أحمد البوسيفي الليبي
08-26-2009, 12:44 PM
:: .. :: الإشفاق علـى أهـل الافتـراق ::..::
تـأليــف:
المحدث العلامة أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد ألا إلهٰ إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾} آل عمران:102.{
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾}النساء:1{.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾}الأحزاب:70,71 {
أما بعد:
فإننا في هذه الليلة المباركة من شهر شعبان المبارك، مع مذاكرة وإخواننا السامعين- نفعنا الله وإياهم -، وذلك في موضوع نرى أن الحديث عنه من الأهمية بمكان، وهو موضوع:
(( الإشفاق على أهل الافتراق ))
لأن المسلم يرحم المسلم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في « الصحيحين »( ) قال:« مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في «الصحيحين»( ) عن أنس رضي الله عنه « لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ».
لذا نرى أن أصحاب الافتراق لا بد من نصحهم، مشفقين ناصحين منذرين لربنا سبحانه وتعالى نرجو أن نكون عنده معذورين.
وفي ذلك أيضا ذكرى لنا﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ }الأعراف:99{.
}وجوب الحفاظّ على النّعم والحذر مما يسلبها{
وإن ممّا منّ الله سبحانه وتعالى به على العباد؛ لَنعمٌ كثيرة، وجب علينا أن نتذكرها، ومن أدلة ذلك﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[آل عمران:103-105]، في هذه الآية يبيّن الله سبحانه وتعالى أن الناس كانوا على شفا حفرة من النار، ولو مات الإنسان على ذلك الحال؛ على الكفر بالله، وعدم الأخوة فيه، وعدم التحاب فيه، وعلى الشحناء والبغضاء والعداوة، لا لدين الله، ولكن للأهواء والعصبيات: مات على حفرة من النار.
ولكنّ الله أنقذ الأمّة بمحمّد صلى الله عليه وسلم ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾[التوبة:128-129]، ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾[التوبة:33]، فأرسله الله عز وجل بالهدى، أرسله ليجمع به أهل الحق، ويجعلهم مفترقين مع أهل الباطل«وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ»( ).
هذه النعمة وسائر النعم يجب على المسلم أن يرعاها بطاعة الله، يقول الله عز وجل﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم:7].
ورعايتها وشكرها بالحفاظ عليها بطاعة الله، كما أبانه الله عز وجل في كتابه، وأبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، اُسلكْ ذلك تكن راعيا لنعمة الله عليك، وعلى من استرعاك الله عليه.
إن أمر النعم أمر مهم؛ إن حوفظ عليها قرّت، وإن لم يحافَظ عليها فرّت، ونعمة الاعتصام بالحق والجماعة وبالهدى نعمة عظيمة، وبليّة التّفرّق والاختلاف بليّة جسيمة، لأن الله عز وجل خلق العباد لعبادته، وألزمهم بالاجتماع على طاعته، قال تعالى﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[المؤمنون:52-56]، هذا تهديد لأولئك المتفرقين الذين تفرقوا وفرقوا، من اليهود والنصارى والمشركين، ومن حذا حذوهم من المسلمين.
} سعي أهل الفرقة فيها وفرحهم بها{
والله عز وجل يقول﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا﴾ أي خطوطا، المزبور هو المخطوط﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾، وهذا دليل على أن أهل الفرق كلٌّ منهم يسعى إلى الفرقة فرحاً بها، ويرى أنه بذلك التجزؤ والافتراق يحصل على ترؤسٍ، وتحصل له مكنة، ويحصل له ما يهدف إليه ويزيّنه له شيطانه.
وفي الحقيقة إن ذلك خذلان، كل ذلك تزيين الشيطان كما يأتي بيانه-إن شاء الله-.
وأيضا يدلّ هذا على أن التفرق من أسبابه الغمرة، الانغمار والانغماس في الجهل، وأن أهل الهدى حقا، وأهل العلم حقا يجب ألا يكون بينهم تفرّق، لأن الله عز وجل أبان لهم قوله﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾[الشورى: 10]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[النساء:59]، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65]، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:36].
[الأمر بالاجتماع وبعض صوره في الكتاب والسنة]
الله خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بالاجتماع على طاعته، ولو ذهبت تعدّد الأمور التي أمر الله عز وجل العباد للاجتماع عليها على طاعته على الحق؛ كثيرة جدّا، أمر بالاجتماع على الصلاة صلاة الجماعة، وبالاجتماع في الصيام والفطر،«الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ»( )، وبالاجتماع في الحجّ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[آل عمران:97]، ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ﴾[الحج:27]، ما هو رجل واحد﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج:27-29] الآيات.
وهكذا أدلة التعاون، وأدلة تفريج الكربات، وأدلة نصرة المظلوم،«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا »، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ« تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»( )، وسائر الأدلة﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾ [هود:40]، أدلة العِشرة، تربية البنين، كل هذا من هذا الباب؛ باب الجماعة، وأنّ كيان الأمة يقوم على التعاون الحق.
لأهمية ذلك كان هذا هو المقصود من موضوعنا في هذه الليلة.
[أسباب التّفرّق وعلاجه]
فإننا نرى- ولله الحمد- أن التفرّق حقيقة يعتبر بسبب السبل المتشعبة، مع أنه بسبب غمرات الجهل والانغماس فيه، أيضا بسبب السبل المتشعبة، وعدم الاعتصام بحبل الله، وعدم ثبات القدم على الصراط المستقيم، فالله عز وجل يقول﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾، ماذا تكون النتيجة؟ قال الله عز وجل﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، ثم وصى الله سبحانه بوصية إلهية﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الأنعام:53]، إن كان قصدكم التقوى، إن فعلتم ذلك فستتّقون عذاب الله﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، (لَعَلَّ) موجبة من الله عز وجل، وفي هذا الموضع من سلك هذا المسلك وأخذ بهذه الوصية الإلهية؛ سيتّقي عذاب الله، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾الإسلام صراط الله، كما ثبت في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه( ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا - وفي لفظ( ): وَلَا تَتَفَرَّقُوا- وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرِاطُ الإِسْلاَمُ..» الحديث، هكذا فيه، الإسلام صراط الله، من ثبتت قدمه على هذا الصراط أمِن من التفرق، ومن لم تثبت قدمه على الإسلام ثباتا حقّا؛ تخطّفته تلك الطرق المتشعّبة المتفرّقة، فصار في وادي الضياع والهيام، أودية الضياع وسبل الهلاك، كما هلكت أمم لم تثبت أقدامها على هذا الصراط من قبل، أبان ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في«الصحيحين»( ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين سألوه عن الحج كل عام وأكثروا عليه قال«دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، فلما اختلفوا وتفرقوا كان ذلك سببا في هلاكهم، هلكوا﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، هذا عين التفرق؛ تولّيهم للكافرين، وبُعْدُهم عن الصراط المستقيم، قال الله:﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾[المائدة:78-81]، فنعم؛ هذا كان سبب هلاكهم.
الصراط الإسلام، والصراط القرآن، وهو حبل الله، مع أنه صراط مستقيم، قال الله عز وجل﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾[الكهف:1]، فهو كتاب قيّم لا عِوج فيه، وهو صراط مستقيم، وهو حبل الله الذي وجب الاعتصام به كما أمر الله عز وجل قائلا﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103]، وحبل الله من اعتصم به هُدي﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾[الإسراء:9]، فالذي يريد السلامة من الهلاك يحذر الافتراق في دينه.
