عبدالله الخليفي
11-23-2011, 06:13 AM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فهذا المقال يعالج مسألةً ، لطالما أجلت الكتابة فيها ، حتى رأيت ألا بد لي عن الكتابة فيها
وهي مسألة اعتبار مخالفة العالم الجليل في مسألة التصحيح والتضعيف طعناً فيه ـ وانتقاصاً لمكانته العلمية ، وانحرافاً عنه
ولي مع هذا وقفات طويلة أعانني الله على كتابتها
الوقفة الأولى : أن هذا الإطلاق فيه تسوية بين من رد على العالم بعلم ، ومن رد عليه بجهل ، وبين من رد عليه بأدب ، ومن رد عليه بلا أدب ، ومن رد عليه وكان له سلف ومن رد عليه وليس له سلف
بل رأيت بعض الإخوة يتمعر من مخالفة عالم في تصحيح حديث أو تضعيفه ، وجمهور العلماء على خلاف هذا العالم ، والباحث إنما وافق قول الجمهور
والتسوية بين هؤلاء الأصناف ظلم عظيم ، والظلم ظلمات يوم القيامة كم صح بذلك الخبر
الوقفة الثانية : أن من استبان له صحة قول ، ووجد عالماً جليلاً يخالف هذا القول ، لا يسعه السكوت لأن ذلك يكون من كتم العلم
قال أحمد في مسنده[ 7571 ] : حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
فإن قال قائل : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سئل ) ، وأنت لم يسألك أحد ؟
فيقال : أن الوعيد إنما ترتب على كتم العلم عمن احتاج إليه ، وأحياناً يكون لسان الحال أبلغ لسان من المقال ، ومن كان جهله مركباً فيعتقد الصحيح ضعيفاً ، والضعيف صحيحاً ، إنما يبذل له النصح دون انتظار مسألة منه
ولهذا جاء الوعيد على كتم العلم مطلقاً فقال الله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}
والسنة أمرها عظيم ، فهي المفسرة للقرآن وهي مصدر مستقل للتشريع ، فإذا انتشر بين الناس صحة حديث ، وتبين للباحث ضعفه وجب عليه ضعفه إلا كان داخلاً تحت الوعيد
والذين يأمرون بكتم العلم لهم نصيبٌ من قوله تعالى ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )
فإن أعظم النفقة نفقة العلم
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [4/42 ] :" قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّفَقَةِ نَفَقَةَ الْعِلْمِ "
فإن قيل : هلا تركتم هذا الأمر للعلماء ؟
فالجواب : أن ما يكتبه الباحثون في عامة أبحاثهم لا يخرج عن كونه نقلاً لكلام العلماء وسيراً على قواعدهم
وهؤلاء يقال بهم ما خالفنا عالماً إلا ووافقنا آخر في غالب أحوالنا ، وهذا قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب لمقلدة المذاهب
فقد جاء في الدرر السنية [1/ 45] قوله :" وأيضا: أنا في مخالفتي هذا العالم، لم أخالفه وحدي، فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم، وقلت القول بنجاسته، يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم ". فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي؟ قلت: أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه، قد خالفه، واستدل بالأحاديث"
أقول : فإذا خالفت العلامة أحمد شاكر في حديثٍ صححه وذهبت لتضعيفه تبعاً للحافظ ابن حجر فجاء جاهلٌ ظالم وقال :" هل أنت مجتهد ؟ حتى تخالف الشيخ شاكر وهل بلغت رتبته "
كان الجواب : أما أنا فما بلغت رتبته ، ولكن من خالفه من العلماء قد بلغها ومنهم من اجتازها ، وإذا نقدر للأئمة أمثال الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني والشيخ الوادعي تجديدهم في الدين ليس في باب الحديث فقط ، بل في عامة أبواب الدين ، فلا يعني هذا أن نولي ظهورنا لجهود العلماء والحفاظ على مدى أربعة عشر قرناً
وبمثل هذا يجاب على نقطة العرض على المتخصصين ، فإن العرض على أقوال المتقدمين والمتأخرين من الحفاظ ، أبلغ في طمأنة الباحث على صوابه من العرض على دكتور معاصر متخصص
ثم إن الاجتهاد يتجزأ ، وترك التقليد لمن كان قادراً على الاجتهاد مشروعٌ بإجماع أهل الملة واختلفوا في وجوبه والصواب وجوبه
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [20/ 211] :" وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم فقال أبو حنيفة هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ابو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات ومسألة الأجناس فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت
ومالك كان يقول إنما أنا بشر أصيب وأخطيء فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه
والشافعي كان يقول إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعه على الطريق فهي قولي وفى مختصر المزني مما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال مع إعلامه نهيه وعن تقليده وتقليد غيره من العلماء والإمام احمد كان يقول لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثورى وتعلموا كما تعلمنا وكان يقول من قلة علم الرجل ان يقلد دينه الرجال وقال لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه وأما القادر على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل يجوز مطلقا وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين
إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذاهب إمام آخر وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح"
أقول : وكلام شيخ الإسلام على الاجتهاد في المسائل الفقهية ، والاجتهاد فيها مركب من الاجتهاد في السند ، والاجتهاد في المتن ، فمن منع الاجتهاد في واحدة من هذه ، لم يكن له أن يعترض على المنع في الآخر
والمراد أن التعصب لعالمٍ معين في التصحيح والتضعيف ، يفتح الباب لمتعصبة المذاهب كما يأتي شرحه في الوقفة الثالثة
ثم هل يشترط في كتابة المسألة الفقهية التي يرجح في طالب بين قولين لأهل العلم أن يكون عالماً ؟
بل بعض إخواننا يقول ( اتركوا الأمر لأهل العلم ) ، وكأننا لا ننقل كلام أهل العلم ، ثم هو يتولى كبر الرد علينا ، فهلا ترك الأمر لأهل العلم
الوقفة الثالثة : أن التعصب لأحكام عالمٍ معين في التصحيح والتضعيف لا يختلف عن التعصب لفتاوى فقيهٍ معين ، ولا فرق بينهما
بل متعصبة المذاهب عندي أحسن حالاً من كثيرٍ من هؤلاء الإخوة ، وذلك أن متعصبة المذاهب إنما يقلدون أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
وأما هؤلاء الإخوة فيقلدون أحد المعاصرين من دون بقية المعاصرين والمتقدمين والمتأخرين فأي تقليدٍ هذا ؟
فهذا كحال من قال عنهم شيخ الإسلام في الرد على البكري ص171 :" لا يحسن التقليد الذي يعرفه متوسطة الفقهاء لعدم معرفته بأقوال الأئمة و مآخذهم"
ويا ليت شعري إذا كنا نبدع من يتعصب للمتقدمين ، فما عسانا نقول فيمن يتعصب لرجل من المعاصرين
ثم إن مقلدة المذاهب يقلد أحدهم إماماً ولا يثرب على من قلد غيره أو خالفه ، وأما من ثرب فهو متعصب ، وهذا ما رأيته من بعض الإخوة
ويظهر هذا التعصب بعدة أمور
الأول : حرصهم على معرفة أحكام هذا العالم دون بقية العلماء
الثاني : عدم الاعتداد بمن خالفه كائناً من كان ، حتى أني رأيت من يدرس بعض كتب الفقه فإذا تعرض لمسألةٍ فقهية ذكر فيها أقوال المذاهب حتى إنه ربما تعرض لشذوذات أهل الرأي وأهل الظاهر
فإذا جاء على حديث لم يذكر قول عالمٍ معاصر فقط ! ، وبعض الأحاديث التي يتعرض فيها خلافٌ كبير بين المحدثين ، فليته ذكر المتقدمين والمتأخرين وبقية المعاصرين مجرد ذكر وإن لم يرجح كلامهم
فنشأ عن هذه الطريقة مجموعة من طلبة العلم ، تتسع صدورهم للخلافيات الفقهية ، غير أن صدورهم ضيقة عند البحث في الخلافيات في مسائل الحديث
الثالث : رميهم بالتسرع كل من خالف هذا العالم ، دون إقامة بينة على ذلك
الرابع : اعتراضهم على من يخالف هذا العالم بذكر كلامه مجرداً ، وكأنه حجة بنفسه ، فربما كتب الباحث بحثاً أنفق عليه وقتاً طويلاً وانفصل إلى تضعيف حديث ما ، فيأتي أحدهم ويعلق على كلامه ب ( صححه الشيخ فلان ) وفقط !
