مقدمة في علم اللغة العربية للشيخ عبد الرحمن بن عوف كوني
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة في علم اللغة العربية إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيرا . (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ، (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما) أما بعد: فهذه كلمات يقال إنها محاضرة ثانية لهذه الدورة , وموضوع الحديث في أهمية اللغة العربية للمسلم، فنتكلم أولاً على وضع اللغة في هذه العصور المتأخرة , وتصوير بعض اللغويين من أهل العلم قبل مائة سنة لهذا الوضع , يقول ذلك العالم: (غير خاف أن روض اللغة قد مشَّـت لهذا العهد أنهاره , وذوت بعد النضارة أزهاره , وما ذلك إلا للإعراض عن إقراء متونها , وعيش الدرب في سهولها و حزونها , وهجرها كما تهجر اللئام , مع أنها كريمة الكرام , وكساء خواطر الأنام) هذا وضع اللغة من قبل أزمان , فما بالك بعصرنا وزماننا هذا !! إلا أن اللغة ذات أهمية للمسلم , اللغة سواء كانت عربية أو غيرها , وكلامنا على العربية لما لها من ميزة فهي لا تقارن بغيرها ؛ لأنها أشرف اللغات وأسماها وأوسعها , فاللغة أوضح أداة إلى التعبير عن المقاصد , وقد قدر الله ـ جل جلاله - أن يكون كلامه الذي هو القرآن : عربياً , وبعث إلينا رسولاً عربيا، وهذه اللغة العربية لها سنن وطرائق أصيلة بمعرفتها وتطبيقها في النطق بهذه اللغة تكون لغة حقيقة لإفضائها إلى مراد المتكلم ؛ فيحصل التفاهم على الوجه الصحيح كما هو الشأن في كل لغة , والمسلم عربياً كان أو أعجميا بحاجة ماسة إلى فهم مراد الله تعالى , ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة اللذين هما بلسان عربي مبين , فبقدر ما يفقه المسلم العربية ؛ بقدر ما يصل إلى فهم مراد الله , وليس كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو بأبي وأمي كغيرهما من الكلام العربي ؛ فإنهما يشتملان على أحوال خصوصية تستفاد منها معان زائدة على أصل المعنى الذي يمكن أن يؤدى بغيرهما , فهذا الاشتمال على الأحوال الخصوصية ؛ هي بلاغة القرآن وبلاغة السنة النبوية , ومن هذا يدرك المتأمل أهمية معرفة اللغة العربية , لغة القرآن والسنة للمسلم ؛ ذلك لأن المسلم يهتدي بها - أي بهذه المعرفة للغة العربية- إلى الصواب في فهم المراد من الشارع , فيعبد الله على بصيرة وبينة , فيكون السعي والتعلم للعربية عبادة ؛ لأنها وسيلة إلى غاية عظيمة هي علة الحياة وسر الوجود. تاريخ هذه اللغة: هذه اللغة ممتدة الجذور إلى جاهلية العرب العرباء قبل الإسلام , وشاء الله - سبحانه وتعالى - أن تكون هي لغة الإسلام الذي بعث به نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم- وقد مرت هذه اللغة بأطوار : طور الجاهلية الجهلاء , وكانت اللغة في هذا الطور على الأصالة القوية , لم تشبها شائبة من غيرها , فكان الجاهليون العرب لا يعرفون إلا اللغة الفصحى في جميع أحوالهم، وتقلباتهم , ومناسباتهم , وخطابهم , في الجد والهزل , والسلم والحرب , والمداعبة، و المناصحة , والمحاورة , وفي الترفيه عن النفس وما إلى ذلك , فكانوا ينطقون بها فتجدهم على أصل هذه العربية مع ما كانوا عليه من الكفر؛ لأن اللغة قد خلقت هكذا، فهي فيهم جبلية طبعية لا أمت فيها ولا شغى. حتى جاء الإسلام وهي على وضعها الطبعي القوي القويم , وكان القرآن عربياً , والنبي عربياً , بعث إلى العرب وغير العرب لحكم من الله عظيمة والله يفعل ما يشاء , فارتفعت اللغة العربية بسبب الإسلام في قرءانه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى آفاق من علياء البلاغة العربية لا عهد للعربية بها قبل الإسلام , فأضفى القرآن وكذلك السنة إلى اللغة ميزة لم تكن لها في الجاهلية , والقرآن والسنة محفوظان بتلك الميزات العربية العالية الغالية. إلا أن الضعف بدأ يسري إلى هذه اللغة الشريفة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عهد الخلافة للصحابي الجليل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- ، وهكذا تضاعف الضعف شيئاً فشيئاً لأسباب عدة , حتى بُدل الثوب الأصيل لنطق العربية الفصحى بالثوب الدخيل له العامية أو الدارجية , التي قال عنها بعض العلماء المحققين ممن تقدموا إنها - أي العامية- ليست من لغة العرب ؛ لأن العرب الأقحاح في عصر السليقة لم يكونوا ينطقون بها , ولذلك من كان لا يعرف إلا العامية فقط فإنه يكون في عُجمة من أساليب الكتاب والسنة , لا يدرك حقائقها , و تكون غريبة عليه. وجوه من أهمية اللغة العربية الفصحى للمسلم المتعبد قال الشافعي- رحمه الله - في الرسالة : فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله , وأن محمداً عبده ورسوله , ويتلوَ به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير, وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك. وما ازداد من العلم باللسان , الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته , وأنزل به آخر كتبه : كان خيراً له . كما عليه يتعلم الصلاة والذكر فيها , ويأتي البيت وما أمر بإتيانه , ويتوجه لما وجه له . ويكون تبعاً فيما افترض عليه ونُدب إليه , لا متبوعاً . "هذا كلام الشافعي - رحمه الله - في الرسالة". حكم تعلم العربية وتعليمها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع فتاواه الجزء الثاني والثلاثين , صفحة مائتين واثنتين وخمسين , قال - رحمه الله-: {ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية , وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن , فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي, ونصلح الألسن المائلة عنه ؛ فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة , والاقتداء بالعرب في خطابها , فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيبا - فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة , والأوزان القويمة , فأفسدوها بمثل هذه المفردات،- وقد أشار إلى هذه المفردات سابقاً- قال : فأفسدوها بمثل هذه المفرادت والأوزان المفسدة للسان الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان ، الذي لا يهذي به إلا قوم من الأعاجم الطـِّمـَاطِم الصميان ؟!! } انتهى كلامه رحمه الله . فاللغة ذات أهمية بالغة لطالب العلم الشرعي ؛ وذلك لأن هذه العلوم التي يطلبها مصبوبة في قالب العربية الفصحى , وتقدم أن العربية الفصحى هي لغة القرآن ولغة السنة , فلو صبت - هذه العلوم التي يطلبها الطالب - لو صبت في قالب العامية مثلاً لأخلـَّـت بهذه العلوم وأفسدتها , وهذا معلوم بأدنى تأمل ؛ وذلك لأن العربية وكذلك كل لغة لها أصولها وقوامها , وما انحرف عن تلك الأصول والقوام فلا يمكن أن يستعمل للإفهام كما يراد من العربية الفصحى , ولذا