[ الافتراق تشبّه بالكفّار ]
إن الافتراق خطر عظيم عباد الله، يجب على المسلم أن يبغضه ويبغض أهله، ويبغض دعاة الافتراق، وأن يدعُوَ إلى الاعتصام ويحب الاعتصام ويحب أهل الاعتصام بالكتاب والسنة.
فإن الافتراق تشبّه بالكفار، وأنتم خبيرون-أو جلكم إن لم يكن كلكم- بأضرار التشبه بالكافرين﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الحشر:19] «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»( )، قال الله عز وجل﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[الأنعام:159]، وقال تعالى﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾[الروم:31-32].
[دخول أهل البدع في أدلّة النّهي عن الفرقة]
فحذر الله عز وجل من موالاة الذين فرّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً، من أهل الكفر ومن أهل البدع، قد ثبت أنهم أهل الكفر وأنهم أهل البدع، جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال«هم أهل البدع»أو قال«هم أهل الأهواء»( ).
فإذا؛ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا، معناه: ضاعوا، صاروا ضياعا، ضاعت أوقاتهم وأعمارهم، فلا تنتفع منهم ولا تواليهم﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، نظير قول الله عز وجل ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[الكافرون:6]، ونظير قول الله عز وجل﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾[هود:113]، أي أن هذا سبب الخذيلة، ونظير قول الله عز وجل﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾[الحشر:22]، ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، لست منهم وليسوا منك، لا تَناصُر بين الكافر والمسلم، ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة:120]، ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[البقرة:105]، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾[النساء:89]، فإذاً﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، وكذلك أهل الأهواء ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾.
[التّفرّق إضعافٌ للدّين والقوّة وامتدادٌ لِفِرَقِ الكفر]
هو تشبّه بالكفار، وإضافة إلى ذلك أيضا؛ يعتبر إضعافا للدين، التفرّق إضعاف للدين، وأهل التفرق هم الذين تسببوا في هجوم الكفار على المسلمين من زمن قديم، ولو فتّشت في سبب حصول الرّفض، وسبب حصول فكرة الباطنية، وسبب حصول الاشتراكية والحداثية، وسبب أيضا القدرية، وهكذا عدّد من تلك الفرق الضالة الذين كما قال الله عز وجل﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، نرى أن أصولها: إما يهود، وإما نصارى، وإما من المشركين، وأنت إذا شئتَ أن تؤصّل ذلك من كتب أهل العلم اِرجعْ إلى مصادرها كـ:«خبيئة الأكوان» لصديق حسن خان، و«الفرْق بين الفِرَق» للبغدادي، وهكذا ما يتعلق بذلك من «كتب الملل والنِّحَلْ».
كل هذا تدليل على أنه﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، وعلى أنهم في الحقيقة يضعفون الدين، وهم عكاز الكافرين والمشركين على ضرب المسلمين، ونحن مأمورون معشر المسلمين بإقامة الدين، وخطرٌ على المسلم أن يضعفه، ولا ينبغي أن يؤتى الإسلام من قِبَلِه، فالله تعالى يقول في كتابه﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]، كلّ نبيّ من أنبياء الله، وملّة من ملل الأنبياء مأمورة بهذا الأمر؛ بإقامة الدين، ومحذَّرة من ربّ العالمين عن التفرّق.
وقد يقول قائل: ما وجه حديث:«افترقت اليهود على إحدى ووسبعين فرقة، وافترقت النصارى عل ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة»؟
الجواب: اقرأ ما بعد هذا الفظ كلّه: «كلها في النار إلا واحدة» قالوا من هي يا رسول الله؟ قال:«من كان على مثل ما أنا اليوم عليه وأصحابي».
فإذاً؛ الحديث لا تقرير فيه للفِرَق، وإنما هو توبيخ وبيان لحال أهل الافتراق أنهم من أصحاب النار، إلا من رحمه الله.
نعم؛ أهل العلم يقولون: هؤلاء هم من فِرَق المسلمين، الإجماع على أن الثنتين والسبعين فرقة من هذه الأمة من فرق الإسلام، ومع ذلك معاصيهم تلك، وفتنتهم تلك تعرّضهم لعذاب الله «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»( )، «إن الله حجب- وفي رواية:حجز- التوبة عن كل صاحب البدعة حتى يدع بدعته »( ).
نعم؛ كذا أيضا، التفرّق يضعف القوة كما أنه يضعف الدين، يضعف الدين ويبث في عضد المسلمين ويضعف قوّتهم، وهو أمر مقصود لأعداء الله من قبل ومن بعد، قال الله عز وجل﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾[الأنفال:46-47]، وعند التدبر لهذه الآيات، تعلم أن التنازع سبب الفشل، وسبب ضياع الجهود، وسبب ضياع الأوقات، وسبب ضياع الأوقات، وسبب ضياع الأموال أيضا، وسبب ضياع الحياة، فهذا يُشغل بهذا، وذاك يشغل بذاك، ويكون نقمة من الله سبحانه وتعالى على أولئك المتفرقين المبتعدين عن الحق﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾[الأنعام:65]، كما جاء في الحديث عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، فَلَمَّا نَزَلَتْ ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ: «هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ»( ).
فذلك لم يُستجب فيه على أنه لم يلبسهم شيعا، وصار هذا الإلباس شيعا هو سبب الاختلاف بين الناس﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان:20]، ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾[محمد:4].
يضعف القوة، فإن المؤمن للمؤمن يشدّه كما يشدّ البنيان بعضه بعضا، وهو يعينه، وهو يعضده وينصره، حتى ولو حمله على راحلته«وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ »( )، وهكذا إماطة الأذى عنه.
[التّفرّق خذيلة لأهل الحقّ]
فإذا لم يحصل هذا، وحصل المكر من هذا بذاك، ومن ذاك لذاك حصل التخاذل، فيعتبر مع هذا كلّه خذيلة، الاختلاف والافتراق من أهل الباطل على أهل الحق يعتبر خذيلة لهم، ولا يجوز للمسلم أن يخذل مسلما، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله»( )، وأهل الأهواء-أصلحهم الله- اُبتلوا بخذيلة أهل الحق.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في«الصحيحين»(1)عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال«لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ »، والشاهد من ذلك أنه يوجد من يخذل الحق وأهل الحق.
فإذا افترق أناس من عباد الله من المسلمين وقفوا بالمرصاد لأهل الحق لتخذيلهم ولزعزعتهم وتضييعهم، ولإفسادهم وفتنتهم، قال الله عز وجل﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[البقرة:204-205]، الله لا يحب الفساد، ولو في قطع شجرة، والله لا يحب الفساد ولو في قتل حيوان لغير ما استفادة منه، فكيف في إفساد البشر، وإفساد عقولهم، وإفساد عقائدهم، وإفساد أسرهم بالمعاصي وبالتخذيل عن الحق وعن طلب العلم وعن فقه دين الله، وعن الهدى، إنما والله تعتبر نقمة على من صنع ذلك، ويعتبر خروجا عن سبل السلام، كما قال الله عز وجل﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾[المائدة: 15-16]، والله عز وجل أبان سبيل السلامة لعباده، وطريق الهدى، وسبيل الهدى، ومن أعرض عن تلك السبل أخذ إلى سبيل الضلالة والتّيه والضلال، ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام:153]، هناك سبل هدى، وهناك سبل ضياع.
