أبو عبد الله بلال يونسي
02-14-2011, 04:11 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
هذه :
البنية اللغوية وأثـــــرهــــــا في صـيـاغـة وتكـيــــــــــيـف القواعد الأصولية والفقهية ( قـــــــــا عــــــــد ة لــــــــا إنــكـــار في مسائل الخلاف ؛ نمــوذجــا )
وقد جعلتها شقين اقتداءا ببعض السلف أنهم كانوا يجعلون كتابين في غلاف واحد أحدهما الأصل والآخر حاشية وسواء كانت الحاشية على الأصل أم كتابا مغايرا ...
و في هذا المجموع دراسة لغوية للقواعد الفقهية والأصولية ؛ ودراسة لمناهج المفسرين في تقرير العقيدة ...
و ستكون على حلقات حتى يحصل المرغوب ...
وهذا أوان الشروع في المطلوب :
الحلقة الأولى :
الحمد لله الذي هدانا إلى ما اختلف فيه من الحق؛ وأبان مابين الاستقامة والباطل من فرق؛ وصلى الله وسلم على نبي الصدق؛ خير الدعاة المرسلين لهداية الخلق؛فأخرجهم الله من ظلمات الشرك وربقات الرق؛وتمام الصلاة وأزكاها على الأصحاب والأتباع والإخوان أهل البر والحذق ؛ الصابرين على البلاء والضيق ؛ في سبيل الدعوة وجمع الصف على السنة والحق؛ شعارهم التوحيد ونبذ الفرقة في الغرب والشرق .
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إقرار وإذعان ؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شهادة تصديق وإيقان .
وبعد :
فهذه لفتات لطيفة سميتها: "البنية اللغوية وأثرها في صياغة[1] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn1) وتكييف[2] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn2) القواعد الأصولية والفقهية (قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف ؛ نموذجا[3] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn3))؛ تنم عن الثروة اللغوية التي حظي بها علماء الفقه وأصوله؛ وسبيلنا في ذلك النظر في ما قرروه من قواعد؛ وما استعملوه من أساليب غاية في الدقة؛ متدفقة البيان؛ باسقة الظلال في جنان البديع؛ وبساتين تعرب في نفوس ناظريها ألوانا من المحسنات تصرفهم إلى النحو الذي شدهت فيه عقول البلغاء؛ وترنحت في ترانيمه وتماوجت في شداه الصداح جوارح النبهاء؛ فأذعنوا لقرائحها المصقولة بروائع العبارة؛ ومعدول الإشارة؛ وما دلت عليه المناسبة من محذوف المقدرات؛ وما تأخر من لازم الأمارات[4] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn4)، وقد حاولت الإسهام في بيان هذه المزية لدى علمائنا بإيراد هذا الطرح عسى أن يجد من يسبر أغواره من أهل العلم المتفننين؛ وذلك لأن هذا المضمار كبير على مثلي من أهل العجز والجهالة؛ ولكن هي المساهمة في إثراء الموضوع قدر المستطاع؛ وإن كنت أعلم علم يقين أني لن آتي بجديد؛ ولكن هو التشبه بالكرام عسى ألحق بركبهم أو أكتب معهم إذ المرء مع من أحب؛ يبلغ بنيته ما لا يبلغه بقرابالأرض من الأعمال .