لا يمكن للطالب أن يرتقي لفهم معاني الكتاب والسنة إلا إذا ارتقى في فهم العربية وفقهها , ومعرفة الطالب للعربية قبل أن يعمد إلى تفسير الكتاب أو السنة خير معين له على فهمهما ؛ فإذا عمد إلى ذلك دون معرفة سابقة للعربية سيعود للعربية فيما استغلق عليه من أساليب الكتاب والسنة التي يريد فهمها ؛ لأن العربية والحالة هذه علم من العلوم , ولهذا العلم درجات ، فهناك علم للمختصرين أو لأصحاب الاختصار أو للمبتدئين , وهناك درجة علمية للمتوسطين ، وهناك درجة عالية للمنتهين , والانتهاء بالعلوم بحر في الحقيقة ؛ فالذي يريد أن يفسر الكتاب أو السنة أقل ما يطلب منه أن يعرف مبادئ العربية , وهذه المبادئ لا تكفي في معرفة كل ما سيعرض له من أساليب الكتاب والسنة , فلابد من العناية بمعرفة العربية إلى درجة يكون الناظر في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا ينغلق أمامه كثير من ذلك , وإلا الرتبة المتناهية أو الرتبة العليا ذات فسحة و سعة ، كما هو الشأن في العلوم الشرعية , والعربية واسعة جداً حتى يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في الرسالة : [ إن العربية لا يمكن أن يحيط بها أو يعرفها إلى النهاية إلا نبي], إذا فما أدنى النهاية ؟! ينبغي لطالب العلم , أو للمنتهين , أو للبالغين درجة عليا في العلم أن يعرفها [أي اللغة العربية ] , وإلا ما سيدركون من معاني الكتاب والسنة ما يريدونه بسهولة. أثر عدم العناية بالعربية في هذه العصور وقبل هذه العصور: يلاحظ المتأمل أن الغالب على المسلمين اليوم عدم العناية بالعربية ؛ لأسباب لا يمكن التعرض لها الآن ؛ وعندي على ذلك أمثلة كثيرة من بعض طلبة العلم , أو غير الطلبة من المسلمين , فمن الممكن أن نذكر مثالين , ولا أدري هل هذان المثلان يناسب المقام ذكرهما فأحد المثالين ممن ينتسب إلى العلم، والآخر ممن ليس بطالب علم , إنما يذكر مثل هذين المثالين لنعرف ما يفضي إليه عدم العناية بالعربية من آثار سلبية في المسلم. مثال وقع في المدينة النبوية , وكنت صاحب قصته , ذلك أن بعض من يعرفني بالمدينة طلب مني أن أكون أحد الشاهدين في أمر في المحكمة - في المحكمة الكبرى - فاستجبت له , وذهبنا إلى المحكمة , ودخلنا على القاضي , لا أعرفه قبل ذلك و لا يعرفني , فسألني عن الهوية حسب الجاري من النظام، فأعطيته إياها , فقلب صفحاتها يبحث عن اسمي فوقعت عينه على اسمي : ابن عوني، فاستنكر! واستغرب ! قائلاً : ما يعرف مثل هذا الكلام ! وتعجبت منه مستغرباً أيضا وإنما تعجبي لأني وجدته قاضياً , فهو من أهل العلم على كل حال , له دراية ؛ لأنه تعلم فبلغ هذا المنصب ولا يمكن أن يصل إلى هذا المنصب إلا وقد درس الشريعة، والشريعة وعاؤها لغة العرب , لغة القرآن , لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - [هو بأبي وأمي], ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بغير هذه اللغة , فلما استنكر, تعجبت ! لأن مثل هذا ينظر, هل مثل هذه التسمية صحيحة عربية وجائزة شرعا ؟ ينظر إلى هذا ؛ لأن الأعلام كلها في الأصل لم تكن لأصحابها , بل نُقلت وأُطلقت على أصحابها ؛ إذاً فلا تقول أنا أستغرب هذا الاسم على فلان مثلاً ؛ فإذا استغربتَ مثلاً هذا الاسم ؛ إذاً فلك أن تستغرب أيضاً لو رأيت شخصاً قد سمي بمحمد ؛ لأنه كيف تعرف أن هذا الشخص وُضِع عليه هذا العلَم ؟ ما تعرفه إلا إذا أخبرك أن اسمه كذا , فهذه هي القاعدة العلمية , قاعدة الأعلام في لغة العرب , فالعَـلَـم قد يكون مضافاً , وقد يكون غير مضاف , وقد يكون جملة فعلية , أو جملة اسمية , هذا كله موجود في كلام العرب الفصحاء سابقاً , وكذلك في زمن السلف في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- وفي القرون المفضلة , فهذا كثير جداً فكونه يستغرب هذا محل تعجبي , وإن دلّ هذا على شيء إنما يدل على قلة العناية بما في العربية , وإلا مثل هذا لا يستنكر ولا يستغرب، لاسيما إذا كنت لا تعرفني من قبل ولا أعرفك من قبل , فما وجه الاستغراب ؟! لكن هذا إنما ذكرته مثالاً لعدم العناية بالعربية . هذا مثال. ومثال آخر : هذا وقع لي أيضاً , وأنا صاحب القصة وذلك في وقت من أوقات الحج , ما أدري كم قبل كم سنة ؟ عشرة؟ أو خمسة عشر؟ الكلام من مدة , من مدة لا بأس بها مضت , فهذا رجل أتى من بعض دول إفريقية الغربية , وكان مسئولا كبيرا في الدولة ؛ لأنه كان مديراً عاماً لأكبر بنك في عامة تلك الدولة , وكان مسلماً , فجاء في الحج واتفقا أن التقيت به في مِنَى، وما كنت أعرفه فدلني أحد الأخوة عليه , فدار الحديث بيننا بعد ذلك.فكان مما سألني عنه أنه قال لي : هل أنت تعرف الفرنسية ؟ فقلت : لا أنا لا أعرف الفرنسية إلى هذه الدرجة , لا أعرفها. فقال لي : يا حبذا لو عرفت الفرنسية ؛ لأن مثلك لو ذهب إلى إفريقية للدعوة فإنه سيدعو بلغة الإفرنج , ويجذب كثيراً من المثقفين الفرنسيين في تلك الدولة ؛ لأن البلاد الغربية كلها أو أغلبها مستعمرة فرنسية. {فهو ذكر هذا من طيب قلب , صحيح إذا كنت تخاطب المثقفين باللغة التي تثقفوا بها ويعرفونها جيداً فإنه سرعان ما ينجذبون إلى دعوتك}. فقلت له : هذا صحيح لكن ليس لي سبيل لتعلم الفرنسية الآن ؛ لأني مشغول بغيرها , لكن كلامك صحيح للدعوة ، هذا صحيح . ثم قلت له بدوري { جاءت النوبة إليَّ الآن , هكذا رأيت أن أسأله هو أيضاً} فقلت له : هل أنت تعرف العربية ؟ فقال : لا. فقلت له : إذاً أنا أنصحك وأطلب منك أن تعرف العربية لنفسك أولاً , أنت طلبت مني أن أعرف الفرنسية للدعوة , وأنا أطلب منك أن تعرف العربية لتتعبد الله بها , وذلك لأنك ستصلي وستذكر الله وهذه الصلاة لابد فيها من عربية , وتأتي الأذكار وما أشبه ذلك , فسوف تتعلم العربية لهذا أولاً , لإسلامك أولاً , لا لأ تدعو بالعربية , لا لأن تدعو الناس بالعربية كما أمرتني أن أتعلم الفرنسية لأدعو الناس بها , لكن لنفسك , آمرك بتعلم العربية , ثم قلت له هذه نصيحتي , والآن أنا أسألك : هل أنت تعرف الفاتحة ؟ فما أجابني , ما قال أعرف أو لا أعرف. وهذا شيء عجيب جداً مع أنه جاء للحج , وهو مسلم لا شك , لكن محل الشاهد عدم العناية بالعربية , والأمثلة كثيرة جداً جداً لكن هذان مثالان أتيت بهما ليُعرف ما في واقع المسلمين اليوم من عدم العناية بهذه اللغة الشريفة , وما لعدم العناية من آثار سلبية في المسلم . اهـ بتصرف . |
مشاركة طيبة بوركت
|
السلام عليكم ورحمة الله
بارك الله فيك اخانا أبورواحه الموري ونفع الله بك وحفظ الله الشيخ عبد الرحمن بن عوف كوني |
جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة شرفها الله. الساعة الآن: 07:36 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.7.3, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لكل مسلم بشرط الإشارة إلى منتديات الشعر السلفي