[التّفرّق من أسباب عدم الرّحمة]
نعم؛ إن التفرق يعتبر من كان لاجّاً في ذلك معرِّضا نفسه لعدم رحمة الله، فإن الله عز وجل يقول في كتابه﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾[هود:118-119]، أَوَتظُنُّ أن الله خلقهم للافتراق؟! أبدا! الله خلقهم لعبادته، قال الله عز وجل﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:92]، ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء:36]، أمرهم بالاعتصام، وأمرهم بعبادته والاجتماع على ذلك، قال الله عز وجل﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103]، خلق أهل الافتراق للافتراق، وأهل الرحمة للرحمة، قال الله عز وجل﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ أي: لا يختلفون﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، خلق أهل الرحمة للرحمة أن يبقوا معتصمين، متآخين، متحابّين، متناصرين على إقامة هذا الدين دون اتباع أهواء، ودون مجاراة أغراض نفسية أو ذاتية، محكمين في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أنفسهم وإخوانهم وأقاربهم وأولادهم ونسائهم ودمائهم وأموالهم﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾[الأحزاب:36]، هذه الآية نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم» (1)عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه« احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ الْجَنَّةُ يَا رَبِّ مَا لِى لاَ يَدْخُلُنِى إِلاَّ فُقَرَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتِ النَّارُ مَا لِى لاَ يَدْخُلُنِى إِلاَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ فَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِى أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِى أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا ».
فمن الخطأ في التفسير أن تفهم أن الله خلقهم للاختلاف! فإن الله خلقهم لعبادته، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، وابتلاهم؛ بأن من اعتصم بالحق وترك الاختلاف- لأن الاختلاف ليس محمودا، الاختلاف على الدين وعلى الحق، أبداً- في آية واحدة، إنما هو مذموم.
[الجهل والبغي من أعظم أسباب الافتراق]
وما سببه إلا الجهل والبغي وما كان من هذا، والبعد عن الصراط المستقيم﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾[الشورى:14]، أي بسبب البغي الذي حصل بينهم تفرقوا، فالبغي عمود فسطاط التفرّق، قال النبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»(1) ، البغي يعتبر أصلا أصيلاً في التفرق، إضافة إلى ما تقدّم قبله من الأسباب.
[التّفرّق من الشّيطان]
ومِن شرّ التّفرّق؛ أن التفرق مع ما فيه من المسائل المذكورة من الشيطان، ليس من الرحمن، ولو كان التفرّق محمودا لما كان من الشيطان، ولما دعى الشيطان إليه أبدا، ولكن التفرق
مذموم-كما تقدم بيانه- ولهذا لما كان مذموما نصب الشيطان رايته عليه، وجعل يدعو إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه«إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»(1) ، وقصده من التحريش أن يفترق المحرِّش والمحرَّش عليه، فيحرِّش بين الأخ وأخيه، والجار وجاره، وهكذا حتى يتفرّقوا، قصده أن يضعف المسلم حتى ولو بقوله«ها» عند التثاؤب( )، أو في أيّ شأن من الشؤون، لا يرضى القوة للمسلمين أبدا، ولو بين المرء وزوجه، في «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه قال [قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ]: « إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ،- قَالَ:- فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ »، قَالَ الأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ «فَيَلْتَزِمُهُ»( ).
إذاً؛ مقصود الشيطان: الافتراق، ولو بين المرء وزوجه، أهمّ شيء تفترق الأمة وتتمزّق عنده ، حتى يتآكلون ويحصد بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم بعضا وهكذا، يحقّر بعضهم بعضا إلى آخر ذلك، هذا مقصوده، ولو التفرق الحسي أو المعنوي.
ولما كانوا في سرية كما ثبت في حديث أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِى الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِى هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ»، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالُ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ»(1)، امتثالا لذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وخوفا من ذلك التفرق، فإن التفرق ربما صار هذا في وادٍ، وهذا في وادٍ، وهذا في وادٍ، ولو جاء عدوٌّ كان وجودهم لذلك الشخص بمفرده، ربما أنكى لوحده ولمفرده، أما للجماعة فلا يستطيع ذلك، ولا سيما في أماكن يُتوَقَّع فيها الأعداء، وهكذا يسعى الشيطان في التفرق بين الناس حتى في الخمر، وما كان ناصبا رايته على محبة الخمر والدعوة إليه إلا من أجل هذا المقصد، قال الله سبحانه وتعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾[المائدة:90-91]، في أيّ شيء؟ ﴿ فِي الْخَمْرِ﴾، إذا شرب الخمر ضارب وقاتل ووقع على المحرمات، وحصلت الفتن بين الناس، والقتل والقتال، ولا يعظّم حرمة، ولا ينتبه لأمر من الأمور المنهيات﴿أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، قالوا: انتهينا.
الشاهد من هذا، أن الشيطان له طرق وأسباب ووسائل يسلكها لقصد التفريق بين الناس.
التفريق بين الناس يعتبر ذنبا عظيما، أعني بين أهل الحق، يعتبر حوبا كبيرا، وذنبا عظيما، من سعى فيه فإنك لا تسأل عن عظم ذنبه، كما ثبت ذلك عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه عند الإمام أحمد بإسناد صحيح(1)، أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ فَمَاتَ، وَامْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ فَلَا تَسْأَلْ ..» الحديث.
معنى ذلك؛ أن تفريق الجماعة يسبّب الذنب العظيم.
[التفرق قد يؤدي إلى المروق من الدين]
إن أمر التفرق ربما أدى بصاحبه إلى إلى التوغّل فيه والانهمار فيه إلى أن يمرق من الدين،كما صنع الخوارج وتفرقوا على المسلمين وعلى الحق وعلى السنة، حتى شاقّوا الله ورسوله، والله عزوجل توعّد من شاقّ الله ورسوله، ومن اختلف على الحق وتخلف عغنه، أنه يَكِلُهُ إلى نفسه، وتوعّده بالعذاب﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[النساء:115]، وأنت أيها العبد فقير إلى ربّك، لستَ تستطيع أن تقوم قَوْمةً، ولا حركةً، ولا سكَنَةً إلا بالله سبحانه وتعالى، فإذا ولاّك الله ما تولّليتَ هلكتَ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾[فاطر:15-17]، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾[هود:57]، وفي «الصحيحين» ما يدل على أن من الذين تفرقوا ما أبيح دمهم بسبب تفرقهم عن الحقّ،؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ »(1)، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»(1)، وفي«صحيح مسلم» من حديث عرفجة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»(1)، أمرٌ مهمّ، إذا جاء الإنسان إلى أمّة ، يفرق أمة عن والي أمرها المسلم، أو يفرّق أمّة عن دعوة الحق ودعوة السنة، أو يفرّق أمّة عمّا هم فيه من الاجتماع والألفة، فإن هذا خطير جدّاً، عند التأمّل في مثل هذه الأدلّة.
حتى ولو فرق بين امرأة وزوجها، فما باك بالتفريق بين أمة وأعداد هائلة، « لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ »( )، وقد علمتَ قول أهل العلم[في]«لَيْسَ مِنَّا»( )، وكلامهم في هذا المعنى.
الشاهد من هذا؛ أن أمر التفرق أمر خطير جدّاً، وهو يعتبر تخاذلا، يجلب التخاذل ويجلب للأمة الشّرّ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي عن العرباض بن سارية -وهو ممن نزل فيه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة:92]- قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا»، هذا الاختلاف وهذا التفرّق له علاج، وله وسائل تزيله، فمِنْ علاجه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة»( ) ، فإذا سلك الناس محدثات الأمور هذا عين التّفرّق، ولا يمكن لهم اجتماع، ولهذا افترقوا على كذا وكذا فرقة كما في الحديث، على ثلاث وسبعين فرقة، والله أعلم أن هذه الفرق إنما هي أصولها، وإلا فهم فرق شتى.
