المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سبق المفردون / لفضيلة الشيخ سليم الهلالي حفظه الله


فتحي العلي
01-26-2011, 02:53 AM
أخرج الإمام مسلم (2676) من طريق العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جُمْدان، فقال: «سيروا، هذا جُمْدان، سبق المفردون»، قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله! قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات».
وأخرجه أحمد (2/ 323)، والحاكم (1/ 495- 496)، ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 314) من طريق عبدالرحمن بن يعقوب -مولى الحُرقة-، قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبق المفردون»، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: «الذين يهترون في ذكر الله -عز وجل-».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.
وتعقبهما شيخنا الإمام الألباني في «الصحيحة» (3/ 305): «إنما هو على شرط مسلم وحده؛ فإن ابن يعقوب هذا إنما أخرج له البخاري في «جزء القراءة»، ولم يحتج به في «صحيحه»، وهو ثقة، وسائر رواته رجال الشيخين».
وفي رواية من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :... (وذكر الحديث)؛ إلا أنه قال: «المُسْتَهْتَرون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون به يوم القيامة خفافًا».
قلت: أخرجها الترمذي (3596) وإسنادها ضعيف منكر، آفته عمر بن راشد، وهو ضعيف باتفاق أهل العلم.
وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد، ولذلك سنسلكها قلائد تزين رياض الذاكرين.
1- ذكر الله أوتاد القلوب، كالجبال أوتاد الأرض.
ويظهر ذلك واضحًا في ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جمدان وهو جبل وبين الذكر؛ فإن الجبال أوتاد الأرض كما في قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15].
وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31].
وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10].
فالجبال تحفظ توازن الأرض، فلا تضطرب، ولا تزلزل، وكذلك الذكر تطمئن به القلوب، وتسكن به الجوارح، ويخبت العبد لربه، كما في قوله -تعالى-: {الَّذِينَ امَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: «قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته.
ابدأ نفوس الطـــالبيـ ـن إلى طلولــكم تحــن
وكذا القلوب بذكركم بعد المخافـــة تطـمئــن
حنت بحبكم ومـــــن يهوي الحبيب ولا يحــن
بحياتكــم يا ســادتـي جودوا بوصلكم ومنـوا»
2- بيان حقيقة السابقين:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: «ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث؛ فإنه لما سبق الركب، وتخلف بعضهم؛ نبه على أن السابقين هم الذين يديمون ذكر الله، ويولعون به، ومن هذا المعنى قول عمر بن عبدالعزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة: «ليس السابق اليوم من سبق بعيره، وإنما السابق من غفر له».
3- حقيقة الانفراد عن الأقران والتميز عن الخلان المداومة على طاعة الرحمن؛ فإن المنفردين هم الذين هلك أقرانهم، وبقوا يذكرون الله.
ولذلك حض الله –سبحانه وتعالى- على المسارعة إلى الخيرات، واستباق الصالحات والتنافس في الطاعات؛ كما في قوله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شي قدير} [آل البقرة: 148]، وقوله: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]، وقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} [المائدة: 48].
وأما التنافس في الدنيا فهو مشغلة عن طاعة الرحمن، وحبالة الشيطان، وحبها جامع لكل شر.
وإنما صار حب الدنيا رأس الخطايا ومفسداً للدين من وجوه:
أ- أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة.
ب- أن حبها يجعلها غاية، فيصير يتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إلى الدار والآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة.
ت- أن حبها يعترض بين العبد وفعل الخيرات.
ث- أن محبتها تجعلها أكبر هم العبد.
ج- أن محبتها يؤثرها على الآخرة.
فيا عباد الله لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم عبيداً، واعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه، فارض يا عبد الله بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا(1).
أهلها حزناً طويلاً، وطالب للدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأ
4- الذاكرون الله مولعون بذكر الله، لا ينقطعون عنه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «الذين يهترون في ذكر الله -عز وجل-».
ولذلك لوجوه عدة:
أ- أن الذاكر لله لا يغيب محبوبه عن قلبه، فلو كلف أن ينسى ذكره لما قدر، ولو كلف أن يكف عن ذكره لما صبر.