وتحقيقا لهذا العزم فقد وقع الاختيار على قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف[5] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn5) ) كنموذج للولوج منه إلى المراد؛ وقبل الشروع في المقصود فإنه ينبغي من التقديم فأقول:
إن مبنى كثير من الأحكام الشرعية التنظيمية لأحوال البشر والتي تنطبع بطابع العبادة غالبا وتلك التعبدية المحضة؛ في غالب أمرها ترجع إلى أصول وقواعد قررها العلماء المجتهدون عن نظر في أدلة الشريعة ومضامينها الكلية وقد كان اختلاف الفهوم وتفاوت المدارك من عالم إلى آخر سببا في تغاير النتائج المتوصل إليها وكذلك تنوع الأدلة من حيث القوة تارة والضعف حينا والجلاء لما تنطوي عليه من الحكم أو خفائه وإجماله مع بروزه في دليل خارج عنه إما من مادته أو مغاير لها أو مقارب .....وهكذا؛ مما جعل الناظر في ما ينتج عن كل هذا من أصول وفروع في حيرة من أمره وخصوصا إذا لم يكن من أهل الشأن وهو ما دفع إلى بروز كتب يعنى فيها أصحابها بتوضيح كوامن الخلاف وبواعثه كخطوة رئيسة في كبت النزاع ودرء الفرقة وأسبابها والتي غالبا ماتكون عن عصبية لمدرسة أو اتجاه فقهي معين ، وقد أثمرت هذه البحوث والتحقيقات عن نتيجة هامة هي الفيصل والحكم الفارق في هذا الباب عبروا عنها بعبارات مختلفة يجمعها قولهم (لا إنكار في مسائل الخلاف )؛ ولكن الإشكال الذي حصل هو حول المراد من النفي في قولهم: "لا إنكار... ".
إن التحقيق في هذه المسألة يعني الإجابة عن سؤالين هما : - ما عمل (لا)[6] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn6)؟ ، - وما دلالة صيغة الإخبار على ما تتضمنه القاعدة من حكم ؟.
أولا : (لا) تأتي على وجهين[7] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn7) إما للنفي وإما للنهي ؛ وشرط النهي غير حاضر هنا لعدم دخولها على سوى الفعل المضارع وكذا عملها جازمة ولا يكون في الأسماء لأنها لا جزم فيها وهو الذي لم يحصل كذلك لأن المعمول (إنكار) اسم ؛ وإذا تقرر هذا فلا يبقى سوى النفي وبدوره على شقين نفي الجنس ونفي الوحدة فأولهما تختص به العاملة عمل (إن)[8] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn8) ؛ وكلاهما مجموعان للعاملة عمل (ليس) ولكن المتوجه إليه أن (لا) هنا هي العاملة عمل (إن) ومرد الاختيار نفي الاحتمال عن حصول أنواع من الإنكار غير التي نريد دفعها بل المراد نفي كل إنكار وهذا الأمر لا يتأتى إلا مع (لا) التبرئة المراد بها نفيُ الجنس على سبيل التنصيص العاملة عمل (إن) ؛ وبيان ما ذكرت أن قولنا لا إنكار في مسائل الخلاف و(لا) عاملة عمل (ليس) أي ننطق لا إنكار بضم الراء مع تنوينها من لفظة (الإنكار) فيصير تقدير الكلام على اعتبارين أو احتمالين:
الأول : لا إنكار (كائنا) بل إنكارات ؛ وهذا في حال نفي الوحدة ؛ وهو مردود لما نعلمه من حقيقة
القواعد الفقهية والأصولية من كونها تتضمن حكما إنشائيا وتساق بصيغة إخبارية والإخبار بحصول عديد من الإنكارات في مسائل الخلاف إخبار بالمشاهد المحسوس فلا إنشاء فيه ؛ وقد يراد الحض على الإنكار والإكثار منه بإيراد النهي في قالب النفي وهذا أيضا نرده لأن الإنكار قائم دون طلبه وفائدة الطلب حصول ما لم يكن أو طلب الثبات عليه مع الزيادة فيه ؛ ومن هنا يتبين فساد هذا الاحتمال وبذلك نرده.
الحاشية:
[1] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref1) أي رسمها العام بحيث لا يدخل ماليس منها فيها ولا يخرج ماهو منها .
[2] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref2)أي تحويرها على ما يناسب ما تتضمنه من أفراد وجزئيات مع الحفاظ على إطارها العام الذي وضعت لأجله .
[3] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref3)قال الفيومي :"الأُنْمُوذَجُ: بضم الهمزة ما يدل على صفة الشيء وهو معرب؛ وفي لغة "نَمُوذَجٌ" بفتح النون والذال معجمة مفتوحة مطلقا؛قال الصغاني:النموذج مثال الشيء الذي يعمل عليه وهو تعريب "نَمُوذَهُ"؛ وقال: الصواب "النَّمُوذَجُ"؛ لأنه لا تغيير فيه بزيادة."[ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي].
