السبب الثانى للمغفرة:
الاستغفار ولو عظمت الذنوب وبلغت العنان وهو السحاب. وقيل ما انتهى إليه البصر منها.
وفى الرواية الأخرى: لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم
بيان معنى الاستغفار
والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة هى وقاية شر الذنوب مع سرها وقد كثر فى القرآن ذكر الاستغفار.
فتارة يؤمر به.
كقوله تعالى: (وَاستَغفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمُ). سورة المزمل: آية 20 وقوله: (وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ). سورة هود: آية 3 وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: (وَاٌلمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَارِ). سورة آل عمران: آية 17 وقوله تعالى: (وَاٌلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوب إِلاَّ اللهُ). سورة آل عمران: آية 135 وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: (وَمَن يَعمَل سُوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستغفِرِ اللهَ يَجِدِ
اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً). سورة النساء: آية
الاستغفار يقرن بالتوبة
وكثيرا ما يقرن الإستغفار بذكر التوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان.
والتوبة: عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح وتارة يفرد الإستغفار ويرتب عليه المغفرة كما ذكر الحديث وما أشبهه.
فلو قيل إنه أريد به الإستغفار المقترن بالتوبة.
وقيل إن نصوص الإستغفار كلها المفردة مطلقة تقيد بما ذكر فى آية آل عمران من عدم الإصرار.
فإن الله وعد فيها بالمغفرة لمن استغفر من ذنوبه ولم يصر على فعله فتحمل النصوص المطلقة فى الاستغفار كلها على هذا القيد.
ومجرد قول القائل: اللهم اغفر لى طلب منه للمغفرة ودعائها فيكون حكمه حكم سائر الدعاء فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، ولا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات.
ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى عود لسانك اللهم اغفر لى. فإن الله ساعات لا يرد فيها سائلا
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار فى بيوتكم، وعلى موائدكم، وفى طرقكم، وفى أسواقكم، وفى مجالسكم، وأينما كنتم فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة
وخرج ابن أبى الدنيا فى كتاب حسن الظن من حديث أبى هريرة مرفوعا: بينما رجل مستلق إذ نظر إلى السماء وإلى النجوم فقال: إنى لأعلم أن لك ربا خالقا، اللهم اغفر لى فغفر له
وعن مورق قال: كان رجل يعمل السيئات فخرج إلى البرية فجمع تراب فاضطجع مستلقيا عليه، فقال: رب اغفر لى ذنوبى، فقال: إن هذا ليعرف أن له رب يغفر ويعذب فغفر له
وعن مغيث بن سمى قال: بينما رجل خبيث فتذكر يوما اللهم غفرانك اللهم غفرانك ثم مات فغفر له
ويشهد لهذا ما فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: إن عبدا أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لى، قال الله تعالى: علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدى. ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين
وفى رواية لمسلم أنه قال فى الثالثة: قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء
والمعنى: ما دام على هذا الحال كلما أذنب استغفر والظاهر أن مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار.
ولهذا فى حديث أبى بكر الصديق عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة خرجه أبو داود والترمذى
قد يكون الاستغفار مانعا من الاجابة
والإستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده، وقد يكون الإصرار مانعا من الإجابة.
وفى المسند من حديث عبدالله بن عمر مرفوعا:
ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون
وخرج ابن أبى الدنيا من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه
ورفعه منكر ولعله موقوف.
قال الضحاك: ثلاثة لا يستجاب لهم: فذكر منهم: رجل مقيما على امرأة زنا كلما قضى منها شهوته قال: رب اغفر لى ما أصبت من فلانة، فيقول الرب: تحول عنها وأغفر لك، وأما ما دمت عليها مقيما فإنى لا اغفر لك، ورجل عنده مال قوم يرى أهله فيقول: رب اغفر لى ما آكل من فلان فيقول تعالى: رد إليهم ما لهم وأغفر لك، وأما ما لم ترد إليهم فلا أغفر لك
الاستغفار التام الموجب للمغفرة
هو ما قارن عدم الاصرار
وقول القائل: أستغفر الله معناه: اطلب مغفرته فهو كقوله: اللهم اغفر لى
فالإستغفار التام الموجب للمعجزه هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله ووعدهم بالمغفرة.
قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب فى استغفاره(.
وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير
وفى ذلك يقول بعضهم:
استَغفِرُ اللهَ مِن اَستَغفِرُ اللهَ ... مِن لَفظَةٍ بَدَرَت خالَفتُ مَعناها
وَكَيفَ أَرجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَد ... سَدَدتُ بِالذَّنبِ عِندَ اللهِ مَجراها
فأفضل الاستغفار ما قرن به ترك الإصرار وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحا وإن قال بلسانه: استغفر الله وهو غير مقلع بقلبه فهو داع لله بالمغفرة كما يقول: اللهم اغفر لى وهو حسن وقد يرجى له الاجابة.
وأما من تاب توبة الكذابين فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعض الناس وهذا حق. فإن التوبة لا تكون مع الإصرار.
هل يجوز أن يزيد العبد فى استغفاره
بقوله وأتوب إليه؟
وإن قال: استغفر الله وأتوب إليه فله حالتان: إحداها: أن يكون مصرا بقلبه على المعصية فهو كاذب فى قوله وأتوب إليه لأنه غير تائب فلا يجوز له أن يخبر عن نفسه بأنه تائب وهو غير تائب.
والثانية: أن يكون مقلعا عن المعصية بقلبه.
فاختلف الناس فى جواز قوله وأتوب إليه: فكرهه طائفة من السلف وهو قول أصحاب أبى حنيفة. حكاه عنهم الطحاوى.
وقال الربيع بن خثيم: يكون قوله وأتوب إليه( كذبة وذنبا ولكن ليقل: )اللهم إنى أستغفر فتب على وهذا قد يحمل على من لم يقلع بقلبه وهو بحالة أشبه.
وكان محمد بن سوقه يقول فى استغفاره: أستغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم، وأسأله توبة نصوحا
وروى عن حذيفة أنه قال: يحسب من الكذب أن يقول أستغفر الله ثم يعود
وسمع مطرف رجلا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه
فتغيظ عليه وقال: لعلك لا تفعل
وهذا ظاهره يدل على أنه إنما كره أن يقول وأتوب إليه لأن التوبة النصوح أن لا يعود إلى الذنب أبدا. فمتى عاد كان كاذبا فى قوله وأتوب إليه
وكذلك سئل محمد بن كعب القرظى عمن عاهد الله أن لا يعود إلى معصية أبدا فقال: من أعظم منه إثما؟ يتألى على الله أن لا ينفذ قضاءه ورجح قوله فى هذا أبو الفرج ابن الجوزى.
وروى عن سفيان نحو ذلك، وجمهور العلماء على جواز أن يقول التائب أتوب إلى الله وأن يعاهد العبد ربه على أن لا يعود إلى المعصية، فإن العزم على ذلك واجب فى الحال.
لهذا قال: ما أصر من استغفر ولو عاد فى اليوم سبعين مرة
وقال فى المعاود للذنب: قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء
وفى حديث كفارة المجلس: أستغفرك اللهم، وأتوب إليك
وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدى سارق ثم قال له: استغفر الله وتب إليه. فقال: أستغفر الله وأتوب إليه فقال: اللهم تب عليه أخرجه أبو داود
يتبع إن شاء الله تعالى