ولا أدري إذا كان الأمر تحاكماً للأسماء ، فلماذا وضعت القواعد العلمية ؟
بل لو قلدنا أحداً لقلدنا الأئمة المتقدمين مثل أحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم والبخاري والدارقطني
الرابع : اعتبار مخالفة هذا العالم طعناً فيه ، وضعفاً في سلفية المخالف ، بل علامة السلفية عند بعضهم التقليد المطلق لهذا العالم ، أو محاولة الانتصار لأقواله ولو بالتكلف البارد ، أو اقتراع قواعد لم يكن يقول بها هذا العالم كما رأيته من بعض الإخوة
بل الطريف أن من هؤلاء من يدرس المصطلح ، ولا أدري ما حاجته لعلم المصطلح ما دام مقلداً !
قال الصنعاني إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد ص33 :" وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الذَّهَبِيّ يَا مقلد وَيَا من زعم أَن الاجتهاد قد انْقَطع وَمَا بَقِي مُجْتَهد لَا حَاجَة لَك فِي الِاشْتِغَال بأصول الْفِقْه وَلَا فَائِدَة فِي أصُول الْفِقْه إِلَّا لمن يصير مُجْتَهدا بِهِ فَإِذا عرفه وَلم يفك تَقْلِيد إِمَامه لم يصنع شَيْئا بل أتعب نَفسه وَركب على نَفسه الْحجَّة فِي مسَائِل وَإِن كَانَ يَقْرَؤُهُ لتَحْصِيل الوظائف وليتعال فَهَذَا من الوبال"
فإن قالوا : نحن لا نقلد ولا نتعصب
قيل : فما تسمى كل تلك الممارسات السابقة ؟
قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في كتاب العبادة ص203 :" فإن قيل : أنهم لا يصرحون باعتقاد العصمة _ يعني للشافعي _
قلت : نعم ، ولكن ألا تراهم كلما عرض عليهم قول من أقوال الشافعي اعتقدوا أنه الحق ولا يترددون فيه ولو خالف القرآن أو خالف الأحاديث الصحيحة أو خالف أكابر الصحابة ، أو خالف جمهور الأمة فلولا أنهم يعتقدون له العصمة لكانوا إذا بينت لهم الجهة على خلافه خضعوا لها "
أقول : وهذا ينطبق على أولئك الإخوة فلم يهجرون أقوال الأئمة متقدمهم ومتأخرهم ويتشبثون بأحد المعاصرين ، ثم يتمعرون غاية التمعر من مخالفته ، وينسبون إلى مخالفه كل نقيصة ناسبت المقام في عقولهم
فإن قيل : إنما نمنع من تعقب العالم لما له من قدم صدق في الأمة ، ونخشى أن يتجرأ عليه أهل الأهواء
قلنا : هذا أبلغ في الدلالة على التعصب ، فمضمون هذا الكلام أن هذا العالم ، أعظم قدراً من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنقبل أن ينسب له عليه الصلاة والسلام كلاماً لم يقله وينتشر ذلك في الأمة ، حفاظاً على كرامة العالم !
فإن قيل : إنما ننكر تخصيص عالمٍ معين بالنقد والتعقب
قلنا : لا تخصيص في الواقع ، وهذا محض تهويل ، ثم إن التخصيص لو وقع فقد يكون له دافعه الشرعي الذي يجعله سائغاً
كأن يكون المرء يبحث في كل ما وقع بين يديه من الأحاديث فما كان مشهوراً بين الناس بالصحة أو الضعف ، ووجد الأمر اشتهر بين الناس ، لم يكتب فيه شيئاً ، لأنه لا كبير فائدة في ذلك
ولكن ما وجد أنه اشتهر بين الناس أنه صحيح وهو ضعيف ، أو اشتهر بين الناس أنه ضعيف وهو صحيح ، كتب في ذلك لأهمية الأمر ، مع كامل التوقير والاحترام للعلماء الذين خالفوا ، والحق أحق أن يتبع
وقد وقع ذلك كثيراً في أزمنة السلف ، وما أنكر ذلك أحد فما بال أهل عصرنا !
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ [4/ 1373] :" قرأت بخط الحافظ أبي موسى المديني: يقول أبو موسى عفا الله عنه: قل من قدم علينا من الأصحاب من يفهم هذا الشأن كفهم الإمام ضياء الدين عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسي زاده الله توفيقا وقد وفق لتبيين هذه الغلطات - يعنى التي في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم، إلى أن قال: ولو كان الدارقطني في الأحياء وأمثاله لصوبوا فعله، وقل من تفهم في زماننا لما فهمه"
أقول : أما قد مات الدارقطني ومن قبله ، وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب ، يعتذر المرء فيهم من العلم ، كما يعتذر الأوائل من الجهل
قال ابن قتيبة في مقدمة إصلاح كتاب أبي عبيد :" لعلّ ناظرًا في كتابِنا هذا ينفر من عنوانِه، و يستوحِشِ من ترجمتِه، و يربَأُ بأبي عبيد رحمه الله، عن الهَفْوة، و يأْبَى له الزلة، و يتوحّش قَصْبَ العلماء، و هتكَ أستارهم. و لا يعلم ما تقلّدناه من إكمال ما ابتدأ: من تفسير غريب الحديث، و تشييد ما أسّسَ، و أنّ ذاك هو الذي ألزمَنَا إصلاحَ الفساد، وسدَّ الخلل. على أنّا لم نقل في ذلك الغلط: إنه اشتمالٌ على ضلالة، أو زيغ عن سنة. و إنما هو في رأي قضي به على معنى مستتر، أو حرف غريب مشكل.