فكان هذا من الأسباب الجالبة للائتلاف، لمن اعتصم بها، ولمن استمسك بها، ولمن تجرد عن الهوى﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾[الجاثية:23]، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[القصص:50].
أمر مهم، الصبر على الحق وأهل الحق، والحذر من الافتراق، ومن السير على أهل الافتراق، فإن ذلك شقاق وهلاك، يقول الله عز وجل﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[الكهف:28-29]، وعنى ذلك على أن الإنسان لا شك أنه سيخالجه أناس آخرون، ولكن يحتاج أن يصبر على الحق وعلى أهل الحق، ومع الحق ومع أهل الحق﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة:119]، فالصبر لا بد منه.
[السّعي في أسباب الائتلاف وسدّ ذرائع الاختلاف]
أمرٌ مهمٌّ أيضا؛ سدّ ذرائع الاختلاف والافتراق، فإن كل شر له ذرائعه ووسائله، فما حرم الله عزوجل النميمة إلا من أجل أنها ذريعة ووسيلة للافتراق، كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه في«الصحيح»«أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ هِىَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»( )، يأتي شخص إلى الآخر وقلبه سليم على أخيه، لا يزال يطمع فيه ويعضه فيه (...) وحصل وفعل وقال وقال، حتلا يسبب ذلك هوة وفجوة وفرقة بين الأخ وأخيه، والمرء وزوجه، والأب وابنه، وغير ذلك مما هو حاصل.
وحرم الله عز وجل النجش وسائر بيوع الغرر، كل ذلك من أجل السلامة، سلامة المسلمين عن الافتراق، ولما جاء المهاجرون إلى الأنصار؛ أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم مع دعوته: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عدد من المهاجرين آخاهم مع الأنصار، وكانت تلك المؤاخاة لقصد الألفة، وللحذر من الفرقة بين المسلمين، لأن القوة لا تكون إلا بالألفة، بل ربما حتى قوة الدنيا ما هو قوة الدين فقط؛ الدنيا والدين﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾[هود:40].
وهكذا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وقويت شوكة الإسلام، وكان الأخ يقاتل نحرُه دون نحر أخيه، ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في منى، قال«إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ »( )، كل ذلك كان حرصا منه عليه الصلاة والسلام على الألفة، وحذراً من الفرقة التي كان لها أساس وبذور وكانت لها مقدمات في الجاهلية، كانوا يختلفون على أتْفَه الأسباب، ويقْتتِلون عليها، وقصة الأوس والخزرج معلومة، فلما كان ذلك قال«كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ »، ألغى ما كان من الدماء، من دماء الجاهلية كلها، حتى لا يقول: هذا أخي، والآخر يقول: قتل أبي، والآخر يقول: حصل منه كذا وكذا، فبقي ذلك ملغى، وبقي الإسلام على أمر جديد، كلهم إخوة.
هذا ليُعلمْ أنّ أمر التفرق ليس من سعي الصالحين، والسعي فيه والجدّ فيه، والبعد عن جادّة الطريق وعن الصراط المستقيم ليس من شأن الصالحين، وإنما هو تشبّه بالكافرين، وسلوك لسبيل الشيطان الرجيم، وللسحرة الماكرين، هذا دأبهم، والله عز وجل يقول﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾[البقرة:102]، فكان السحر كفرا، لأنه سعي في الفساد في الأرض، ومن فساده أنه يفرّق بين الناس حتى يفرق بين المرء وزوجه، شدة عظيمة تحصل على المرء إذا حصل له سِحرٌ على زوجته، ربما يراها مثل النار، أو هي إذا سُحرت عن زوجها، ربما تراه مثل النار، وإن كانت قد أنجبت منه، وصارت زوجة مُحبَّة له و هو محبٌّ لها، فلما كان كذلك؛ كان كفراً، إضافة إلى أن هذا التفرق الحاصل بين الأمة ليس مصدره إلا حب الأهواء، وحب الدنيا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه«مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِى غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»( ).
[نصيحة جامعة]
أيها المرء الشريف، أيها المرء العزيز، عزَّ نفسك بطاعة الله، وبالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبجماعة الحق، أن تكون محبا في الله ومبغضا في الله، الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
هذا هو الولاء للحق، وهذا هو البراء من الباطل، والله سبحانه وتعالى يقول﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾[الأنفال:73]، هذا هو الحاصل؛ أن المؤمنين لما لم يكن بعضهم أولياء بعض حصلت فتنة في الأرض، وحصل الفساد الكبير، فساد في المعايش، فساد في الأخلاق، فساد في القلوب، فساد في الكِبْر، فساد في الحسد، فساد في التعاظم والتعالي، هكذا، كل هذا حاصل في أنهم تفرقوا وتشبهوا بالكافرين.
إنها نعمة، وإن التفرق في الدين يزيلها، ألا فنتبه أيها المسلم، أنت في نعمة مع أهلك، لو فُرق بينك وبينها زال عليك شيء من النعمة، ومع ولدك كذلك، ومع جارك كذلك، ومع أخيك كذلك، فما بالك بالتفريق بين أمة من الناس أهل حقّ، التفريق بينهم والسعي بينهم بالفساد، والله سبحانه وتعالى يقول﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾[يوسف:52]، ولا يحب المفسدين﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العراف:56]، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾[السجدة:22]، فالصبر الصبر على طائفة الحق، والحذر من أسباب الفرقة، ومن أسباب الفتنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»( )، فعليك بالحق والإلجاء إلى الله عز وجل، واصبر على طاعة الله، وإياكم والتفرقات والتشتّتات والتمزّقات، والتشبه بالكافرين، يقول الله﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[هود:102-108]، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[الشورى:7]، ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان:3]، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾[الكهف:29]، « مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ»( )، ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة:166-167]، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾[الفرقان:27-29]، «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ »( )، أقبلْ على طاعة الله، أقبل على عبادة الله، أقبل على طلب العلم، لا يمنْ همُّك التفرق ومكاثرة الناس، وهمّك أتباع الناس، ربما كانوا عليك عبءً وثقلاً، فأنت ما تدري ما حالك وهم يوم القيامة، نعم﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا * إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾[الأحزاب:63-68]، جَمَعَنَا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الهدى، كما جمع الأنصار، لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِى النَّاسِ فِى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِى، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِى، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِى»، كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ « مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ ( ).
كل ذلك يعترفون، فبكوا حتى اخضلّت لحاهم، وحتى سالت دموعهم، كل ذلك يدل على أنهم عرفوا هذه النعمة، ويجب علينا أن نعرفها ، وأن الإنسان إذا ذُكِّر بالنعمة التي هو فيها، نعمة الاجتماع، نعمة الأخوة، نعمة التظافر، نعمة التعاون، نعمة التناصر، نعمة الحق، لا يجوز والله التفرق عليها، ومن سعى بالتفريق بين المسلمين، وإحداث البدع في أوساطهم مما يفرّقهم ويزعزعهم، ويضعف دينهم، فإن ذلك يحمل وزر من أضلّه يوم القيامة﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾[النحل:25]، « مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا »( ).