[4] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref4) هذه تسمى براعة استهلال وقد ضمنتها كثيرا من مسائل اللغة ذات الصلة بما نحن بصدده على اختلاف الفنون من بلاغة وصرف ونحو ... والتي منها الإسناد والمناسبة والحذف و الالتفات والعدول والتقدير والمناسب والنفي والنهي و هكذا...
[5] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref5) وهي عبارة عن مطلب تمهيدي من مذكرة تخرجي في قسم الفقه وأصوله وقد استللتها استلالا.
[6] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref6) انظر: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (سنة الوفاة 911هـ) ، ج1/ص522-526.
[7] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref7) انظر : الخصائص ، عثمان ابن جني - من أعيان المعتزلة يقول بالترادف في اللغة وفي القرآن فهو خدوم لشيعته يحاول دائما التأصيل لشبهاتهم في باب الأسماء والصفات – (توفي سنة 392هـ) ، تحقيق : محمد علي النجار ، الناشر عالم الكتب ، مكان النشر بيروت .
[8] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref8) قال محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي ( 600هـ - 672 هـ) في ألفيته الموسومة بالخلاصة ، مؤسسة الرسالة ناشرون ، الطبعة الأولى ، 1423هـ/2002م ، بيروت ، لبنان ، ص28:" لاَ الَّتِي لِنَفِيْ الْجِنْسِ :
عمل إن اجعل للا في نكره مفردة جاءتك أو مكرره
فانصب بها مضافا أو مضارعه وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه
وركب المفرد فاتحا كلا حول ولا قوة والثان اجعلا
مرفوعا أو منصوبا أو مركبا وإن رفعت أولا لا تنصبا
ومفردا نعتا لمبني يلي فافتح أو انصبن أو ارفع تعدل
وغير ما يلي وغير المفرد لا تبن وانصبه أو الرفع اقصد
والعطف إن لم تتكرر لا احكما له بما للنعت ذي الفصل انتمى
وأعط لا مع همزة استفهام ما تستحق دون الاستفهام
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر إذا المراد مع سقوطه ظهر.".
الحلقة الثانية :
الثاني : لا إنكار (كائنا) بلْ إقرارٌ كُلّـُه ؛ وهذا في حال نفي الجنس ؛ والحال هنا كسابقه فإما أن يكون هذا إخبارا عن المشاهد والواقع يرده لأن الإنكار حاصل ثابت لا يقبل الدفع ؛ وإما أن يكون نفيا متضمنا نهيا؛ أو قل نهي في سياق النفي وهذا الوجه قد يكون مراد بعض المتفقهة على وجه من الأوجه التي سيأتي ذكرها والماثلة في المطلب الثاني من المبحث الأول ضمن ثاني فصول هذا البحث –إن شاء الله- ؛ ولكن نرد هذا الوجه أيضا لا لكونه غير مناسب لما ترمي إليه القاعدة من طلب لترك الإنكار وإنما لكونه مشتركا مع الوجه الأول في الأصل وبذلك فاختيار المقطوع فيه البين الدلالة مقدم على المحتمل عند التعارض ونحن عندنا(لا) العاملة عمل (إن) أوضح في حصول النفي للجنس بخلاف (لا) العاملة عمل (ليس)[1] فإنها تحتمل الوجهين نفي الجنس ونفي الوحدة ولذلك فإننا نختار العاملة عمل (إن) لدلالتها القطعية-والله أعلم-.