و قد يتعثّر في الرأي جِلّةُ أهلِ النظر و العلماءِ المبرزون، و الخائفُون لله الخاشِعُون، فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم و رضي عنهم-و هم قادة الأنام، و معادِن العلم،و ينابيع الحكمة، و أولى البشر بكل فضيلة، و أقربُهم من التوفيق و العصمة – ليس منهم أحدٌ قال برأيِهِ في الفقه إلا و في قوله ما يأخُذ به قومٌ، و فيه ما يرغب عنه آخرون...و كذلك التابعون....و الناسُ يختلفون في الفقه، و يردّ بعضُهم على بعض في الحلال أنه حرام، و في الحرام أنه حلال. و هذا طريق النجاة أو الهلكة، لا كالغريب و النّحو و المعاني التي ليس على الهافي فيها كبير جناح، كالشافعي يردُّ على الثوري و أصحاب الرأي، و على معلّمِه مالك بن أنس.
و "أبو عبيد" يختارُ من أقاويلِ السّلف في الفقه، و من قراءتِهم، و يرذل منها، ويدلّ على عورات بعضها بالحجج البيّنة.
و علماءُ اللغة أيضا يختلِفُون، و يُنبِّه بعضُهم على زلَل بعض.و الفرَّاء يردُّ على إمامِه الكسائي، و هشام يرد على الفراء، و الأصمعي يُخطئ المفضل... و هذا أكثر من أنْ يُحاط به، أو يوقف من ورائه .
و لا نعلم أنّ الله عز وجل أعطى أحداً من البشر موثقًا من الغلط، و أماناً من الخطَأ، فنستنكف له منها، بل وصل عبادَه بالعجز ، و قرنهم بالحاجة، و وصفهم بالضعف و العجلة، فقال: (و خُلق الإنسانُ ضعيفا) و (خلق الإنسانُ من عَجَل)، (و فوق كل ذي علم عليم).
و لا نعلمه خصَّ بالعلم قوماً دون قوم، و لا وقفه على زمن دون زمن، بل جعله مشتركا مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن الأول، و يُنبِّه المقل منه على ما أغفل عنه المكثر و يُحييه بمتأخّر يتعقب قول متقدم، و تال يعتبر على ماض.
و أوجبَ على كل من علِم شيئا من الحق أن يُظهره و ينشره، و جعل ذلك زكاةَ العلم، كما جعل الصدقة زكاةَ المال. و قد قيل:اتقوا زلة العالم، و زلة العالم لا تُعرف حتى تُكشَف، و إن لم تتُعرف هلكَ بها المقلدون، لأنهم يتلقونها من العالم بالقبول، و لا يرجعون إلا بالإظهار لها، و إقامة الدلائل عليها، و إحضار البراهين.
و قد يظنّ من لا يعلم من الناس، و لا يضع الأمورَ مواضعها أنّ هذا اغتياب العلماء، و طعنٌ على السلف، و ذكرٌ للموتى، و كان يُقال: اعفُ عن ذي قبر. و ليس ذاك كما ظنوا، لأنّ الغيبة سبُّ الناس بلئيم الأخلاق، و ذكرهم بالفواحش و الشائنات. و هذا هو الأمر العظيم المشبه بأكل اللحوم الميتة. فأما هفوة في حرف، أو زلة في معنى ، أو إغفال، أو وهم أو نسيان- فمعاذ الله أن يكون هذا من ذلك الباب، أو أن يكون له مشاكلا أو مقاربا، أو يكون المنبِّه عليه آثما، بل يكون مأجورا عند الله ، مشكورا عند عبادِه الصالحين، الذين لا يميل بهم هوى ، و لا تدخلهم عصبية. و لا يجمعهم على الباطل تحزّب.و لا يلفتهم عن استبانة الحق حسد.
و قد كنا زمانا نعتذر من الجهل.فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، و كنا نؤمل شكرَ الناس بالتنبيه و الدلالة فصرنا نرضى بالسلامة. و ليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال و لا ينكر مع تغيّر الزمان، و في الله خلف. و هو المستعان.
و نذكر الأحاديث التي خالفنا فيها الشيخَ أبا عبيد رحمه الله، في تفسيرها. على قلتها في جنب صوابه. وشكرنا ما نفعنا الله به من علمه، معتدين في ذلك بأمرَين.
أحدهما: ما أوجبه الله على من علم في علمه.
و الآخر: ألا يقف ناظرٌ في كتبنا على حرفٍ خالفناه فيه، فيقضي علينا بالغلط.
و نحن من ذلك إن شاء الله سالمون. و ما أولاك-رحمك الله- بتدبّر ما نقزل.
فإنْ كان حقا، و كنتَ لله مريدا- أن تتلقاه بقلبٍ سليم. و إن كان باطلا، أو كان فيه شيء ذهب عنا- أن تردَّنا عنه بالاحتجاج و البرهان، فإن ذلك أبلغ في النصرة، و أوجب للعذر، و أشفى للقلوب"
أقول : ما أشبه حال أولئك الذين وصف ابن قتيبة بحال القوم
قال محمد بن ناصر بن محمد السلامي في كتاب التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها تصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد الهروي ص151 :" وكذلك أصحاب الحديث الحفاظ ، قد أخذ بعضهم على بعض ، فهذا الخطيب الحافظ أبو بكر صاحب تاريخ بغداد قد صنف كتاباً سماه كتاب الأوهام وهو أربعة عشر جزءاً سماعنا ذكر فيه ما وهم فيه الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج والإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، وغيرهم مثل البخاري ومسلم ومن يجري مجراهما وكذلك الأمير الحافظ أبو نصر ابن ماكولا ألف كتاباً في أوهام الحفاظ في كتب المؤتلف والمختلف في الأسماء رد فيه على الشيخ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني والشيخ أبي محمد عبد الغني بن سعيد المصري والشيخ أبي بكر الخطيب الحافظ أيضاً ، والكتاب عشرة أجزاءٍ بخطه وهو روايتي عنه بالإجازة ، وقد وهم الأمير أبو نصر أيضاً في كتابه الذي جمعه وسماه الإكمال في المؤتلف والمختلف في مواضع كثيرة ، وصحف بعض الأسماء تجمع وتذكر في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى ، وقد جمع الشيخ أبو الحسن الدارقطني الحافظ _ رحمه الله _ كتاباً في تصحيف العلماء والحفاظ نحواً من عشر كراريس وهو سماعنا ، وليس في ذلك ولا نقص عليهم إذ الإنسان قد جبل على الخطأ والنسيان وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( إنما الإنسان إنساناً لأنه ينسى ) "
ثم قال :" وإنما تعد أغلاط العلماء وسقطات الفضلاء فأما الجهال ، فلا يعبأ بهم وبقولهم ، وإنما أخذ العلماء بعضهم على بعض فيما يقع منهم سهواً أو خطأً نصيحةً منهم للعلم وحفظه ، ولئلا يكون خيانةً منهم لطالب العلم ولم يقصدوا بذلك عيب بعضهم لبعض ،إذ كان الله سبحانه قد برأهم من ذلك ونزههم عنه "
قال الخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 6) :" ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا .
وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء فيما أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ أخبرنا أبو طاهر عبدالواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم حدثنا محمد بن العباس اليزيدي حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال قال أبو عمرو ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاما ونصب لكل قوم إماما لزم المهتدين بمبين أنوارهم والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم ممن رزق البحث والفهم وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا إذ لم يكونوا معصومين من الزلل ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل وذلك حق العالم على المتعلم وواجب على التالي للمتقدم وعسى أن يضع العذر لنا"
وقال العلامة المعلمي في كتاب العبادة ص 273 :" وأهل العلم إذا بلغهم خطأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغتر الناس بجلالته ربما وضعوا من فضله ، وغبروا في وجه شهرته ، مع محبتهم له ومعرفتهم لمنزلته ولكن يظهرون تحقيره لئلا يفتتن به الناس
ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحط الشديد على البخاري في صدد الرد في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه حتى لقد يخيل إلى القاريء ما يخيل إليه ، مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة ، ومحبته له وإجلاله أمرٌ معلوم في التاريخ وأسماء الرجال "
وقال أيضاً في ص274 :" وبالجملة فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم من يخافون ضلال الناس بسببه ، ولو علم محبو المطعون فيه هذا المعنى ، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثلب أولئك الأكابر حميةً وعصبية والله المستعان "
أقول : والله يعلم أننا ما حطينا على أحد من أئمة أهل السنة
وقال العلامة ربيع بن هادي المدخلي كما في فتاويه ورسائله (14/ 166) :" إذا أخطأ ابن تيمية نقول أخطأ ، وإذا أخطأ ابن باز نقول أخطأ ، وإذا أخطأ محمد بن عبد الوهاب نقول أخطأ "
وقال أيضاً (14/167) :" هذا حمود التويجري يرد على الألباني ، والألباني يرد على حمود التويجري ، إسماعيل الأنصاري يرد على الألباني ، الألباني يرد على إسماعيل الأنصاري ثم هم إخوان ولو يرد بعضهم على بعض الدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة ردوا على البخاري
لكن هؤلاء - يعني الحزبيين - إياك أن تنتقد
لماذا ؟
أهل الضلال لا يجيزون النقد لأئمتهم مهما بلغوا من الضلال "
أقول : أفرأيت من أين جاء هذا المنهج ؟
قال العلامة ربيع المدخلي في بيان فساد المعيار ص4 :" إن الأخطاء لا يسلم منها بشر وإنما أعطيت العصمة للأنبياء فيما يبلغونه عن الله ، ومن عداهم فقد يخطئ في أقواله الاجتهادية ، وفيما ينقله عن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - وفيما ينقله عن غيره ،وقد استدركت عائشة على عدد من الصحابة أخطاء وقعوا فيها ، وللإمام الشافعي مذهبان القديم والجديد، وقد يكون مع ذلك الصواب أحياناً في القديم وكان في غاية من الإنصاف والتواضع ، فيقول : "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني ، فأي حديث صح فأخبروني به لآخذ به".
وقد رد على شيخه الإمام مالك ورد على أبي حنيفة وصاحبيه أشياء كثيرة جداً ، ورد الليث على الإمام مالك في رسالة معروفة .
وهذا أبو حنيفة رحمه الله يخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن في ثلث المذهب( [ حاشية ابن عابدين 1/62] .) .
وهذا الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وعلومه بما في ذلك علم الرجال ، انتقده الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان في حوالي واحد وسبعين رجلاً وسبعمائة رجل ، ولم يسلما في نقدهما من الخطأ ، وقد اعتذر المعلمي للإمام البخاري بأعذار فارجع إلى مقدمة كتاب (بيان خطأ البخاري) .
وقد انتقد الإمام الدارقطني الإمامين البخاري ومسلما في أحاديث من صحيحيهما .
قال النووي : "إنها مائتا حديث"انظر مقدمة شرح النووي لصحيح مسلم (1/7) وقال السلفي : "إنها مائتان وسبعة أحاديث" .
وذكر البقاعي عن الحافظ ابن حجر : "أنها مائتان وعشرة أحاديث " .
ولابن حبان أوهام كثيرة ، وكم أورد في كتابه الثقات من المجهولين .
وقد ألف عبدالغني بن سعيد كتاباً في بيان أوهام الحاكم أبي عبدالله في كتاب (المدخل إلى الصحيح) وألَّف الذهبي كتاباً في الأحاديث الموضوعة في المستدرك حيث بلغت مائة حديث ، وكم فيه من الأحاديث الضعيفة ؟!
وكم له من الأوهام في قوله على شرط الشيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ؟!
وألف ابن القطان كتاباً يقع في مجلدين مخطوطين سماه (بيان الوهم والإيهام) بين فيه أوهام عبد الحق الإشبيلي .
وأخطاء العلماء من هذا النوع وانتقادها كثير وكثير ، ولم يفكر أحد من النقاد في إسقاط من ينتقده ويخطؤه، ولم يقل أحد بذلك لأن هذه الأمور لا تعد ذنوباً ولا بدعاً يفسَّق أو يكفَّر بها أو يجرح بها في عدالة الراوي أو ضبطه.اهـ
علماً بأننا لا نبدع أئمة أهل السنة ولا نضللهم
الوقفة الرابعة : أن مسلك هؤلاء الإخوة يخالف منهج العلماء الذين يتعصبون لهم ، فإنهم ما كانوا يدعون إلى تقليد أحد
وقال العلامة الألباني كما في سؤالات ابن أبي العينين له ص 39 :" الاختلاف أمر طبيعي ، لا بد منه ولذلك أنا لا أنكر ، ولا أؤاخذ طويلب علم يخالف البخاري ومسلماً فضلاً عن الألباني في آخر الزمان ، لا أنكر ذلك عليه إذا ما كان فعلاً طالب علم واجتهد ، وبدا له خلاف ما بدا لمن سمينا من المتقدمين أو المتأخرين "
أقول : ولكن ظهر من يثرب على من يوافق عامة المتقدمين والمتأخرين ويخالف أحد المعاصرين ، أفرأيت ما أصابنا وحل بنا ! ، من تسلط أشباه طلبة العلم والله المستعان
وبعضهم ما به توقير العلماء ولا التعصب ، وإنما هناك دخائل أخرى الله عز وجل أعلم بها
بل ما تجد المرء يكتب بحثاً يوافق فيه جمعاً من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين إلا وينسب للعجلة ، وحقيقة هذا نسبة هؤلاء الأئمة للعجلة
الوقفة الخامسة : أن عامة هؤلاء ليس عنده أدلة على بطلان الأبحاث التي ينصبون لها العداء
فماذا لو كانت صحيحة ؟
فإن معنى هذا أنهم نصبوا العداء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرضوا بأن تنقح !