هذا حاصل ما تواصينا به في هذا الموضوع المهمّ :
الإشفاق على أهل الافتراق
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يدفع عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
أعدها وفرغها
يوسف بن عيد الجزائري
كان الله في عونه
صوتياً
من هنا (http://www.aloloom.net/vb/attachment.php?attachmentid=1458&stc=1&d=1249403260)
تـأليــف:
المحدث العلامة أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد ألا إلهٰ إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾} آل عمران:102.{
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾}النساء:1{.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾}الأحزاب:70,71 {
أما بعد:
فإننا في هذه الليلة المباركة من شهر شعبان المبارك، مع مذاكرة وإخواننا السامعين- نفعنا الله وإياهم -، وذلك في موضوع نرى أن الحديث عنه من الأهمية بمكان، وهو موضوع:
(( الإشفاق على أهل الافتراق ))
لأن المسلم يرحم المسلم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في « الصحيحين »( ) قال:« مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في «الصحيحين»( ) عن أنس رضي الله عنه « لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ».
لذا نرى أن أصحاب الافتراق لا بد من نصحهم، مشفقين ناصحين منذرين لربنا سبحانه وتعالى نرجو أن نكون عنده معذورين.
وفي ذلك أيضا ذكرى لنا﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ }الأعراف:99{.
}وجوب الحفاظّ على النّعم والحذر مما يسلبها{
وإن ممّا منّ الله سبحانه وتعالى به على العباد؛ لَنعمٌ كثيرة، وجب علينا أن نتذكرها، ومن أدلة ذلك﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[آل عمران:103-105]، في هذه الآية يبيّن الله سبحانه وتعالى أن الناس كانوا على شفا حفرة من النار، ولو مات الإنسان على ذلك الحال؛ على الكفر بالله، وعدم الأخوة فيه، وعدم التحاب فيه، وعلى الشحناء والبغضاء والعداوة، لا لدين الله، ولكن للأهواء والعصبيات: مات على حفرة من النار.
ولكنّ الله أنقذ الأمّة بمحمّد صلى الله عليه وسلم ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾[التوبة:128-129]، ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾[التوبة:33]، فأرسله الله عز وجل بالهدى، أرسله ليجمع به أهل الحق، ويجعلهم مفترقين مع أهل الباطل«وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ»( ).
هذه النعمة وسائر النعم يجب على المسلم أن يرعاها بطاعة الله، يقول الله عز وجل﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم:7].
ورعايتها وشكرها بالحفاظ عليها بطاعة الله، كما أبانه الله عز وجل في كتابه، وأبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، اُسلكْ ذلك تكن راعيا لنعمة الله عليك، وعلى من استرعاك الله عليه.
إن أمر النعم أمر مهم؛ إن حوفظ عليها قرّت، وإن لم يحافَظ عليها فرّت، ونعمة الاعتصام بالحق والجماعة وبالهدى نعمة عظيمة، وبليّة التّفرّق والاختلاف بليّة جسيمة، لأن الله عز وجل خلق العباد لعبادته، وألزمهم بالاجتماع على طاعته، قال تعالى﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[المؤمنون:52-56]، هذا تهديد لأولئك المتفرقين الذين تفرقوا وفرقوا، من اليهود والنصارى والمشركين، ومن حذا حذوهم من المسلمين.
} سعي أهل الفرقة فيها وفرحهم بها{
والله عز وجل يقول﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا﴾ أي خطوطا، المزبور هو المخطوط﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾، وهذا دليل على أن أهل الفرق كلٌّ منهم يسعى إلى الفرقة فرحاً بها، ويرى أنه بذلك التجزؤ والافتراق يحصل على ترؤسٍ، وتحصل له مكنة، ويحصل له ما يهدف إليه ويزيّنه له شيطانه.
وفي الحقيقة إن ذلك خذلان، كل ذلك تزيين الشيطان كما يأتي بيانه-إن شاء الله-.
وأيضا يدلّ هذا على أن التفرق من أسبابه الغمرة، الانغمار والانغماس في الجهل، وأن أهل الهدى حقا، وأهل العلم حقا يجب ألا يكون بينهم تفرّق، لأن الله عز وجل أبان لهم قوله﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾[الشورى: 10]، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[النساء:59]، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65]، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:36].
[الأمر بالاجتماع وبعض صوره في الكتاب والسنة]
الله خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بالاجتماع على طاعته، ولو ذهبت تعدّد الأمور التي أمر الله عز وجل العباد للاجتماع عليها على طاعته على الحق؛ كثيرة جدّا، أمر بالاجتماع على الصلاة صلاة الجماعة، وبالاجتماع في الصيام والفطر،«الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ»( )، وبالاجتماع في الحجّ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[آل عمران:97]، ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ﴾[الحج:27]، ما هو رجل واحد﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج:27-29] الآيات.
وهكذا أدلة التعاون، وأدلة تفريج الكربات، وأدلة نصرة المظلوم،«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا »، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ« تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»( )، وسائر الأدلة﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾ [هود:40]، أدلة العِشرة، تربية البنين، كل هذا من هذا الباب؛ باب الجماعة، وأنّ كيان الأمة يقوم على التعاون الحق.
لأهمية ذلك كان هذا هو المقصود من موضوعنا في هذه الليلة.
[أسباب التّفرّق وعلاجه]
فإننا نرى- ولله الحمد- أن التفرّق حقيقة يعتبر بسبب السبل المتشعبة، مع أنه بسبب غمرات الجهل والانغماس فيه، أيضا بسبب السبل المتشعبة، وعدم الاعتصام بحبل الله، وعدم ثبات القدم على الصراط المستقيم، فالله عز وجل يقول﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾، ماذا تكون النتيجة؟ قال الله عز وجل﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، ثم وصى الله سبحانه بوصية إلهية﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[الأنعام:53]، إن كان قصدكم التقوى، إن فعلتم ذلك فستتّقون عذاب الله﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، (لَعَلَّ) موجبة من الله عز وجل، وفي هذا الموضع من سلك هذا المسلك وأخذ بهذه الوصية الإلهية؛ سيتّقي عذاب الله، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾الإسلام صراط الله، كما ثبت في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه( ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا - وفي لفظ( ): وَلَا تَتَفَرَّقُوا- وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرِاطُ الإِسْلاَمُ..» الحديث، هكذا فيه، الإسلام صراط الله، من ثبتت قدمه على هذا الصراط أمِن من التفرق، ومن لم تثبت قدمه على الإسلام ثباتا حقّا؛ تخطّفته تلك الطرق المتشعّبة المتفرّقة، فصار في وادي الضياع والهيام، أودية الضياع وسبل الهلاك، كما هلكت أمم لم تثبت أقدامها على هذا الصراط من قبل، أبان ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في«الصحيحين»( ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين سألوه عن الحج كل عام وأكثروا عليه قال«دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، فلما اختلفوا وتفرقوا كان ذلك سببا في هلاكهم، هلكوا﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، هذا عين التفرق؛ تولّيهم للكافرين، وبُعْدُهم عن الصراط المستقيم، قال الله:﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾[المائدة:78-81]، فنعم؛ هذا كان سبب هلاكهم.
الصراط الإسلام، والصراط القرآن، وهو حبل الله، مع أنه صراط مستقيم، قال الله عز وجل﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾[الكهف:1]، فهو كتاب قيّم لا عِوج فيه، وهو صراط مستقيم، وهو حبل الله الذي وجب الاعتصام به كما أمر الله عز وجل قائلا﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103]، وحبل الله من اعتصم به هُدي﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾[الإسراء:9]، فالذي يريد السلامة من الهلاك يحذر الافتراق في دينه.
[ الافتراق تشبّه بالكفّار ]
إن الافتراق خطر عظيم عباد الله، يجب على المسلم أن يبغضه ويبغض أهله، ويبغض دعاة الافتراق، وأن يدعُوَ إلى الاعتصام ويحب الاعتصام ويحب أهل الاعتصام بالكتاب والسنة.
فإن الافتراق تشبّه بالكفار، وأنتم خبيرون-أو جلكم إن لم يكن كلكم- بأضرار التشبه بالكافرين﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الحشر:19] «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»( )، قال الله عز وجل﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[الأنعام:159]، وقال تعالى﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾[الروم:31-32].
[دخول أهل البدع في أدلّة النّهي عن الفرقة]
فحذر الله عز وجل من موالاة الذين فرّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً، من أهل الكفر ومن أهل البدع، قد ثبت أنهم أهل الكفر وأنهم أهل البدع، جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال«هم أهل البدع»أو قال«هم أهل الأهواء»( ).
فإذا؛ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا، معناه: ضاعوا، صاروا ضياعا، ضاعت أوقاتهم وأعمارهم، فلا تنتفع منهم ولا تواليهم﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، نظير قول الله عز وجل ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[الكافرون:6]، ونظير قول الله عز وجل﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾[هود:113]، أي أن هذا سبب الخذيلة، ونظير قول الله عز وجل﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾[الحشر:22]، ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، لست منهم وليسوا منك، لا تَناصُر بين الكافر والمسلم، ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة:120]، ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[البقرة:105]، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾[النساء:89]، فإذاً﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، وكذلك أهل الأهواء ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾.
[التّفرّق إضعافٌ للدّين والقوّة وامتدادٌ لِفِرَقِ الكفر]
هو تشبّه بالكفار، وإضافة إلى ذلك أيضا؛ يعتبر إضعافا للدين، التفرّق إضعاف للدين، وأهل التفرق هم الذين تسببوا في هجوم الكفار على المسلمين من زمن قديم، ولو فتّشت في سبب حصول الرّفض، وسبب حصول فكرة الباطنية، وسبب حصول الاشتراكية والحداثية، وسبب أيضا القدرية، وهكذا عدّد من تلك الفرق الضالة الذين كما قال الله عز وجل﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، نرى أن أصولها: إما يهود، وإما نصارى، وإما من المشركين، وأنت إذا شئتَ أن تؤصّل ذلك من كتب أهل العلم اِرجعْ إلى مصادرها كـ:«خبيئة الأكوان» لصديق حسن خان، و«الفرْق بين الفِرَق» للبغدادي، وهكذا ما يتعلق بذلك من «كتب الملل والنِّحَلْ».
كل هذا تدليل على أنه﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، وعلى أنهم في الحقيقة يضعفون الدين، وهم عكاز الكافرين والمشركين على ضرب المسلمين، ونحن مأمورون معشر المسلمين بإقامة الدين، وخطرٌ على المسلم أن يضعفه، ولا ينبغي أن يؤتى الإسلام من قِبَلِه، فالله تعالى يقول في كتابه﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]، كلّ نبيّ من أنبياء الله، وملّة من ملل الأنبياء مأمورة بهذا الأمر؛ بإقامة الدين، ومحذَّرة من ربّ العالمين عن التفرّق.
وقد يقول قائل: ما وجه حديث:«افترقت اليهود على إحدى ووسبعين فرقة، وافترقت النصارى عل ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة»؟
الجواب: اقرأ ما بعد هذا الفظ كلّه: «كلها في النار إلا واحدة» قالوا من هي يا رسول الله؟ قال:«من كان على مثل ما أنا اليوم عليه وأصحابي».
فإذاً؛ الحديث لا تقرير فيه للفِرَق، وإنما هو توبيخ وبيان لحال أهل الافتراق أنهم من أصحاب النار، إلا من رحمه الله.
نعم؛ أهل العلم يقولون: هؤلاء هم من فِرَق المسلمين، الإجماع على أن الثنتين والسبعين فرقة من هذه الأمة من فرق الإسلام، ومع ذلك معاصيهم تلك، وفتنتهم تلك تعرّضهم لعذاب الله «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»( )، «إن الله حجب- وفي رواية:حجز- التوبة عن كل صاحب البدعة حتى يدع بدعته »( ).
نعم؛ كذا أيضا، التفرّق يضعف القوة كما أنه يضعف الدين، يضعف الدين ويبث في عضد المسلمين ويضعف قوّتهم، وهو أمر مقصود لأعداء الله من قبل ومن بعد، قال الله عز وجل﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾[الأنفال:46-47]، وعند التدبر لهذه الآيات، تعلم أن التنازع سبب الفشل، وسبب ضياع الجهود، وسبب ضياع الأوقات، وسبب ضياع الأوقات، وسبب ضياع الأموال أيضا، وسبب ضياع الحياة، فهذا يُشغل بهذا، وذاك يشغل بذاك، ويكون نقمة من الله سبحانه وتعالى على أولئك المتفرقين المبتعدين عن الحق﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾[الأنعام:65]، كما جاء في الحديث عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، فَلَمَّا نَزَلَتْ ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قَالَ: «هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ»( ).
فذلك لم يُستجب فيه على أنه لم يلبسهم شيعا، وصار هذا الإلباس شيعا هو سبب الاختلاف بين الناس﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان:20]، ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾[محمد:4].
يضعف القوة، فإن المؤمن للمؤمن يشدّه كما يشدّ البنيان بعضه بعضا، وهو يعينه، وهو يعضده وينصره، حتى ولو حمله على راحلته«وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ »( )، وهكذا إماطة الأذى عنه.
[التّفرّق خذيلة لأهل الحقّ]
فإذا لم يحصل هذا، وحصل المكر من هذا بذاك، ومن ذاك لذاك حصل التخاذل، فيعتبر مع هذا كلّه خذيلة، الاختلاف والافتراق من أهل الباطل على أهل الحق يعتبر خذيلة لهم، ولا يجوز للمسلم أن يخذل مسلما، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله»( )، وأهل الأهواء-أصلحهم الله- اُبتلوا بخذيلة أهل الحق.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في«الصحيحين»(1)عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال«لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ »، والشاهد من ذلك أنه يوجد من يخذل الحق وأهل الحق.
فإذا افترق أناس من عباد الله من المسلمين وقفوا بالمرصاد لأهل الحق لتخذيلهم ولزعزعتهم وتضييعهم، ولإفسادهم وفتنتهم، قال الله عز وجل﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[البقرة:204-205]، الله لا يحب الفساد، ولو في قطع شجرة، والله لا يحب الفساد ولو في قتل حيوان لغير ما استفادة منه، فكيف في إفساد البشر، وإفساد عقولهم، وإفساد عقائدهم، وإفساد أسرهم بالمعاصي وبالتخذيل عن الحق وعن طلب العلم وعن فقه دين الله، وعن الهدى، إنما والله تعتبر نقمة على من صنع ذلك، ويعتبر خروجا عن سبل السلام، كما قال الله عز وجل﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾[المائدة: 15-16]، والله عز وجل أبان سبيل السلامة لعباده، وطريق الهدى، وسبيل الهدى، ومن أعرض عن تلك السبل أخذ إلى سبيل الضلالة والتّيه والضلال، ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام:153]، هناك سبل هدى، وهناك سبل ضياع.