ثانيا : إن الجواب على السؤال الثاني حول دلالة الإخبار لابد له من مقدمتين : المقدمة الأولى : أن الغالب في القواعد الأصولية والفقهية الإتيان بها على صيغة الإخبار مع ما تتضمنه من حكم فقهي أو أصولي وهذا الوجه من الاستعمال وارد في لسان العرب وفي مواضع كثيرة من نصوص الكتاب والسنة ويدخل تحت أبواب غير قليلة من مباحث علمي البلاغة والنحو وكذلك يكثر استعماله في تصانيف الأدباء الكبار ومن الأبواب التي لها تعلق وطيد بهذا اللون من التعبير اللغوي ما يسمى بأسلوب الالتفات ويدخل تحته العدول من الإنشاء إلى الخبر ومن الخبر إلى الإنشاء و العدول من الخطاب إلى الغيبة و من الغيبة إلى الخطاب و العدول من الماضي إلى المضارع و من المستقبل إلى الماضي و غيرها من الأساليب ؛ ومن ألوان التعبير في بابنا ما يسمى عند بعض أهل الفن معدول الخطاب و كذلك ما يسمى نهيا في سياق النفي و كذلك ذكر اللفظ العام وإرادة المعنى الخاص و إرادة العموم بذكر الخصوص و غيرها كثير ؛ و لمزيد بيان فهذه أمثلة متنوعة :
- قال أبوحيان في تفسيره[2](654 - 745هـ،/ 1256 - 1344م):"معدول الخطاب في قوله تعالى: {لا ريب فيه} صيغته خبر ومعناه أمر ؛ وقد مضى الكلام فيه....،قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع: منها معدول الخطاب ؛ وهو أن الخطاب بقوله :{والذين يتوفون} الآية عام والمعنى على الخصوص.".
الحاشية:
[1]جاء في اللمحة في شرح الملحة ، محمد بن الحسن الصايغ (سنة الوفاة 720 هـ )، تحقيق : إبراهيم بن سالم الصاعدي ، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى، 1424هـ/2004م:" وتكونُ بمعنى (ليس) مختصّة بالنّكرات... (وجاء في هامش التحقيق):(لا) النّافية تعمل عمل (ليس) عند الحجازيّين، ومذهب بني تميم إهمالُها، ويُشترط لعملها عمل (ليس) عند الحجازيّين ثلاثة شروط: 1- أنْ يكون اسمها وخبرها نكرتين، نحو: (لا رجلٌ أفضلَ منك)، 2- أن لا يتقدّم خبرها على اسمها، فلا نقول: (لا قائمًا رجلٌ) ، 3- ألا ينتقض النّفي بـ(إلاَّ)، فلا تقول: (لا رجلٌ إلاَّ أفضلَ من زيد) بنصب (أفضل) بل يجب رفعُه.
وكما تُنظر هذه المسألة في:
المفصّل 109، وشرح الكافية الشّافية 1/440، وشرح الرّضيّ 1/270، وأوضح المسالك 1/203، وابن عقيل 1/288 ـ 292، والهمع 2/118 - 120، وابن جني في اللمع 1/44 ، وابن القاسم في حاشية الآجرومية 111-112 .
[2]تفسير البحر المحيط ؛ محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي؛ وفي تفسيره بعض التأويلات غير السائغة خالف بها مذاهب السلف في باب الأسماء والصفات ؛ ويا حبذا لو يتصدى لدراسة كتب التفسير متخصص من أهل الإثبات فينخل مناهج أصحابها في العقيدة ؛ وذلك أنني رأيت على قصر باعي وقلة اطلاعي أبحاثا كثيرة عني فيها أصحابها بمناهج المؤلفين في تقرير العقيدة في أكثر من فن كاللغة والفقه وأصوله ؛ ولم أقف على بحث حول مناهج المفسرين في تقرير العقيدة مع خطورته وأهميته البالغة ؛ مع اكتساح هذه التفاسير لمكتبات أهل الإثبات-والذي يجدر بالذكر أن بعض العلماء مروا على هذه المسألة تبعا في طيات كتبهم ومن أولئك ابن تيمية في مقدمة التفسير؛ ومجموع الفتاوى-؛ ولتحقيق واجب البيان وسيرا على الشرط الذي وضعه أهل العلم عند النقل عن أمثال هؤلاء من بيان حالهم ليحذرهم الناس ولا يغتر بهم العامة لمجرد النقل عنهم مع الإشارة إلى أن أكثرهم معدودون في أئمة الإسلام ولا يستغنى عن علمهم وإنما وقعوا فيما وقعوا بدافع البيئة وغيرها من الأسباب التي اعتذر بها العلماء لهم ؛ فإنني أحاول بيان حالهم بذكر بعض الإشارات مراعاة لحال الإيجاز وعدم الخروج عن المقصود ؛ مع التزام النصيحة للمسلمين بأخصر عبارة ؛ والله من وراء القصد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
هذه :
البنية اللغوية وأثـــــرهــــــا في صـيـاغـة وتكـيــــــــــيـف القواعد الأصولية والفقهية ( قـــــــــا عــــــــد ة لــــــــا إنــكـــار في مسائل الخلاف ؛ نمــوذجــا )
وقد جعلتها شقين اقتداءا ببعض السلف أنهم كانوا يجعلون كتابين في غلاف واحد أحدهما الأصل والآخر حاشية وسواء كانت الحاشية على الأصل أم كتابا مغايرا ...
و في هذا المجموع دراسة لغوية للقواعد الفقهية والأصولية ؛ ودراسة لمناهج المفسرين في تقرير العقيدة ...
و ستكون على حلقات حتى يحصل المرغوب ...
وهذا أوان الشروع في المطلوب :
الحلقة الأولى :
الحمد لله الذي هدانا إلى ما اختلف فيه من الحق؛ وأبان مابين الاستقامة والباطل من فرق؛ وصلى الله وسلم على نبي الصدق؛ خير الدعاة المرسلين لهداية الخلق؛فأخرجهم الله من ظلمات الشرك وربقات الرق؛وتمام الصلاة وأزكاها على الأصحاب والأتباع والإخوان أهل البر والحذق ؛ الصابرين على البلاء والضيق ؛ في سبيل الدعوة وجمع الصف على السنة والحق؛ شعارهم التوحيد ونبذ الفرقة في الغرب والشرق .
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إقرار وإذعان ؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شهادة تصديق وإيقان .
وبعد :
فهذه لفتات لطيفة سميتها: "البنية اللغوية وأثرها في صياغة[1] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn1) وتكييف[2] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn2) القواعد الأصولية والفقهية (قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف ؛ نموذجا[3] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn3))؛ تنم عن الثروة اللغوية التي حظي بها علماء الفقه وأصوله؛ وسبيلنا في ذلك النظر في ما قرروه من قواعد؛ وما استعملوه من أساليب غاية في الدقة؛ متدفقة البيان؛ باسقة الظلال في جنان البديع؛ وبساتين تعرب في نفوس ناظريها ألوانا من المحسنات تصرفهم إلى النحو الذي شدهت فيه عقول البلغاء؛ وترنحت في ترانيمه وتماوجت في شداه الصداح جوارح النبهاء؛ فأذعنوا لقرائحها المصقولة بروائع العبارة؛ ومعدول الإشارة؛ وما دلت عليه المناسبة من محذوف المقدرات؛ وما تأخر من لازم الأمارات[4] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn4)، وقد حاولت الإسهام في بيان هذه المزية لدى علمائنا بإيراد هذا الطرح عسى أن يجد من يسبر أغواره من أهل العلم المتفننين؛ وذلك لأن هذا المضمار كبير على مثلي من أهل العجز والجهالة؛ ولكن هي المساهمة في إثراء الموضوع قدر المستطاع؛ وإن كنت أعلم علم يقين أني لن آتي بجديد؛ ولكن هو التشبه بالكرام عسى ألحق بركبهم أو أكتب معهم إذ المرء مع من أحب؛ يبلغ بنيته ما لا يبلغه بقرابالأرض من الأعمال .
وتحقيقا لهذا العزم فقد وقع الاختيار على قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف[5] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn5) ) كنموذج للولوج منه إلى المراد؛ وقبل الشروع في المقصود فإنه ينبغي من التقديم فأقول:
إن مبنى كثير من الأحكام الشرعية التنظيمية لأحوال البشر والتي تنطبع بطابع العبادة غالبا وتلك التعبدية المحضة؛ في غالب أمرها ترجع إلى أصول وقواعد قررها العلماء المجتهدون عن نظر في أدلة الشريعة ومضامينها الكلية وقد كان اختلاف الفهوم وتفاوت المدارك من عالم إلى آخر سببا في تغاير النتائج المتوصل إليها وكذلك تنوع الأدلة من حيث القوة تارة والضعف حينا والجلاء لما تنطوي عليه من الحكم أو خفائه وإجماله مع بروزه في دليل خارج عنه إما من مادته أو مغاير لها أو مقارب .....وهكذا؛ مما جعل الناظر في ما ينتج عن كل هذا من أصول وفروع في حيرة من أمره وخصوصا إذا لم يكن من أهل الشأن وهو ما دفع إلى بروز كتب يعنى فيها أصحابها بتوضيح كوامن الخلاف وبواعثه كخطوة رئيسة في كبت النزاع ودرء الفرقة وأسبابها والتي غالبا ماتكون عن عصبية لمدرسة أو اتجاه فقهي معين ، وقد أثمرت هذه البحوث والتحقيقات عن نتيجة هامة هي الفيصل والحكم الفارق في هذا الباب عبروا عنها بعبارات مختلفة يجمعها قولهم (لا إنكار في مسائل الخلاف )؛ ولكن الإشكال الذي حصل هو حول المراد من النفي في قولهم: "لا إنكار... ".