فانظر في أي مقامٍ خطيرٍ وضعوا أنفسهم ، ثم إن اتهام المقابل بالعجلة أو الجهل دون إقامة بينة على ذلك لا يغني من الحق شيئاً فإنه لو حاباك وسكت اليوم ، فلن يسكت غداً ، لأنه يرى نفسه على الحق ، وأنه يقوم بقربةٍ من أرجى أعماله
والوقوف على زلة أو زلتين أو ثلاثة ، ليس من الإنصاف أن تجعل سبباً لهدم جميع أبحاث الباحث
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فهذا المقال يعالج مسألةً ، لطالما أجلت الكتابة فيها ، حتى رأيت ألا بد لي عن الكتابة فيها
وهي مسألة اعتبار مخالفة العالم الجليل في مسألة التصحيح والتضعيف طعناً فيه ـ وانتقاصاً لمكانته العلمية ، وانحرافاً عنه
ولي مع هذا وقفات طويلة أعانني الله على كتابتها
الوقفة الأولى : أن هذا الإطلاق فيه تسوية بين من رد على العالم بعلم ، ومن رد عليه بجهل ، وبين من رد عليه بأدب ، ومن رد عليه بلا أدب ، ومن رد عليه وكان له سلف ومن رد عليه وليس له سلف
بل رأيت بعض الإخوة يتمعر من مخالفة عالم في تصحيح حديث أو تضعيفه ، وجمهور العلماء على خلاف هذا العالم ، والباحث إنما وافق قول الجمهور
والتسوية بين هؤلاء الأصناف ظلم عظيم ، والظلم ظلمات يوم القيامة كم صح بذلك الخبر
الوقفة الثانية : أن من استبان له صحة قول ، ووجد عالماً جليلاً يخالف هذا القول ، لا يسعه السكوت لأن ذلك يكون من كتم العلم
قال أحمد في مسنده[ 7571 ] : حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
فإن قال قائل : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سئل ) ، وأنت لم يسألك أحد ؟
فيقال : أن الوعيد إنما ترتب على كتم العلم عمن احتاج إليه ، وأحياناً يكون لسان الحال أبلغ لسان من المقال ، ومن كان جهله مركباً فيعتقد الصحيح ضعيفاً ، والضعيف صحيحاً ، إنما يبذل له النصح دون انتظار مسألة منه
ولهذا جاء الوعيد على كتم العلم مطلقاً فقال الله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}
والسنة أمرها عظيم ، فهي المفسرة للقرآن وهي مصدر مستقل للتشريع ، فإذا انتشر بين الناس صحة حديث ، وتبين للباحث ضعفه وجب عليه ضعفه إلا كان داخلاً تحت الوعيد
والذين يأمرون بكتم العلم لهم نصيبٌ من قوله تعالى ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )
فإن أعظم النفقة نفقة العلم
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [4/42 ] :" قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّفَقَةِ نَفَقَةَ الْعِلْمِ "
فإن قيل : هلا تركتم هذا الأمر للعلماء ؟
فالجواب : أن ما يكتبه الباحثون في عامة أبحاثهم لا يخرج عن كونه نقلاً لكلام العلماء وسيراً على قواعدهم
وهؤلاء يقال بهم ما خالفنا عالماً إلا ووافقنا آخر في غالب أحوالنا ، وهذا قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب لمقلدة المذاهب
فقد جاء في الدرر السنية [1/ 45] قوله :" وأيضا: أنا في مخالفتي هذا العالم، لم أخالفه وحدي، فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم، وقلت القول بنجاسته، يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم ". فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي؟ قلت: أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه، قد خالفه، واستدل بالأحاديث"
أقول : فإذا خالفت العلامة أحمد شاكر في حديثٍ صححه وذهبت لتضعيفه تبعاً للحافظ ابن حجر فجاء جاهلٌ ظالم وقال :" هل أنت مجتهد ؟ حتى تخالف الشيخ شاكر وهل بلغت رتبته "
كان الجواب : أما أنا فما بلغت رتبته ، ولكن من خالفه من العلماء قد بلغها ومنهم من اجتازها ، وإذا نقدر للأئمة أمثال الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني والشيخ الوادعي تجديدهم في الدين ليس في باب الحديث فقط ، بل في عامة أبواب الدين ، فلا يعني هذا أن نولي ظهورنا لجهود العلماء والحفاظ على مدى أربعة عشر قرناً
وبمثل هذا يجاب على نقطة العرض على المتخصصين ، فإن العرض على أقوال المتقدمين والمتأخرين من الحفاظ ، أبلغ في طمأنة الباحث على صوابه من العرض على دكتور معاصر متخصص
ثم إن الاجتهاد يتجزأ ، وترك التقليد لمن كان قادراً على الاجتهاد مشروعٌ بإجماع أهل الملة واختلفوا في وجوبه والصواب وجوبه
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [20/ 211] :" وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم فقال أبو حنيفة هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه ابو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات ومسألة الأجناس فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت
ومالك كان يقول إنما أنا بشر أصيب وأخطيء فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه
والشافعي كان يقول إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعه على الطريق فهي قولي وفى مختصر المزني مما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال مع إعلامه نهيه وعن تقليده وتقليد غيره من العلماء والإمام احمد كان يقول لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثورى وتعلموا كما تعلمنا وكان يقول من قلة علم الرجل ان يقلد دينه الرجال وقال لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه وأما القادر على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل يجوز مطلقا وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال
والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين
إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذاهب إمام آخر وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح"
أقول : وكلام شيخ الإسلام على الاجتهاد في المسائل الفقهية ، والاجتهاد فيها مركب من الاجتهاد في السند ، والاجتهاد في المتن ، فمن منع الاجتهاد في واحدة من هذه ، لم يكن له أن يعترض على المنع في الآخر
والمراد أن التعصب لعالمٍ معين في التصحيح والتضعيف ، يفتح الباب لمتعصبة المذاهب كما يأتي شرحه في الوقفة الثالثة
ثم هل يشترط في كتابة المسألة الفقهية التي يرجح في طالب بين قولين لأهل العلم أن يكون عالماً ؟
بل بعض إخواننا يقول ( اتركوا الأمر لأهل العلم ) ، وكأننا لا ننقل كلام أهل العلم ، ثم هو يتولى كبر الرد علينا ، فهلا ترك الأمر لأهل العلم
الوقفة الثالثة : أن التعصب لأحكام عالمٍ معين في التصحيح والتضعيف لا يختلف عن التعصب لفتاوى فقيهٍ معين ، ولا فرق بينهما
بل متعصبة المذاهب عندي أحسن حالاً من كثيرٍ من هؤلاء الإخوة ، وذلك أن متعصبة المذاهب إنما يقلدون أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
وأما هؤلاء الإخوة فيقلدون أحد المعاصرين من دون بقية المعاصرين والمتقدمين والمتأخرين فأي تقليدٍ هذا ؟
فهذا كحال من قال عنهم شيخ الإسلام في الرد على البكري ص171 :" لا يحسن التقليد الذي يعرفه متوسطة الفقهاء لعدم معرفته بأقوال الأئمة و مآخذهم"
ويا ليت شعري إذا كنا نبدع من يتعصب للمتقدمين ، فما عسانا نقول فيمن يتعصب لرجل من المعاصرين
ثم إن مقلدة المذاهب يقلد أحدهم إماماً ولا يثرب على من قلد غيره أو خالفه ، وأما من ثرب فهو متعصب ، وهذا ما رأيته من بعض الإخوة
ويظهر هذا التعصب بعدة أمور
الأول : حرصهم على معرفة أحكام هذا العالم دون بقية العلماء
الثاني : عدم الاعتداد بمن خالفه كائناً من كان ، حتى أني رأيت من يدرس بعض كتب الفقه فإذا تعرض لمسألةٍ فقهية ذكر فيها أقوال المذاهب حتى إنه ربما تعرض لشذوذات أهل الرأي وأهل الظاهر
فإذا جاء على حديث لم يذكر قول عالمٍ معاصر فقط ! ، وبعض الأحاديث التي يتعرض فيها خلافٌ كبير بين المحدثين ، فليته ذكر المتقدمين والمتأخرين وبقية المعاصرين مجرد ذكر وإن لم يرجح كلامهم
فنشأ عن هذه الطريقة مجموعة من طلبة العلم ، تتسع صدورهم للخلافيات الفقهية ، غير أن صدورهم ضيقة عند البحث في الخلافيات في مسائل الحديث
الثالث : رميهم بالتسرع كل من خالف هذا العالم ، دون إقامة بينة على ذلك
الرابع : اعتراضهم على من يخالف هذا العالم بذكر كلامه مجرداً ، وكأنه حجة بنفسه ، فربما كتب الباحث بحثاً أنفق عليه وقتاً طويلاً وانفصل إلى تضعيف حديث ما ، فيأتي أحدهم ويعلق على كلامه ب ( صححه الشيخ فلان ) وفقط !