[التّفرّق من أسباب عدم الرّحمة]
نعم؛ إن التفرق يعتبر من كان لاجّاً في ذلك معرِّضا نفسه لعدم رحمة الله، فإن الله عز وجل يقول في كتابه﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾[هود:118-119]، أَوَتظُنُّ أن الله خلقهم للافتراق؟! أبدا! الله خلقهم لعبادته، قال الله عز وجل﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:92]، ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء:36]، أمرهم بالاعتصام، وأمرهم بعبادته والاجتماع على ذلك، قال الله عز وجل﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103]، خلق أهل الافتراق للافتراق، وأهل الرحمة للرحمة، قال الله عز وجل﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ أي: لا يختلفون﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، خلق أهل الرحمة للرحمة أن يبقوا معتصمين، متآخين، متحابّين، متناصرين على إقامة هذا الدين دون اتباع أهواء، ودون مجاراة أغراض نفسية أو ذاتية، محكمين في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أنفسهم وإخوانهم وأقاربهم وأولادهم ونسائهم ودمائهم وأموالهم﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾[الأحزاب:36]، هذه الآية نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم» (1)عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه« احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ الْجَنَّةُ يَا رَبِّ مَا لِى لاَ يَدْخُلُنِى إِلاَّ فُقَرَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتِ النَّارُ مَا لِى لاَ يَدْخُلُنِى إِلاَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ فَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِى أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِى أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا ».
فمن الخطأ في التفسير أن تفهم أن الله خلقهم للاختلاف! فإن الله خلقهم لعبادته، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، وابتلاهم؛ بأن من اعتصم بالحق وترك الاختلاف- لأن الاختلاف ليس محمودا، الاختلاف على الدين وعلى الحق، أبداً- في آية واحدة، إنما هو مذموم.
[الجهل والبغي من أعظم أسباب الافتراق]
وما سببه إلا الجهل والبغي وما كان من هذا، والبعد عن الصراط المستقيم﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾[الشورى:14]، أي بسبب البغي الذي حصل بينهم تفرقوا، فالبغي عمود فسطاط التفرّق، قال النبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»(1) ، البغي يعتبر أصلا أصيلاً في التفرق، إضافة إلى ما تقدّم قبله من الأسباب.
[التّفرّق من الشّيطان]
ومِن شرّ التّفرّق؛ أن التفرق مع ما فيه من المسائل المذكورة من الشيطان، ليس من الرحمن، ولو كان التفرّق محمودا لما كان من الشيطان، ولما دعى الشيطان إليه أبدا، ولكن التفرق
مذموم-كما تقدم بيانه- ولهذا لما كان مذموما نصب الشيطان رايته عليه، وجعل يدعو إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه«إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»(1) ، وقصده من التحريش أن يفترق المحرِّش والمحرَّش عليه، فيحرِّش بين الأخ وأخيه، والجار وجاره، وهكذا حتى يتفرّقوا، قصده أن يضعف المسلم حتى ولو بقوله«ها» عند التثاؤب( )، أو في أيّ شأن من الشؤون، لا يرضى القوة للمسلمين أبدا، ولو بين المرء وزوجه، في «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه قال [قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ]: « إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِىءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ،- قَالَ:- فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ »، قَالَ الأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ «فَيَلْتَزِمُهُ»( ).
إذاً؛ مقصود الشيطان: الافتراق، ولو بين المرء وزوجه، أهمّ شيء تفترق الأمة وتتمزّق عنده ، حتى يتآكلون ويحصد بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم بعضا وهكذا، يحقّر بعضهم بعضا إلى آخر ذلك، هذا مقصوده، ولو التفرق الحسي أو المعنوي.
ولما كانوا في سرية كما ثبت في حديث أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِى الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِى هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ»، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالُ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ»(1)، امتثالا لذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وخوفا من ذلك التفرق، فإن التفرق ربما صار هذا في وادٍ، وهذا في وادٍ، وهذا في وادٍ، ولو جاء عدوٌّ كان وجودهم لذلك الشخص بمفرده، ربما أنكى لوحده ولمفرده، أما للجماعة فلا يستطيع ذلك، ولا سيما في أماكن يُتوَقَّع فيها الأعداء، وهكذا يسعى الشيطان في التفرق بين الناس حتى في الخمر، وما كان ناصبا رايته على محبة الخمر والدعوة إليه إلا من أجل هذا المقصد، قال الله سبحانه وتعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾[المائدة:90-91]، في أيّ شيء؟ ﴿ فِي الْخَمْرِ﴾، إذا شرب الخمر ضارب وقاتل ووقع على المحرمات، وحصلت الفتن بين الناس، والقتل والقتال، ولا يعظّم حرمة، ولا ينتبه لأمر من الأمور المنهيات﴿أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، قالوا: انتهينا.
الشاهد من هذا، أن الشيطان له طرق وأسباب ووسائل يسلكها لقصد التفريق بين الناس.
التفريق بين الناس يعتبر ذنبا عظيما، أعني بين أهل الحق، يعتبر حوبا كبيرا، وذنبا عظيما، من سعى فيه فإنك لا تسأل عن عظم ذنبه، كما ثبت ذلك عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه عند الإمام أحمد بإسناد صحيح(1)، أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تَسْأَلْ عَنْهُمْ رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ فَمَاتَ، وَامْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ فَلَا تَسْأَلْ ..» الحديث.
معنى ذلك؛ أن تفريق الجماعة يسبّب الذنب العظيم.
[التفرق قد يؤدي إلى المروق من الدين]
إن أمر التفرق ربما أدى بصاحبه إلى إلى التوغّل فيه والانهمار فيه إلى أن يمرق من الدين،كما صنع الخوارج وتفرقوا على المسلمين وعلى الحق وعلى السنة، حتى شاقّوا الله ورسوله، والله عزوجل توعّد من شاقّ الله ورسوله، ومن اختلف على الحق وتخلف عغنه، أنه يَكِلُهُ إلى نفسه، وتوعّده بالعذاب﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[النساء:115]، وأنت أيها العبد فقير إلى ربّك، لستَ تستطيع أن تقوم قَوْمةً، ولا حركةً، ولا سكَنَةً إلا بالله سبحانه وتعالى، فإذا ولاّك الله ما تولّليتَ هلكتَ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾[فاطر:15-17]، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾[هود:57]، وفي «الصحيحين» ما يدل على أن من الذين تفرقوا ما أبيح دمهم بسبب تفرقهم عن الحقّ،؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ »(1)، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»(1)، وفي«صحيح مسلم» من حديث عرفجة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»(1)، أمرٌ مهمّ، إذا جاء الإنسان إلى أمّة ، يفرق أمة عن والي أمرها المسلم، أو يفرّق أمّة عن دعوة الحق ودعوة السنة، أو يفرّق أمّة عمّا هم فيه من الاجتماع والألفة، فإن هذا خطير جدّاً، عند التأمّل في مثل هذه الأدلّة.
حتى ولو فرق بين امرأة وزوجها، فما باك بالتفريق بين أمة وأعداد هائلة، « لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ »( )، وقد علمتَ قول أهل العلم[في]«لَيْسَ مِنَّا»( )، وكلامهم في هذا المعنى.
الشاهد من هذا؛ أن أمر التفرق أمر خطير جدّاً، وهو يعتبر تخاذلا، يجلب التخاذل ويجلب للأمة الشّرّ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي عن العرباض بن سارية -وهو ممن نزل فيه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة:92]- قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا»، هذا الاختلاف وهذا التفرّق له علاج، وله وسائل تزيله، فمِنْ علاجه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة»( ) ، فإذا سلك الناس محدثات الأمور هذا عين التّفرّق، ولا يمكن لهم اجتماع، ولهذا افترقوا على كذا وكذا فرقة كما في الحديث، على ثلاث وسبعين فرقة، والله أعلم أن هذه الفرق إنما هي أصولها، وإلا فهم فرق شتى.