إن التحقيق في هذه المسألة يعني الإجابة عن سؤالين هما : - ما عمل (لا)[6] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn6)؟ ، - وما دلالة صيغة الإخبار على ما تتضمنه القاعدة من حكم ؟.
أولا : (لا) تأتي على وجهين[7] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn7) إما للنفي وإما للنهي ؛ وشرط النهي غير حاضر هنا لعدم دخولها على سوى الفعل المضارع وكذا عملها جازمة ولا يكون في الأسماء لأنها لا جزم فيها وهو الذي لم يحصل كذلك لأن المعمول (إنكار) اسم ؛ وإذا تقرر هذا فلا يبقى سوى النفي وبدوره على شقين نفي الجنس ونفي الوحدة فأولهما تختص به العاملة عمل (إن)[8] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftn8) ؛ وكلاهما مجموعان للعاملة عمل (ليس) ولكن المتوجه إليه أن (لا) هنا هي العاملة عمل (إن) ومرد الاختيار نفي الاحتمال عن حصول أنواع من الإنكار غير التي نريد دفعها بل المراد نفي كل إنكار وهذا الأمر لا يتأتى إلا مع (لا) التبرئة المراد بها نفيُ الجنس على سبيل التنصيص العاملة عمل (إن) ؛ وبيان ما ذكرت أن قولنا لا إنكار في مسائل الخلاف و(لا) عاملة عمل (ليس) أي ننطق لا إنكار بضم الراء مع تنوينها من لفظة (الإنكار) فيصير تقدير الكلام على اعتبارين أو احتمالين:
الأول : لا إنكار (كائنا) بل إنكارات ؛ وهذا في حال نفي الوحدة ؛ وهو مردود لما نعلمه من حقيقة
القواعد الفقهية والأصولية من كونها تتضمن حكما إنشائيا وتساق بصيغة إخبارية والإخبار بحصول عديد من الإنكارات في مسائل الخلاف إخبار بالمشاهد المحسوس فلا إنشاء فيه ؛ وقد يراد الحض على الإنكار والإكثار منه بإيراد النهي في قالب النفي وهذا أيضا نرده لأن الإنكار قائم دون طلبه وفائدة الطلب حصول ما لم يكن أو طلب الثبات عليه مع الزيادة فيه ؛ ومن هنا يتبين فساد هذا الاحتمال وبذلك نرده.
الحاشية:
[1] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref1) أي رسمها العام بحيث لا يدخل ماليس منها فيها ولا يخرج ماهو منها .
[2] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref2)أي تحويرها على ما يناسب ما تتضمنه من أفراد وجزئيات مع الحفاظ على إطارها العام الذي وضعت لأجله .
[3] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref3)قال الفيومي :"الأُنْمُوذَجُ: بضم الهمزة ما يدل على صفة الشيء وهو معرب؛ وفي لغة "نَمُوذَجٌ" بفتح النون والذال معجمة مفتوحة مطلقا؛قال الصغاني:النموذج مثال الشيء الذي يعمل عليه وهو تعريب "نَمُوذَهُ"؛ وقال: الصواب "النَّمُوذَجُ"؛ لأنه لا تغيير فيه بزيادة."[ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي].
[4] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref4) هذه تسمى براعة استهلال وقد ضمنتها كثيرا من مسائل اللغة ذات الصلة بما نحن بصدده على اختلاف الفنون من بلاغة وصرف ونحو ... والتي منها الإسناد والمناسبة والحذف و الالتفات والعدول والتقدير والمناسب والنفي والنهي و هكذا...
[5] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref5) وهي عبارة عن مطلب تمهيدي من مذكرة تخرجي في قسم الفقه وأصوله وقد استللتها استلالا.
[6] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref6) انظر: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (سنة الوفاة 911هـ) ، ج1/ص522-526.
[7] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref7) انظر : الخصائص ، عثمان ابن جني - من أعيان المعتزلة يقول بالترادف في اللغة وفي القرآن فهو خدوم لشيعته يحاول دائما التأصيل لشبهاتهم في باب الأسماء والصفات – (توفي سنة 392هـ) ، تحقيق : محمد علي النجار ، الناشر عالم الكتب ، مكان النشر بيروت .
[8] (http://www.salafi-poetry.net/vb/#_ftnref8) قال محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي ( 600هـ - 672 هـ) في ألفيته الموسومة بالخلاصة ، مؤسسة الرسالة ناشرون ، الطبعة الأولى ، 1423هـ/2002م ، بيروت ، لبنان ، ص28:" لاَ الَّتِي لِنَفِيْ الْجِنْسِ :
عمل إن اجعل للا في نكره مفردة جاءتك أو مكرره
فانصب بها مضافا أو مضارعه وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه
وركب المفرد فاتحا كلا حول ولا قوة والثان اجعلا
مرفوعا أو منصوبا أو مركبا وإن رفعت أولا لا تنصبا
ومفردا نعتا لمبني يلي فافتح أو انصبن أو ارفع تعدل
وغير ما يلي وغير المفرد لا تبن وانصبه أو الرفع اقصد
والعطف إن لم تتكرر لا احكما له بما للنعت ذي الفصل انتمى
وأعط لا مع همزة استفهام ما تستحق دون الاستفهام
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر إذا المراد مع سقوطه ظهر.".
الحلقة الثانية :
الثاني : لا إنكار (كائنا) بلْ إقرارٌ كُلّـُه ؛ وهذا في حال نفي الجنس ؛ والحال هنا كسابقه فإما أن يكون هذا إخبارا عن المشاهد والواقع يرده لأن الإنكار حاصل ثابت لا يقبل الدفع ؛ وإما أن يكون نفيا متضمنا نهيا؛ أو قل نهي في سياق النفي وهذا الوجه قد يكون مراد بعض المتفقهة على وجه من الأوجه التي سيأتي ذكرها والماثلة في المطلب الثاني من المبحث الأول ضمن ثاني فصول هذا البحث –إن شاء الله- ؛ ولكن نرد هذا الوجه أيضا لا لكونه غير مناسب لما ترمي إليه القاعدة من طلب لترك الإنكار وإنما لكونه مشتركا مع الوجه الأول في الأصل وبذلك فاختيار المقطوع فيه البين الدلالة مقدم على المحتمل عند التعارض ونحن عندنا(لا) العاملة عمل (إن) أوضح في حصول النفي للجنس بخلاف (لا) العاملة عمل (ليس)[1] فإنها تحتمل الوجهين نفي الجنس ونفي الوحدة ولذلك فإننا نختار العاملة عمل (إن) لدلالتها القطعية-والله أعلم-.
ثانيا : إن الجواب على السؤال الثاني حول دلالة الإخبار لابد له من مقدمتين : المقدمة الأولى : أن الغالب في القواعد الأصولية والفقهية الإتيان بها على صيغة الإخبار مع ما تتضمنه من حكم فقهي أو أصولي وهذا الوجه من الاستعمال وارد في لسان العرب وفي مواضع كثيرة من نصوص الكتاب والسنة ويدخل تحت أبواب غير قليلة من مباحث علمي البلاغة والنحو وكذلك يكثر استعماله في تصانيف الأدباء الكبار ومن الأبواب التي لها تعلق وطيد بهذا اللون من التعبير اللغوي ما يسمى بأسلوب الالتفات ويدخل تحته العدول من الإنشاء إلى الخبر ومن الخبر إلى الإنشاء و العدول من الخطاب إلى الغيبة و من الغيبة إلى الخطاب و العدول من الماضي إلى المضارع و من المستقبل إلى الماضي و غيرها من الأساليب ؛ ومن ألوان التعبير في بابنا ما يسمى عند بعض أهل الفن معدول الخطاب و كذلك ما يسمى نهيا في سياق النفي و كذلك ذكر اللفظ العام وإرادة المعنى الخاص و إرادة العموم بذكر الخصوص و غيرها كثير ؛ و لمزيد بيان فهذه أمثلة متنوعة :
- قال أبوحيان في تفسيره[2](654 - 745هـ،/ 1256 - 1344م):"معدول الخطاب في قوله تعالى: {لا ريب فيه} صيغته خبر ومعناه أمر ؛ وقد مضى الكلام فيه....،قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع: منها معدول الخطاب ؛ وهو أن الخطاب بقوله :{والذين يتوفون} الآية عام والمعنى على الخصوص.".
الحاشية:
[1]جاء في اللمحة في شرح الملحة ، محمد بن الحسن الصايغ (سنة الوفاة 720 هـ )، تحقيق : إبراهيم بن سالم الصاعدي ، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى، 1424هـ/2004م:" وتكونُ بمعنى (ليس) مختصّة بالنّكرات... (وجاء في هامش التحقيق):(لا) النّافية تعمل عمل (ليس) عند الحجازيّين، ومذهب بني تميم إهمالُها، ويُشترط لعملها عمل (ليس) عند الحجازيّين ثلاثة شروط: 1- أنْ يكون اسمها وخبرها نكرتين، نحو: (لا رجلٌ أفضلَ منك)، 2- أن لا يتقدّم خبرها على اسمها، فلا نقول: (لا قائمًا رجلٌ) ، 3- ألا ينتقض النّفي بـ(إلاَّ)، فلا تقول: (لا رجلٌ إلاَّ أفضلَ من زيد) بنصب (أفضل) بل يجب رفعُه.
وكما تُنظر هذه المسألة في:
المفصّل 109، وشرح الكافية الشّافية 1/440، وشرح الرّضيّ 1/270، وأوضح المسالك 1/203، وابن عقيل 1/288 ـ 292، والهمع 2/118 - 120، وابن جني في اللمع 1/44 ، وابن القاسم في حاشية الآجرومية 111-112 .
[2]تفسير البحر المحيط ؛ محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي؛ وفي تفسيره بعض التأويلات غير السائغة خالف بها مذاهب السلف في باب الأسماء والصفات ؛ ويا حبذا لو يتصدى لدراسة كتب التفسير متخصص من أهل الإثبات فينخل مناهج أصحابها في العقيدة ؛ وذلك أنني رأيت على قصر باعي وقلة اطلاعي أبحاثا كثيرة عني فيها أصحابها بمناهج المؤلفين في تقرير العقيدة في أكثر من فن كاللغة والفقه وأصوله ؛ ولم أقف على بحث حول مناهج المفسرين في تقرير العقيدة مع خطورته وأهميته البالغة ؛ مع اكتساح هذه التفاسير لمكتبات أهل الإثبات-والذي يجدر بالذكر أن بعض العلماء مروا على هذه المسألة تبعا في طيات كتبهم ومن أولئك ابن تيمية في مقدمة التفسير؛ ومجموع الفتاوى-؛ ولتحقيق واجب البيان وسيرا على الشرط الذي وضعه أهل العلم عند النقل عن أمثال هؤلاء من بيان حالهم ليحذرهم الناس ولا يغتر بهم العامة لمجرد النقل عنهم مع الإشارة إلى أن أكثرهم معدودون في أئمة الإسلام ولا يستغنى عن علمهم وإنما وقعوا فيما وقعوا بدافع البيئة وغيرها من الأسباب التي اعتذر بها العلماء لهم ؛ فإنني أحاول بيان حالهم بذكر بعض الإشارات مراعاة لحال الإيجاز وعدم الخروج عن المقصود ؛ مع التزام النصيحة للمسلمين بأخصر عبارة ؛ والله من وراء القصد.