ولا أدري إذا كان الأمر تحاكماً للأسماء ، فلماذا وضعت القواعد العلمية ؟
بل لو قلدنا أحداً لقلدنا الأئمة المتقدمين مثل أحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم والبخاري والدارقطني
الرابع : اعتبار مخالفة هذا العالم طعناً فيه ، وضعفاً في سلفية المخالف ، بل علامة السلفية عند بعضهم التقليد المطلق لهذا العالم ، أو محاولة الانتصار لأقواله ولو بالتكلف البارد ، أو اقتراع قواعد لم يكن يقول بها هذا العالم كما رأيته من بعض الإخوة
بل الطريف أن من هؤلاء من يدرس المصطلح ، ولا أدري ما حاجته لعلم المصطلح ما دام مقلداً !
قال الصنعاني إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد ص33 :" وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الذَّهَبِيّ يَا مقلد وَيَا من زعم أَن الاجتهاد قد انْقَطع وَمَا بَقِي مُجْتَهد لَا حَاجَة لَك فِي الِاشْتِغَال بأصول الْفِقْه وَلَا فَائِدَة فِي أصُول الْفِقْه إِلَّا لمن يصير مُجْتَهدا بِهِ فَإِذا عرفه وَلم يفك تَقْلِيد إِمَامه لم يصنع شَيْئا بل أتعب نَفسه وَركب على نَفسه الْحجَّة فِي مسَائِل وَإِن كَانَ يَقْرَؤُهُ لتَحْصِيل الوظائف وليتعال فَهَذَا من الوبال"
فإن قالوا : نحن لا نقلد ولا نتعصب
قيل : فما تسمى كل تلك الممارسات السابقة ؟
قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في كتاب العبادة ص203 :" فإن قيل : أنهم لا يصرحون باعتقاد العصمة _ يعني للشافعي _
قلت : نعم ، ولكن ألا تراهم كلما عرض عليهم قول من أقوال الشافعي اعتقدوا أنه الحق ولا يترددون فيه ولو خالف القرآن أو خالف الأحاديث الصحيحة أو خالف أكابر الصحابة ، أو خالف جمهور الأمة فلولا أنهم يعتقدون له العصمة لكانوا إذا بينت لهم الجهة على خلافه خضعوا لها "
أقول : وهذا ينطبق على أولئك الإخوة فلم يهجرون أقوال الأئمة متقدمهم ومتأخرهم ويتشبثون بأحد المعاصرين ، ثم يتمعرون غاية التمعر من مخالفته ، وينسبون إلى مخالفه كل نقيصة ناسبت المقام في عقولهم
فإن قيل : إنما نمنع من تعقب العالم لما له من قدم صدق في الأمة ، ونخشى أن يتجرأ عليه أهل الأهواء
قلنا : هذا أبلغ في الدلالة على التعصب ، فمضمون هذا الكلام أن هذا العالم ، أعظم قدراً من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنقبل أن ينسب له عليه الصلاة والسلام كلاماً لم يقله وينتشر ذلك في الأمة ، حفاظاً على كرامة العالم !
فإن قيل : إنما ننكر تخصيص عالمٍ معين بالنقد والتعقب
قلنا : لا تخصيص في الواقع ، وهذا محض تهويل ، ثم إن التخصيص لو وقع فقد يكون له دافعه الشرعي الذي يجعله سائغاً
كأن يكون المرء يبحث في كل ما وقع بين يديه من الأحاديث فما كان مشهوراً بين الناس بالصحة أو الضعف ، ووجد الأمر اشتهر بين الناس ، لم يكتب فيه شيئاً ، لأنه لا كبير فائدة في ذلك
ولكن ما وجد أنه اشتهر بين الناس أنه صحيح وهو ضعيف ، أو اشتهر بين الناس أنه ضعيف وهو صحيح ، كتب في ذلك لأهمية الأمر ، مع كامل التوقير والاحترام للعلماء الذين خالفوا ، والحق أحق أن يتبع
وقد وقع ذلك كثيراً في أزمنة السلف ، وما أنكر ذلك أحد فما بال أهل عصرنا !
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ [4/ 1373] :" قرأت بخط الحافظ أبي موسى المديني: يقول أبو موسى عفا الله عنه: قل من قدم علينا من الأصحاب من يفهم هذا الشأن كفهم الإمام ضياء الدين عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسي زاده الله توفيقا وقد وفق لتبيين هذه الغلطات - يعنى التي في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم، إلى أن قال: ولو كان الدارقطني في الأحياء وأمثاله لصوبوا فعله، وقل من تفهم في زماننا لما فهمه"
أقول : أما قد مات الدارقطني ومن قبله ، وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب ، يعتذر المرء فيهم من العلم ، كما يعتذر الأوائل من الجهل
قال ابن قتيبة في مقدمة إصلاح كتاب أبي عبيد :" لعلّ ناظرًا في كتابِنا هذا ينفر من عنوانِه، و يستوحِشِ من ترجمتِه، و يربَأُ بأبي عبيد رحمه الله، عن الهَفْوة، و يأْبَى له الزلة، و يتوحّش قَصْبَ العلماء، و هتكَ أستارهم. و لا يعلم ما تقلّدناه من إكمال ما ابتدأ: من تفسير غريب الحديث، و تشييد ما أسّسَ، و أنّ ذاك هو الذي ألزمَنَا إصلاحَ الفساد، وسدَّ الخلل. على أنّا لم نقل في ذلك الغلط: إنه اشتمالٌ على ضلالة، أو زيغ عن سنة. و إنما هو في رأي قضي به على معنى مستتر، أو حرف غريب مشكل.