فكان هذا من الأسباب الجالبة للائتلاف، لمن اعتصم بها، ولمن استمسك بها، ولمن تجرد عن الهوى﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾[الجاثية:23]، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[القصص:50].
أمر مهم، الصبر على الحق وأهل الحق، والحذر من الافتراق، ومن السير على أهل الافتراق، فإن ذلك شقاق وهلاك، يقول الله عز وجل﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[الكهف:28-29]، وعنى ذلك على أن الإنسان لا شك أنه سيخالجه أناس آخرون، ولكن يحتاج أن يصبر على الحق وعلى أهل الحق، ومع الحق ومع أهل الحق﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة:119]، فالصبر لا بد منه.
[السّعي في أسباب الائتلاف وسدّ ذرائع الاختلاف]
أمرٌ مهمٌّ أيضا؛ سدّ ذرائع الاختلاف والافتراق، فإن كل شر له ذرائعه ووسائله، فما حرم الله عزوجل النميمة إلا من أجل أنها ذريعة ووسيلة للافتراق، كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه في«الصحيح»«أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ هِىَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»( )، يأتي شخص إلى الآخر وقلبه سليم على أخيه، لا يزال يطمع فيه ويعضه فيه (...) وحصل وفعل وقال وقال، حتلا يسبب ذلك هوة وفجوة وفرقة بين الأخ وأخيه، والمرء وزوجه، والأب وابنه، وغير ذلك مما هو حاصل.
وحرم الله عز وجل النجش وسائر بيوع الغرر، كل ذلك من أجل السلامة، سلامة المسلمين عن الافتراق، ولما جاء المهاجرون إلى الأنصار؛ أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم مع دعوته: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عدد من المهاجرين آخاهم مع الأنصار، وكانت تلك المؤاخاة لقصد الألفة، وللحذر من الفرقة بين المسلمين، لأن القوة لا تكون إلا بالألفة، بل ربما حتى قوة الدنيا ما هو قوة الدين فقط؛ الدنيا والدين﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾[هود:40].
وهكذا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وقويت شوكة الإسلام، وكان الأخ يقاتل نحرُه دون نحر أخيه، ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في منى، قال«إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ »( )، كل ذلك كان حرصا منه عليه الصلاة والسلام على الألفة، وحذراً من الفرقة التي كان لها أساس وبذور وكانت لها مقدمات في الجاهلية، كانوا يختلفون على أتْفَه الأسباب، ويقْتتِلون عليها، وقصة الأوس والخزرج معلومة، فلما كان ذلك قال«كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ »، ألغى ما كان من الدماء، من دماء الجاهلية كلها، حتى لا يقول: هذا أخي، والآخر يقول: قتل أبي، والآخر يقول: حصل منه كذا وكذا، فبقي ذلك ملغى، وبقي الإسلام على أمر جديد، كلهم إخوة.
هذا ليُعلمْ أنّ أمر التفرق ليس من سعي الصالحين، والسعي فيه والجدّ فيه، والبعد عن جادّة الطريق وعن الصراط المستقيم ليس من شأن الصالحين، وإنما هو تشبّه بالكافرين، وسلوك لسبيل الشيطان الرجيم، وللسحرة الماكرين، هذا دأبهم، والله عز وجل يقول﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾[البقرة:102]، فكان السحر كفرا، لأنه سعي في الفساد في الأرض، ومن فساده أنه يفرّق بين الناس حتى يفرق بين المرء وزوجه، شدة عظيمة تحصل على المرء إذا حصل له سِحرٌ على زوجته، ربما يراها مثل النار، أو هي إذا سُحرت عن زوجها، ربما تراه مثل النار، وإن كانت قد أنجبت منه، وصارت زوجة مُحبَّة له و هو محبٌّ لها، فلما كان كذلك؛ كان كفراً، إضافة إلى أن هذا التفرق الحاصل بين الأمة ليس مصدره إلا حب الأهواء، وحب الدنيا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه«مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِى غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»( ).
[نصيحة جامعة]
أيها المرء الشريف، أيها المرء العزيز، عزَّ نفسك بطاعة الله، وبالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبجماعة الحق، أن تكون محبا في الله ومبغضا في الله، الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
هذا هو الولاء للحق، وهذا هو البراء من الباطل، والله سبحانه وتعالى يقول﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾[الأنفال:73]، هذا هو الحاصل؛ أن المؤمنين لما لم يكن بعضهم أولياء بعض حصلت فتنة في الأرض، وحصل الفساد الكبير، فساد في المعايش، فساد في الأخلاق، فساد في القلوب، فساد في الكِبْر، فساد في الحسد، فساد في التعاظم والتعالي، هكذا، كل هذا حاصل في أنهم تفرقوا وتشبهوا بالكافرين.
إنها نعمة، وإن التفرق في الدين يزيلها، ألا فنتبه أيها المسلم، أنت في نعمة مع أهلك، لو فُرق بينك وبينها زال عليك شيء من النعمة، ومع ولدك كذلك، ومع جارك كذلك، ومع أخيك كذلك، فما بالك بالتفريق بين أمة من الناس أهل حقّ، التفريق بينهم والسعي بينهم بالفساد، والله سبحانه وتعالى يقول﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾[يوسف:52]، ولا يحب المفسدين﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العراف:56]، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾[السجدة:22]، فالصبر الصبر على طائفة الحق، والحذر من أسباب الفرقة، ومن أسباب الفتنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»( )، فعليك بالحق والإلجاء إلى الله عز وجل، واصبر على طاعة الله، وإياكم والتفرقات والتشتّتات والتمزّقات، والتشبه بالكافرين، يقول الله﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[هود:102-108]، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[الشورى:7]، ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان:3]، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾[الكهف:29]، « مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ»( )، ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة:166-167]، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾[الفرقان:27-29]، «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ »( )، أقبلْ على طاعة الله، أقبل على عبادة الله، أقبل على طلب العلم، لا يمنْ همُّك التفرق ومكاثرة الناس، وهمّك أتباع الناس، ربما كانوا عليك عبءً وثقلاً، فأنت ما تدري ما حالك وهم يوم القيامة، نعم﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا * إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾[الأحزاب:63-68]، جَمَعَنَا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الهدى، كما جمع الأنصار، لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِى النَّاسِ فِى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِى، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِى، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِى»، كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ « مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ ( ).
كل ذلك يعترفون، فبكوا حتى اخضلّت لحاهم، وحتى سالت دموعهم، كل ذلك يدل على أنهم عرفوا هذه النعمة، ويجب علينا أن نعرفها ، وأن الإنسان إذا ذُكِّر بالنعمة التي هو فيها، نعمة الاجتماع، نعمة الأخوة، نعمة التظافر، نعمة التعاون، نعمة التناصر، نعمة الحق، لا يجوز والله التفرق عليها، ومن سعى بالتفريق بين المسلمين، وإحداث البدع في أوساطهم مما يفرّقهم ويزعزعهم، ويضعف دينهم، فإن ذلك يحمل وزر من أضلّه يوم القيامة﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾[النحل:25]، « مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا »( ).
هذا حاصل ما تواصينا به في هذا الموضوع المهمّ :
الإشفاق على أهل الافتراق
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يدفع عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
أعدها وفرغها
يوسف بن عيد الجزائري
كان الله في عونه
صوتياً
من هنا (http://www.aloloom.net/vb/attachment.php?attachmentid=1458&stc=1&d=1249403260)