الجرح والتعديل عند اللغويين
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . أما بعد : فلا يخفى عليكم أهمية اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وتحدث به نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي اله عنهم، وإليها تهفو نفس كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، فهي لغة العبادة للمسلمين كافة، وهي لغة التواصل والتخاطب بين أهلها؛ وأن الله سبحانه وتعالى قد شرّف اللغة العربية وخصها بأمرين عظيمين حيث أنزل كتابه بها واصطفى رسوله من أهلها والناطقين بها، فكانت بذلك وعاء لأصْلَي الإسلام العظيمين: القرآن والسنة. وقد أدرك سلف هذه الأمة الصالح هذه الحقيقة العظيمة فاحتفوا باللغة العربية وأنزلوها المكان اللائق بها وبقدسيتها، وأوجبوا تعلّمها وتعليمها على أنفسهم وأبنائهم، ولم يسمحوا لأنفسهم بالتساهل فيها لأنهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يندب أصحابه بقوله: «أرشدوا أخاكم فقد ضل» عندما لحن رجل في حضرته. ورأوا الفاروق رضي الله عنه تتوالى عنه التوجيهات في ذلك، فيكتب إلى أبي موسى الأشعري بقوله: «تعلّموا العربية فإنها من دينكم.. وأعربوا القرآن فإنه عربيّ». ويكتب له في مناسبة أخرى عندما ورده منه كتاب أخطأ فيه كاتبه: «قنّع كاتبَك سوطاً». ويشتد غضبه ويعظم نكيره عندما سمع أعرابياً يقرأ آية سورة براءة: «أن اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُه..» بجر اللام في (رسوله) ويقول: وأنا بريء مما برئ اللهُ منه. فقال له عمر: ويحك يا أعرابي، كيف تبرأ من رسول الله؟ فقال الأعرابي: ذاك ما علمنيه أصحابُك. فقد قدمتُ إلى المدينة ولا علمَ لي بالقرآن، فأقرأني بعضُ أصحابك هذه الآية كما سمعتَها مني. فقال له عمر: إنها ليست كذلك، وإنما هي (ورسولُه) بضمة على اللام. فقال الأعرابي: وأنا بريء مما برئ اللهُ ورسولُه منه. فأمر عمرُ بعد ذلك بأن لا يقريء القرآن إلا من له إلمام بالعربية. وكل الذي تصدّوا للتفسير من العلماء صدّروا تفاسيرهم بمقدمات أبانوا فيها عن أهمية اللغة العربية لمن يريد أن يتصدى لتفسير القرآن. وذكر السيوطي في «الإتقان» أن على المفسر أن يكون -قبل البدء في التفسير- على إلمام بخمسة عشر علماً، أولها: علم اللغة العربية، وثانيها: علم النحو، ثالثها: علم الصرف.. إلى آخرها. وما قيل بصدد المشتغلين بالقرآن وتفسيره، يقال مثله للمشتغلين بالسنة وبيانها وشرحها، ذلك أن القرآن والسنة نصّان عربيان يتسنّمان الذروة في البلاغة والفصاحة، ويشتركان في احتياج المشتغل بهما إلى فقه اللغة التي جاءا بها، والإحاطة بأسرارها ودقائقها وشورادها. وقد مر على ذلك مثال من القرآن. ومن أمثلة ذلك من الحديث اختلاف الفقهاء في حكم جنين بهيمة الأنعام الذي تذبح أمه وهو في بطنها، بسبب اختلاف الرواية في ضبط هذا الحديث: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»، فقد رُويت كلمة «ذكاة» الأخيرة بروايتين: الرفع والنصب. ويختلف الحكم الشرعي في كل واحدة منهما عن الأخرى، فرواية الرفع تجعل تذكية أمه مجزية عنها وعنه، أما رواية النصب فتوجب له تذكية كتذكية أمه. هذا طرف مما يخص المفسر والمحدث. ولو نظرنا إلى الفقيه لوجدناه لا يقل عنهما في احتياجه إلى الفقه في العربية ليكون فقيهاً في الأحكام الشرعية، وفي حديث «الذكاة» المذكور إشارة إلى ذلك. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك ما يروى من الطرائف التي تحدث في مجلس الخليفة هارون الرشيد بين جليسيه العالمين الجليلين أبي يوسف الفقيه، صاحب أبي حنيفة، والكسائي النحوي القارئ، فقد كان أبو يوسف يداعب الكسائي ويحاول إغاظته بالتقليل من شأن علمه الذي نبغ فيه وهو علم النحو والعربية، فأراد الكسائي أن يثبت له أهمية هذا العلم وحاجة الناس إليه وبخاصة الفقهاء، فقال له: يا أبا يوسف، ما رأيك في رجلين رفِع إليك أمرهما رجل يقول عن أحدهما: هذا قاتلُ أخي (بالإضافة)، وقوله عن الآخر: هذا قاتلٌ أخي (بالتنوين)، أيهما تقتصّ منه؟ فقال أبو يوسف: منهما معاً. فقال الكسائي: أخطأت. القِصاص إنما يكون من الأول لأنه هو الذي قتَل وانتهى، أما الثاني فإنه يتوعّد ولمّا يقتل بعد. يقول الأستاذ فرحان سليم في كتابه اللغة العربية ومكانتها بين اللغات 1/2 : " اللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة. واللغة هي معجزة الفكر الكبرى. إن للغة قيمة جوهرية كبرى في حياة كل أمة فإنها الأداة التي تحمل الأفكار، وتنقل المفاهيم فتقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمة الواحدة ، وبها يتم التقارب والتشابه والانسجام بينهم. إن القوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقاً عن مضمونها الفكري والعاطفي . إن اللغة هي الترسانة الثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها. وقد قال فيلسوف الألمان فيخته : ((اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين . إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان لقد حمل العرب الإسلام إلى العالم، وحملوا معه لغة القرآن العربية واستعربت شعوب غرب آسيا وشمال إفريقية بالإسلام فتركت لغاتها الأولى وآثرت لغة القرآن، أي أن حبهم للإسلام هو الذي عربهم، فهجروا ديناً إلى دين، وتركوا لغة إلى أخرى . لقد شارك الأعاجم الذين دخلوا الإسلام في عبء شرح قواعد العربية وآدابها للآخرين فكانوا علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة : المعاني ، والبيان ، والبديع . وقد غبر دهر طويل كانت اللغة العربية هي اللغة الحضارية الأولى في العالم . واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية، أو الساميات في الاصطلاح الغربي وهو مصطلح عنصري يعود إلى أبناء نوح الثلاثة : سام وحام ويافث. فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟ إن اللغة العربية أداة التعارف بين ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض، وهي ثابتة في أصولها وجذورها، متجددة بفضل ميزاتها وخصائصها". وقد حمى الله جل وعلا دينه من التبديل والتحريف بحفظ كتابه وحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكان من بين العلوم التي حفظ الله بها هذا الدين هو علم الجرح والتعديل فهو السياج المنيع لحماية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يدخل فيها ما ليس منها؛ وكما أن المحدثين كانت لهم قواعد وضوابط في تمييز الحديث الصحيح من السقيم بسبب الضعفاء والوضّاعين وغيرهم؛ فإن اللغويين كانت لهم قواعد وأصول للتمييز بين ألفاظ العربية الصحيحة من الدخيلة بسبب العجمة التي أثرت على لسان كثير ممن ينتسب إلى العربية ؛ ويبدو أنهم تأثروا إلى حد بعيد بمنهج الجرح والتعديل عند المحدثين؛ وكانت مهمتهم الأولى جمع ألفاظ اللغة التي نطق بها العرب فرحل العلماء إلى البادية يسمعون ويكتبون عن عرب البادية فيما رحل أيضا عرب البادية إلى الحضر ليؤخذ عنهم. وفي هذا يقول الدكتور فاروق حمادة في كتابه المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل (ص147): " نشأ عندهم جرح وتعديل في تحديد مصادر مادتهم أولا وفي نقَلَتِها من مصادرها ثانيا فكانوا لا يأخذون عن العربي إذا فهم الملحون من الكلام . وحددوا مصادرهم لجمع اللغة بدقة على الأسس التالية: 1- كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 2- أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. 3- الآثار العربية في العصر الجاهلي والعصور الإسلامية الأولى. وكانوا يذكرون السند في رواياتهم كما هو الحال عند المحدثين . قال أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي في الأمالي في لغة العرب2/308: " حدثني أبو بكر بن الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد أنه قال أحجم الرجل عن الأمر إذا كعّ وأحجم إذا أقدم وقال يعقوب وأحمد بن يحيى أحجم وأحجم إذا كعّ". وقال أيضا 3/96 : " وحدثنا جحظة قال حدثني أبو بكر بن الأعرابي قال حدثني أبو علي البصيران خشا خشا المديني نظر إليه يوم عيد الفطر وهو فوق تل يصيح صياحا شديدا فقيل له ما هذا قال أنعر في قفا شهر رمضان فغاب عني أبو علي البصير أياما ثم جاءني فأنشدني ( أقول لصاحبي وقد رأينا ** هلال الفطر من خلل الغمام ) . وقال أيضا1/158 : " حدثني أبو بكر بن أبي حاتم عن الأصمعي قال قال يوما خلف لأصحابه ما تقولون في بيت النابغة الجعدي: ( كأن مقط شرا سيفه ** إلى طرف القنب فالمنقب ) . وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في الزاهر في معاني كلمات الناس1/274 : " وقال الفراء حدثني حِبّان بإسناده يعني عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الماعون المعروف كله حتى ذكر القدر والقصعة والفأس ؛قال الفراء وحدثني قيس بن الربيع عن السُّدي عن عبد خير عن علي قال الماعون الزكاة قال وسمعت بعض العرب يقول الماعون الماء قال وأنشدني في ذلك ( يَمُجُّ صبيرُهُ الماعونَ صَبَّا). وقال أيضا 1/275 : " وقال الفراء حدثني حِبّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال البور الفاسد وقال الفراء والبور عند العرب لا شيء يقال أصبحت أعمالُهم بوراً أي لا شيء ومنازلُهم قبوراً ". وكان العرب على جانب كبير من الحذر والحيطة والتحري في أخذهم مفردات اللغة؛ فلم يكونوا يأخذون عن كل أحد بل ينتقون الألفاظ العربية من مصادرها السليمة الموثوقة حتى إنهم كانوا يرتحلون لذلك ؛ يقول مصطفى صادق الرافعي في تاريخ آداب العرب (ص108): " وأقدم من عرفنا ممن رحلوا إلى البادية: يونس بن حبيب الضبيّ المتوفى سنة 182 وقد جاوز المائة فيما قيل، وخلف الأحمر المتوفى سنة 180، والخليل بن أحمد المتوفى سنة 175، وأبو زيد الأنصاري المتوفى سنة 215 عن 83 سنة، وهو أكثر أهل هذه الطبقة أخذاً عن البادية، وكانت له بذلك ميزة على صاحبيه: الأصمعي، وأبي عبيدة، حتى قيل إن الأصمعي حاء يوماً إلى مجلسه فأكبّ على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة؛ ولقد أراد أبو زيد هذا مرة أن يعرف باباً من الصرف ويتبين من منطق العرب ما هو أولى بالضم وما أولى بالكسر من باب فعل (بفتح العين) لذي قالوا فيه إن كل ما كان ماضيه بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه حرفاً من حروف اللين ولا الحلق فإنه يجوز في مضارعه ضم العين وكسرها، وليس أحدهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف، كقولهم نفَر ينفِر وينفُر، وشتَم يشتِم ويشتُم... الخ...؛ فطاف أبو زيد لذلك في عليا قيس وتميم مدةً طويلة، يسأل عن هذا الباب صغيرهم وكبيرهم، قال: لم أجد لذلك قياساً، وإنما يتكلم به كل امرئٍ منهم على ما يستحسن ويستخف لا على غير ذلك". بل وكان أحدهم يقيم السنين في البادية يتعلم اللغة الصيحيحة ؛ قال ابو البركات الأنباري في نزهة الألباء في طبقات الأدباء: " وأما النضر بن شميل فأخذ عن الخليل بن أحمد، وعن فصحاء العرب، كأبي خيرة الأعرابي وأبي الدقيش. ويحكى عن النضر بن شميل أنه قال: أقمت بالبادية أربعين سنة ". ومع هذا التحري الشديد فإنهم كانوا يفضلون بعض القبائل على بعض لفصاحتها وعدم تأثرها بالأعاجم ؛ يقول السيوطي في المزهر في علوم اللغة والأدب ج1/ص166 : " وأفصح العرب قريش قال ابن فارس في فقه اللغة باب القول في أفصح العرب؛ أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد مولى بني هاشم بقزوين قال حدثنا أبو الحسن محمد بن عباس الحشكي حدثنا إسماعيل بن أبي عبيد الله قال أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب واختار منهم محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل قريشا قطان حرمه وولاة بيته فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد ولا كسر أسد وقيس. وروى أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن وهم الذين يقال لهم عليا هوازن وهم خمس قبائل أو أربع منها سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف قال أبو عبيد وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وأني نشأت في بني سعد بن بكر وكان مسترضعا فيهم وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم . وعن ابن مسعود إنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر . وقال عمر لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف . وقال عثمان اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف . قال أبو عبيدة فهذا ما جاء في لغات مضر . وقد جاءت لغات لأهل اليمن في القرآن معروفة ويروى مرفوعا نزل القرآن على لغة الكعبين كعب بن لؤي وكعب بن عمرو وهو أبو خزاعة. وقال ثعلب في أماليه ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وتلتلة بهراء وكشكشة هوازن وتضجع قريش وعجرفية ضبة وفسر تلتلة بهراء بكسر أوائل الأفعال المضارعة . وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف كانت قريش أجود العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعا وأبينها إبانة عما في النفس والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علما وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب". وبعض ألفاظ العربية أفصح من بعض كما أن الحديث الشريف صحيح وأصح . يقول السيوطي في المزهر في علوم اللغة والأدب ج1/ص168 : " رتب الفصيح متفاوتة ففيها فصيح وأفصح ونظير ذلك في علوم الحديث تفاوت رتب الصحيح ففيها صحيح وأصح ومن أمثلة ذلك قال في الجمهرة البر أفصح من قولهم القمح والحنطة وأنصبه المرض أعلى من نصبه وغلب غلبا أفصح من غلبا والمغوت أفصح من اللغب وفي الغريب المصنف قررت بالمكان أجود من قررت وفي ديوان الأدب الحبر العالم وهو بالكسر أصح لأنه يجمع على أفعال والفعل يجمع على فعول ويقال هذا ملك يميني وهو أفصح من الكسر وفي أمالي القالي الأنملة والأنملة لغتان طرف الأصبع وأنملة أفصح " . وكما أن في اللغة صحيح وأصح ففيها ضعيف وأضعف وفيها المنكر أيضا يقول السيوطي في المزهر في علوم اللغة والأدب ج1/ص169 : " معرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات 1- الضعيف ما انحط عن درجة الفصيح والمنكر أضعف منه وأقل استعمالا بحيث أنكره بعض أئمة اللغة ولم يعرفه 2- والمتروك ما كان قديما من اللغات ثم ترك واستعمل غيره وأمثلة ذلك كثيرة في كتب اللغة منها في ديوان الأدب للفارابي اللهجة لغة في اللهجة وهي ضعيفة وأنبذ نبيذا لغة ضعيفة في نبذ وانتقع لونه لغة ضعيفة في امتقع وتمندل بالمنديل لغة ضعيفة في تندل وواخاه لغة في آخاه وهي ضعيفة والامتحاء لغة ضعيفة في الإمحاء وفيه الجلد أن يسلخ الحوار فيلبس جلده حوارا آخر وقال ابن الأعرابي الجلد والجلد واحد وهذا لا يعرف وفيه الخريع من النساء التي تتثنى من اللين والخريع الفاجرة وأنكرها الأصمعي وفي نوادر أبي زيد كان الأصمعي ينكر هي زوجتي وقرئ عليه هذا الشعر