ب- كلما قويت المعرفة بالله صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة، ولذلك يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس.
ت- لأن ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين، فذكر الله لذة قلوب العارفين، والمحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم.
ث- كلما قوي حال المحب لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان، فهو بين الخلق بجسمه، وقلبه معلق بالملأ الأعلى.
جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن(2).
5- نتائج الأفكار بآثار الإكثار من الأذكار:
أ- الثبات على الإسلام والأمن في مواطن الخوف؛ كما في قوله -تعالى-: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال: 45].
ب- سبب الفلاح والنجاح؛ كما في قوله -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
ت- سبب للمغفرة والأجر العظيم، كما في قوله -تعالى-: {إِنَّ المُسْلِمِين وَالمُسْلِمَاتِ} إلى قوله -تعالى-: {وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
ث- يعطي الذاكر قوة:
قال الإمام ابن قيم الجوزية في «الوابل الصيب» (ص 185- 186): «إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه، وقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.
وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعليًّا -رضي الله عنهما- أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين؛ لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي، والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم»(3).
6- متى يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
أ- إذا ذكر الله في جميع أحواله.
قال ابن عباس: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوًّا وعشيًّا، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله؛ ذكر الله تعالى»(4).
ب- إذا ذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب.
قال مجاهد: «لا يكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات حتى يذكر الله قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا».
ت- إذا استيقظ من الليل، وأيقظ أهله وصليا جميعًا، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أيقظ الرجل أهله فصليا -أو صلى- ركعتين جميعًا؛ كتبا في الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات»(5).
تنبيهات مهمات:
وقع تحريف في بعض المصادر، فأصبحت «يهترون» تقرأ «يهتزون» -بالزاي المعجمة-، فلا يفرح بذلك الصوفية الرقصة: الذين تضطرب ألياتهم يمينًا وشمالاً عند ذكر الله، وليته من الذكر المشروع، لكنهم ابتدعوه أصلاً ووصفًا.
وجاء في «شرح صحيح مسلم» للنووي (17/ 4): «وفي رواية: اهتزوا» في ذكر الله»، قال النووي -رحمه الله-: «أي: لهجوا به».
قلت: لو صح هذا اللفظ لكان معناه: فرحوا وارتاحوا، واطمأنت قلوبهم بذكر الله، والله أعلم».
وليعلم الموفق إلى طاعة ربه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم : أن ما يورده الراقصون على ذكر الله لا يصح منها شيئا سندًا ولا متنًا؛ كقصة أبي بكر -رضي الله عنه- حينما أصبح يدور ويقول: راض راض، وذلك أنهم زعموا: أن الله -جلت قدرته- أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: إن الله رضي عن أبي بكر، فهل أبو بكر راض عن ربه؟ فلما سمع بذلك أبو بكر اهتز طربًا وتمايل يمينًا وشمالاً، وأصبح يقول: راض راض، كيف لا أرضى عن الله!
قلت: ولو صحت هذه الرواية الموهومة والحكاية المزعومة؛ لكانت حجة عليهم؛ فإن ما جعل لأبي بكر -رضي الله عنه- أمر شرعي، فقد وصف الله المؤمنين قائلاً: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
بينما هؤلاء يستمعون للقرآن، فلا تتأثر ظواهرهم، فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة، وأوضاعهم المكشوفة، ولكن هذه القصة لم ترد في حديث صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع.
وكذلك ما يذكره بعضهم عن علي -رضي الله عنه- أنه قال وهو يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : «كانوا إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح».
قلت: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 76) بإسناد مظلم، لا يفرح به ولا كرامة.
فاللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ولا تجعلنا من الغافلين.


-------------------------------
(1) انظر «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين» لابن قيم الجوزية (ص 350-361- بتحقيقي).
(2) انظر «إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم» (ص638-639).
(3) أخرجه البخاري (3705)، ومسلم (2727).
(4) «الوسيط» للواحدي (3/471).
(5) أخرجه أبو داود (1309)، وابن ماجه (1335) وهو صحيح.
المصدر: منتديات منهاج الرسول السلفية (http://www.e-rasool.com.com/vb)