و قد يتعثّر في الرأي جِلّةُ أهلِ النظر و العلماءِ المبرزون، و الخائفُون لله الخاشِعُون، فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم و رضي عنهم-و هم قادة الأنام، و معادِن العلم،و ينابيع الحكمة، و أولى البشر بكل فضيلة، و أقربُهم من التوفيق و العصمة – ليس منهم أحدٌ قال برأيِهِ في الفقه إلا و في قوله ما يأخُذ به قومٌ، و فيه ما يرغب عنه آخرون...و كذلك التابعون....و الناسُ يختلفون في الفقه، و يردّ بعضُهم على بعض في الحلال أنه حرام، و في الحرام أنه حلال. و هذا طريق النجاة أو الهلكة، لا كالغريب و النّحو و المعاني التي ليس على الهافي فيها كبير جناح، كالشافعي يردُّ على الثوري و أصحاب الرأي، و على معلّمِه مالك بن أنس.
و "أبو عبيد" يختارُ من أقاويلِ السّلف في الفقه، و من قراءتِهم، و يرذل منها، ويدلّ على عورات بعضها بالحجج البيّنة.
و علماءُ اللغة أيضا يختلِفُون، و يُنبِّه بعضُهم على زلَل بعض.و الفرَّاء يردُّ على إمامِه الكسائي، و هشام يرد على الفراء، و الأصمعي يُخطئ المفضل... و هذا أكثر من أنْ يُحاط به، أو يوقف من ورائه .
و لا نعلم أنّ الله عز وجل أعطى أحداً من البشر موثقًا من الغلط، و أماناً من الخطَأ، فنستنكف له منها، بل وصل عبادَه بالعجز ، و قرنهم بالحاجة، و وصفهم بالضعف و العجلة، فقال: (و خُلق الإنسانُ ضعيفا) و (خلق الإنسانُ من عَجَل)، (و فوق كل ذي علم عليم).
و لا نعلمه خصَّ بالعلم قوماً دون قوم، و لا وقفه على زمن دون زمن، بل جعله مشتركا مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن الأول، و يُنبِّه المقل منه على ما أغفل عنه المكثر و يُحييه بمتأخّر يتعقب قول متقدم، و تال يعتبر على ماض.
و أوجبَ على كل من علِم شيئا من الحق أن يُظهره و ينشره، و جعل ذلك زكاةَ العلم، كما جعل الصدقة زكاةَ المال. و قد قيل:اتقوا زلة العالم، و زلة العالم لا تُعرف حتى تُكشَف، و إن لم تتُعرف هلكَ بها المقلدون، لأنهم يتلقونها من العالم بالقبول، و لا يرجعون إلا بالإظهار لها، و إقامة الدلائل عليها، و إحضار البراهين.
و قد يظنّ من لا يعلم من الناس، و لا يضع الأمورَ مواضعها أنّ هذا اغتياب العلماء، و طعنٌ على السلف، و ذكرٌ للموتى، و كان يُقال: اعفُ عن ذي قبر. و ليس ذاك كما ظنوا، لأنّ الغيبة سبُّ الناس بلئيم الأخلاق، و ذكرهم بالفواحش و الشائنات. و هذا هو الأمر العظيم المشبه بأكل اللحوم الميتة. فأما هفوة في حرف، أو زلة في معنى ، أو إغفال، أو وهم أو نسيان- فمعاذ الله أن يكون هذا من ذلك الباب، أو أن يكون له مشاكلا أو مقاربا، أو يكون المنبِّه عليه آثما، بل يكون مأجورا عند الله ، مشكورا عند عبادِه الصالحين، الذين لا يميل بهم هوى ، و لا تدخلهم عصبية. و لا يجمعهم على الباطل تحزّب.و لا يلفتهم عن استبانة الحق حسد.
و قد كنا زمانا نعتذر من الجهل.فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، و كنا نؤمل شكرَ الناس بالتنبيه و الدلالة فصرنا نرضى بالسلامة. و ليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال و لا ينكر مع تغيّر الزمان، و في الله خلف. و هو المستعان.
و نذكر الأحاديث التي خالفنا فيها الشيخَ أبا عبيد رحمه الله، في تفسيرها. على قلتها في جنب صوابه. وشكرنا ما نفعنا الله به من علمه، معتدين في ذلك بأمرَين.
أحدهما: ما أوجبه الله على من علم في علمه.
و الآخر: ألا يقف ناظرٌ في كتبنا على حرفٍ خالفناه فيه، فيقضي علينا بالغلط.
و نحن من ذلك إن شاء الله سالمون. و ما أولاك-رحمك الله- بتدبّر ما نقزل.
فإنْ كان حقا، و كنتَ لله مريدا- أن تتلقاه بقلبٍ سليم. و إن كان باطلا، أو كان فيه شيء ذهب عنا- أن تردَّنا عنه بالاحتجاج و البرهان، فإن ذلك أبلغ في النصرة، و أوجب للعذر، و أشفى للقلوب"
أقول : ما أشبه حال أولئك الذين وصف ابن قتيبة بحال القوم
قال محمد بن ناصر بن محمد السلامي في كتاب التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها تصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد الهروي ص151 :" وكذلك أصحاب الحديث الحفاظ ، قد أخذ بعضهم على بعض ، فهذا الخطيب الحافظ أبو بكر صاحب تاريخ بغداد قد صنف كتاباً سماه كتاب الأوهام وهو أربعة عشر جزءاً سماعنا ذكر فيه ما وهم فيه الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج والإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، وغيرهم مثل البخاري ومسلم ومن يجري مجراهما وكذلك الأمير الحافظ أبو نصر ابن ماكولا ألف كتاباً في أوهام الحفاظ في كتب المؤتلف والمختلف في الأسماء رد فيه على الشيخ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني والشيخ أبي محمد عبد الغني بن سعيد المصري والشيخ أبي بكر الخطيب الحافظ أيضاً ، والكتاب عشرة أجزاءٍ بخطه وهو روايتي عنه بالإجازة ، وقد وهم الأمير أبو نصر أيضاً في كتابه الذي جمعه وسماه الإكمال في المؤتلف والمختلف في مواضع كثيرة ، وصحف بعض الأسماء تجمع وتذكر في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى ، وقد جمع الشيخ أبو الحسن الدارقطني الحافظ _ رحمه الله _ كتاباً في تصحيف العلماء والحفاظ نحواً من عشر كراريس وهو سماعنا ، وليس في ذلك ولا نقص عليهم إذ الإنسان قد جبل على الخطأ والنسيان وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( إنما الإنسان إنساناً لأنه ينسى ) "
ثم قال :" وإنما تعد أغلاط العلماء وسقطات الفضلاء فأما الجهال ، فلا يعبأ بهم وبقولهم ، وإنما أخذ العلماء بعضهم على بعض فيما يقع منهم سهواً أو خطأً نصيحةً منهم للعلم وحفظه ، ولئلا يكون خيانةً منهم لطالب العلم ولم يقصدوا بذلك عيب بعضهم لبعض ،إذ كان الله سبحانه قد برأهم من ذلك ونزههم عنه "
قال الخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 6) :" ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا .
وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء فيما أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ أخبرنا أبو طاهر عبدالواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم حدثنا محمد بن العباس اليزيدي حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال قال أبو عمرو ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاما ونصب لكل قوم إماما لزم المهتدين بمبين أنوارهم والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم ممن رزق البحث والفهم وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا إذ لم يكونوا معصومين من الزلل ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل وذلك حق العالم على المتعلم وواجب على التالي للمتقدم وعسى أن يضع العذر لنا"
وقال العلامة المعلمي في كتاب العبادة ص 273 :" وأهل العلم إذا بلغهم خطأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغتر الناس بجلالته ربما وضعوا من فضله ، وغبروا في وجه شهرته ، مع محبتهم له ومعرفتهم لمنزلته ولكن يظهرون تحقيره لئلا يفتتن به الناس
ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحط الشديد على البخاري في صدد الرد في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه حتى لقد يخيل إلى القاريء ما يخيل إليه ، مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة ، ومحبته له وإجلاله أمرٌ معلوم في التاريخ وأسماء الرجال "
وقال أيضاً في ص274 :" وبالجملة فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم من يخافون ضلال الناس بسببه ، ولو علم محبو المطعون فيه هذا المعنى ، لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثلب أولئك الأكابر حميةً وعصبية والله المستعان "
أقول : والله يعلم أننا ما حطينا على أحد من أئمة أهل السنة
وقال العلامة ربيع بن هادي المدخلي كما في فتاويه ورسائله (14/ 166) :" إذا أخطأ ابن تيمية نقول أخطأ ، وإذا أخطأ ابن باز نقول أخطأ ، وإذا أخطأ محمد بن عبد الوهاب نقول أخطأ "
وقال أيضاً (14/167) :" هذا حمود التويجري يرد على الألباني ، والألباني يرد على حمود التويجري ، إسماعيل الأنصاري يرد على الألباني ، الألباني يرد على إسماعيل الأنصاري ثم هم إخوان ولو يرد بعضهم على بعض الدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة ردوا على البخاري
لكن هؤلاء - يعني الحزبيين - إياك أن تنتقد
لماذا ؟
أهل الضلال لا يجيزون النقد لأئمتهم مهما بلغوا من الضلال "
أقول : أفرأيت من أين جاء هذا المنهج ؟
قال العلامة ربيع المدخلي في بيان فساد المعيار ص4 :" إن الأخطاء لا يسلم منها بشر وإنما أعطيت العصمة للأنبياء فيما يبلغونه عن الله ، ومن عداهم فقد يخطئ في أقواله الاجتهادية ، وفيما ينقله عن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - وفيما ينقله عن غيره ،وقد استدركت عائشة على عدد من الصحابة أخطاء وقعوا فيها ، وللإمام الشافعي مذهبان القديم والجديد، وقد يكون مع ذلك الصواب أحياناً في القديم وكان في غاية من الإنصاف والتواضع ، فيقول : "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني ، فأي حديث صح فأخبروني به لآخذ به".
وقد رد على شيخه الإمام مالك ورد على أبي حنيفة وصاحبيه أشياء كثيرة جداً ، ورد الليث على الإمام مالك في رسالة معروفة .
وهذا أبو حنيفة رحمه الله يخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن في ثلث المذهب( [ حاشية ابن عابدين 1/62] .) .
وهذا الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وعلومه بما في ذلك علم الرجال ، انتقده الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان في حوالي واحد وسبعين رجلاً وسبعمائة رجل ، ولم يسلما في نقدهما من الخطأ ، وقد اعتذر المعلمي للإمام البخاري بأعذار فارجع إلى مقدمة كتاب (بيان خطأ البخاري) .
وقد انتقد الإمام الدارقطني الإمامين البخاري ومسلما في أحاديث من صحيحيهما .
قال النووي : "إنها مائتا حديث"انظر مقدمة شرح النووي لصحيح مسلم (1/7) وقال السلفي : "إنها مائتان وسبعة أحاديث" .
وذكر البقاعي عن الحافظ ابن حجر : "أنها مائتان وعشرة أحاديث " .
ولابن حبان أوهام كثيرة ، وكم أورد في كتابه الثقات من المجهولين .
وقد ألف عبدالغني بن سعيد كتاباً في بيان أوهام الحاكم أبي عبدالله في كتاب (المدخل إلى الصحيح) وألَّف الذهبي كتاباً في الأحاديث الموضوعة في المستدرك حيث بلغت مائة حديث ، وكم فيه من الأحاديث الضعيفة ؟!
وكم له من الأوهام في قوله على شرط الشيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ؟!
وألف ابن القطان كتاباً يقع في مجلدين مخطوطين سماه (بيان الوهم والإيهام) بين فيه أوهام عبد الحق الإشبيلي .
وأخطاء العلماء من هذا النوع وانتقادها كثير وكثير ، ولم يفكر أحد من النقاد في إسقاط من ينتقده ويخطؤه، ولم يقل أحد بذلك لأن هذه الأمور لا تعد ذنوباً ولا بدعاً يفسَّق أو يكفَّر بها أو يجرح بها في عدالة الراوي أو ضبطه.اهـ
علماً بأننا لا نبدع أئمة أهل السنة ولا نضللهم
الوقفة الرابعة : أن مسلك هؤلاء الإخوة يخالف منهج العلماء الذين يتعصبون لهم ، فإنهم ما كانوا يدعون إلى تقليد أحد
وقال العلامة الألباني كما في سؤالات ابن أبي العينين له ص 39 :" الاختلاف أمر طبيعي ، لا بد منه ولذلك أنا لا أنكر ، ولا أؤاخذ طويلب علم يخالف البخاري ومسلماً فضلاً عن الألباني في آخر الزمان ، لا أنكر ذلك عليه إذا ما كان فعلاً طالب علم واجتهد ، وبدا له خلاف ما بدا لمن سمينا من المتقدمين أو المتأخرين "
أقول : ولكن ظهر من يثرب على من يوافق عامة المتقدمين والمتأخرين ويخالف أحد المعاصرين ، أفرأيت ما أصابنا وحل بنا ! ، من تسلط أشباه طلبة العلم والله المستعان
وبعضهم ما به توقير العلماء ولا التعصب ، وإنما هناك دخائل أخرى الله عز وجل أعلم بها
بل ما تجد المرء يكتب بحثاً يوافق فيه جمعاً من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين إلا وينسب للعجلة ، وحقيقة هذا نسبة هؤلاء الأئمة للعجلة
الوقفة الخامسة : أن عامة هؤلاء ليس عنده أدلة على بطلان الأبحاث التي ينصبون لها العداء
فماذا لو كانت صحيحة ؟
فإن معنى هذا أنهم نصبوا العداء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرضوا بأن تنقح !
فانظر في أي مقامٍ خطيرٍ وضعوا أنفسهم ، ثم إن اتهام المقابل بالعجلة أو الجهل دون إقامة بينة على ذلك لا يغني من الحق شيئاً فإنه لو حاباك وسكت اليوم ، فلن يسكت غداً ، لأنه يرى نفسه على الحق ، وأنه يقوم بقربةٍ من أرجى أعماله
والوقوف على زلة أو زلتين أو ثلاثة ، ليس من الإنصاف أن تجعل سبباً لهدم جميع أبحاث الباحث
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه