له خللُ
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمسةٍ هامه الجوزاء تنتعل
عالجت نفسسك والأذواء مسلمه ... حتى استقامت وحتى زالت العلل
بالغت بالتعب الفاني رضي ملك ... ثوابهُ في جنان الخُلد متصل
ضيفُ الكريم جدير أن يُضاف به ... إلى الكرامة من ألطافه نُزلُ
بَررت أهليك في داريك مُحتسباً ... فقد تكافأ فيك الحزن والجذلُ
فجعت بالأمس ليلاً كنت ساهره ... لله والنوم قد طابت به المقلُ
رَجاك نور نهار وكُنت صائمه ... إذا الهجير بنار النُفس مشتعلُ
لا زال مَثواك مثوى كل عارفه ... وروضة القصر من سُحب الرْضا خَضِلُ
إلى متى بغرور تطمئن ولا ... الملوك رُد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حِمى من حمام جحفل لجب ... ولا حصون منيعات ولا قُللَ
ياساهماً لا هياً مسن هولِ مصرعه ... وضاحك السِّنِّ منه يضحك الأجلُ
لا تُخل نفسك من زاد فانك مِن ... حين النفاس مع الأنفاس مُرتحِلُ
وما قام يديم السير يتبعه ... إلى محل بلاهُ سائقُ عجلُ
قال شيخنا ناظمها نجزت بحمد الله تعالى ومنه خمسه وثلاثون بيتاً.
والجلل (بفتح الجيم): هو الأمر العظيم، ويستعمل في الحقير، وينصرف إلى أحدهما بالقرينة.
قال : فقدك مرفوع الدال نصيره.
واستوحشت الأسحار : وساها الفقد عتب أي عرضت. واللهف: الحزن العُطل (بفتح العين) أي: خلا.
والظاهر عند التحلي هَامة الجوزاء : أعلاها البلاعح (بكر البلاء الموحدة) بعارض وهو الغرق.
بررت أهليلك في الدارين: من حيث أنهما صبرا على موته فاثنوا عليه.
وقرأ الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب رحمه الله بدار الحديث النورية مرثاه نظمها وأنا أسمع، وكان قرأ على الشيخ قدس الله روحه قطعه من المنهاج في محضر المحرر، واستنسخ الروضة له، وقابلت له بعضها مع الشيخ، وأصلحت بأملائه رضي. الله عنه مواضع فيها، وهى:
وأكْتُم حزني والمدامع تُبدْيه ... لِفَقد امرئ كُلُّ البرية تبْكيه
رأى الناسُ منه زهدَ يحيى سَميه ... وتقواه فيما كان يُبْدى ويُخفيه
ولم يَرْضَ بالدُنيا ولا مَال لحظة ... إلى عيشتها فالله لا شك يرضيه
فليس له في زهده وخشوعه ... وتجريده في الناس مثل يُدانيه
تحلى بأوصاف النبي وصَحبه ... وتابعهم هَدْياً فمن ذا يُناويه
وشمر عن سَاق اجتهاد يُعلم ... الجهُول ويهديه السبيل ويلًقيهِ
وكان رؤوف بالضعيف وطالب ... العلوم يوفيه الجواب ويدنيه
إذا ماسدَّد الخصم حجة ... فان ضل عن قصد المحجة يُهديه
ومن جاء يسْتفتيه يدنى محله ... ويجلسه بالقرب منه ويفتيه
تصانيفه في كل علم بديعة ... وأبدع منه ما يقول ويمُليه
حديثُ رسول الله والفقه دَأبُهُ ... فصنف في هذا وهذاك يرويه
ويتلوا كتاب الله سراً وجهرة ... بفكر في تفسيره ومعانيه
يرى الموت حلوا في إمانة بدعة ... وكم سُنة أحيى بصدق مساعيه
فطوبى له ما شاقه طيف مطعم ... ولا ملبس رقت ولانت حواشيه
دائر مع فقريه وخصاصة ... على نفسه جودا بما كان يحويه
تفرق في أهل العلوم محاسن ... وقد جمعت أوصافهم كلها فيه
شكى فَقْده عِلْم الحديث وحفْظهُ ... وأهلوه والكتب الصحاح وقرايه
ولاحَ على وَجْه العلوم كآبة ... تُخبر أن الدَّين قد مات مُحيْيْه
مضى وله علم تجدد ذكره ... وينشره فالدهر هيهات يطويه
وعم بلاد المسلمين مصابه ... وخص دمشقا بالرزية ناعي
وكم نلت من خير له في حياته ... وبعد مماتي في معادي ارجيه
وما كنت أرجو أن أوخر بعده ... فاندبه بعد الممات وارشيه
فلو أنه يفدى بأهلي وجيرتي ... ومالي ونفسي كنت والله أفديه
ولكنه الموت الذي قهر الورى ... فما منهم إلا مجيب لداعيه
إذا عُدم الإسلام أشرَف أهله ... فحق لنا في ذا المصاب نُعزيه
فحيا الحيا قبراً به راح ساكنا ... ليروي ثري ذاك الضريح وواديه
و رثاه قارئ دار الحديث الاشرفية، و الاخذ عن الشيخ، الفاضل المحدث أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله الكاتب الأديب المصري ثم الدمشقي.
وقال: نظمتها راثياً مشايخي رحمهم الله وسمعتها من لفظه وهي:
الحَمدُ لله العظيم الهادي ... جَلت محاَمده عن التعدادي
ربُّ علىَّ في مجده وجلالهِ ... عمن يُضاهيه من الأنداد
جل الذي هو واحد في ملكه ... مِنْ غير صاحبة ولا أولاد
خلقَ الورى والخَلقُ أظهارا لما ... يخفى من الملك العظيم البادي
قسَمْ الخلائق كيف شاء فكلهم ... ملك له من رائح أو غادي
فقضى لمن قد شاء بالإبعاد ... وقضى لمن قد شاء بالإسعاد
وقضاؤه عدلُ وليس بجائر ... إذ كان مالكهم بلا ترداد
رحم الأنام فأرسل الرسل الكرام ... الراشدين بواضح الإرشاد
والله شرفنا بفضل نبينا ... المبعوث حقاً رحمة لعباد
فأتى بقران عظيم باهر ... فيه الهدي أكرمْ به من هادي
وحديثه يُشفي الصدور نوره ... يَحي القلوب به و يروي الضادي
وأقام للدين المتين أئمة ... يهدي الورى فهم نجوم بلاد
نرجوهم بين الخلائق رحمة ... ومماتهم علم بقرب معادِ
فالعلم مقبوض بقبض نفوسهم ... قد جاء ذاك من النبي الهادي
فلقد فقدنا سادة في دهرنا ... نورُ العباد وعصمة الرواد
ابن الصلاح إمامنا خير الورى ... وبقية العلماء و العبادِ
والشيخ عز الدين أوحد دهره ... وكذا السخاوي الرحيب النادي
وكذا أبو عمر الإمام وشيخنا ... الحبر الخطيب ملقب بعماد
وكذا شهاب الدين شيخ بارع ... في كل علم ثابت الاطوادِ
وكذاك محيي الدين فاق بزُهدهِ ... وبفقهه الفقها مع الزُهادِ
القانت الأواب والحَبْر الذي ... نصرَا الشريعة دائما بجهاد
تَبْكيه دار للحديث وأهلها ... لخُلوْها من فضله المعتاد
لم يَبق بعدَك للصحيح مُعَّرفُ ... قد كنت فيه جهْبذا النقاد
من ذا يبين مرسلاً من مُسند ... أو من حديث عُدَّ في الأفراد
أو كان مقطوعاً ضعيفاً مُعضلاً ... أو كان موضوعاً لذي إلحاد
أو من يبين منكراً في مَتْنِهِ ... أو من يعرَف عِلَة الإسنْادِ
من ذا لِدفع المنكرات وقد غَدَتْ ... بين الأنام كثيرة التردادِ
أنهكت جسمك بالصيام مراضياً ... وسهرتَ غير ممتع رقادِ
ونَصرْتَ دين الله وحدك جاهداً ... ورفعت منه شَبهة المراد
حتى حصلت على علوم جمة ... وفسرت أخبار النبي الهادي
تُشفي النفوس إذا أجيب سؤال ... من يلقى عليك دقائق الإيراد
الواضحات من الأدلة كلها ... ونص القران بذهنك الوقاد
وزهدت في الدنيا وفى لذتها ... وكُتبت عند الله في الزهادِ
أوحشت حلق إذا فقدت وأهلها ... من بعد أنس خالص وواددِ
يبكيك جامع حلق لما خلا ... منه تهجده على الأباد
يبكيه صحَبُ كان يجمع شَملهم ... فيه بشرح شارح لفؤادي
يا حبذا تلك الخلائق والنهي ... ما كان أبردها على الأكباد
يا حبذا من مستشار ناصح ... بمشورة تأتي بكل رشاد
قد كنت غيثاً للبلاد وأهلها ... تسعى بك الأرضون عند جهادِ
وقد كنت نوراً للبلاد وأهلها ... قد عاد بعدك مبدلاً بسواد
فبكينه لما ثوي بثرى نوى ... وفائي فقد أصمى صميم فؤادي
فقد سلبناه وبدل قربه ... لما حواه لحده له بيعاد
قد كان يسلينا محاسن علمه ... عن سالف الأباء والأجداد
أتري يعود لنا ليالي أنسكم ... هيهات لكن ذاك يوم معادِ
حقا البكا على الإمام لفقدكم ... حزناً وحق تفتت الأكباد
تَركوا منازلهم وساروا سرعة ... تتري كأنهم حداهم حادي
غدتْ المنونَ عليهم فتتابعوا ... فكأنما كانوا على ميعاد
ماذا اَمل بعدهم من لذة ... تبقى وهم كانوا جميع فؤادي
يا صائرا هدْا المصير إلا أشفق ... من عقلة تردي وطول رقادي
واعمل لنفسك قبل سكنان الثرى ... وَتصير في لحد من الألحاد
لا تستطيع إذا لنفسك حيلة ... وأحذر هواك فهو بالمرصاد
ما الناس إلا غافلون عن الهدى ... في هذه الدنيا سوي الزهاد
يا رب فاجبر كسرناً فيمن مضى ... منهم وأقظنا لاستعداد
واختم لنا بالخير عند مماتنا ... أنت الكريم وملجأ القصاد
والحمد لله المهيمن دائماً ... ثم الصلاة على النبي الهادي
وآل والأصحاب ثم سلامه ... ما عزّت ورق على الأعوادِ
(1) مقدمة دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للإمام محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي رحمه الله ( مع شيء من الإختصار مني )
(2) تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي للحافظ ابن العطار رحمه الله ( مع شيء من الإختصار مني )
(3) قال الإمام السَّخاوي رحمه الله في ( المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) ص 467
حديث ( عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة )
قال شيخنا لا أستحضره مرفوعا وسبقه لذلك شيخه العراقي فقال في تخريج الإحياء ليس له أصل في المرفوع وإنما هو قول سفيان بن عيينة كذا ذكره ابن الجوزي في مقدمة صفوة الصفوة قلت وسأل أبو عمرو بن تجيد أبا جعفر بن حمدان وهما صالحان بأي نية أكتب الحديث فقال ألستم ترون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة قال نعم قال فرسول الله رأس الصالحين
ـ وقال الإمام الملا علي القاري رحمه الله في ( الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة المعروف بالموضوعات الكبرى)(ص 249)
قال العسقلاني لا أصل له وقال العراقي في تخريج الإحياء ليس له أصل في المرفوع وإنما هو قول سفيان بن عيينة لكن قال ابن الصلاح في علوم الحديث روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد ابن حمدان وكانا عبدين صالحين فقال له״ بأي نية أكتب الحديث ؟ قال:ألستم ترون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ فقال: نعم، قال فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين ״انتهى
ولم ينبه على ذلك العراقي في نكته عليه كذا ذكره بعضهم
لكن اللفظ إن كان تروون بواوين من الرواية فيدل في الجملة على أنه حديث وله أصل وإن كان ترون من الرؤية مجهولا أو معلوما فلا دلالة فيه إذ معناه تعتقدون أو تظنون