لعبدة بن الطبيب فلم ينكره من الكامل فبكى بناتي شجوهن وزوجتي وقال القالي قال الأصمعي لا تكاد العرب تقول زوجته وقال يعقوب يقال زوجته وهي قليلة قال الفرزدق من الطويل (وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ) وفي نوادر أبي زيد شغب عليه لغة في شغب وهي لغة ضعيفة وفيها يقال رعف الرجل لغة في رعف وهي ضعيفة" . وقال ابن النديم في الفهرست (ص86) في أخبار الرياشي : " وهو أبو الفضل العباس بن الفرج مولى محمد بن سليمان بن علي الهاشمي ورياش رجل من جذام وكان الرياشي عبدا له فبقي عليه نسبه إلى رياش وكان عالما باللغة والشعر كثير الرواية عن الأصمعي روى أيضا عن غيره قال أبو الفتح محمد بن جعفر النحوي قرأ الرياشي النصف الأول من كتاب سيبويه على المازني حدثنا أبو سعيد قال حدثنا أبو بكر بن دريد قال رأيت رجلا في الوراقين بالبصرة يقرأ كتاب المنطق لابن السكيت ويقدم الكوفيين فقلت للرياشي وكان قاعدا في الوراقين ما قال فقال انما أخذنا اللغة من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكلة الكواميخ والشواريز". وكما أن الحديث الصحيح لا يثبت إلا بشروط فإن صحيح اللغة لا يثبت إلا بشروط قال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه ج1/ص405 : " وقال أبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وَتَبِعَهُ الْجِيلِيُّ في الْإِعْجَازِ وَلَا يَلْزَمُ اللُّغَةَ إلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ 1- أَحَدُهَا ثُبُوتُ ذلك عن الْعَرَبِ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ. 2- وَالثَّانِي عَدَالَةُ النَّاقِلِينَ كما يُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمْ في الشَّرْعِيَّاتِ. 3- وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ في أَصْلِ اللُّغَةِ كَالْعَرَبِ الْعَارِبَةِ مِثْلِ قَحْطَانَ وَمَعْدٍ وَعَدْنَانَ فَأَمَّا إذَا نَقَلُوا عَمَّنْ بَعْدَهُمْ بَعْدَ فَسَادِ لِسَانِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْمُوَلَّدِينَ فَلَا قُلْت وَوَقَعَ في كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِشِعْرِ أبي تَمَّامٍ بَلْ في الْإِيضَاحِ لِلْفَارِسِيِّ وَوُجِّهَ بِأَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِتَقْرِيرِ النَّقَلَةِ كَلَامَهُمْ وَأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن قَوَانِينِ الْعَرَبِ وقال ابن جِنِّي يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْمُوَلَّدِينَ في الْمَعَانِي كما يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْعَرَبِ في الْأَلْفَاظِ. 4- وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ قد سمع منهم حِسًّا وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَلَا يَثْبُتُ. 5- وَالْخَامِسُ أَنْ يَسْمَعَ من النَّاقِلِ حِسًّا ". وعند النظر في هذه الشروط التي ذكرها الزركشي نرى أن العرب أولوا اهتماما بالغا في عدالة الراوي كما في الشرط الثاني وضبطه وهو واضح من الشرط الثالث مع اتصال السند وهو الشرط الرابع وأن يسنده إلى أمر محسوس كما هو الظاهر من الشرط الخامس. وقد يجمع هذه الشروط ما قاله السيوطي في المزهر في علوم اللغة1/47: " تُؤخَذ اللّغُة اعتياداً كالصبيّ العربيّ يسمعُ أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممرّ الأوقات وتؤخذ تلقُّناً من مُلَقّن وتؤخذُ سماعاً من الرّواة الثّقات ذوي الصدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون ". وكما أن المحدثين قد يدخل في حديثهم ما ليس منه فكذلك اللغة قد يدخل فيها ما ليس منها بسبب تداخل الأعاجم بالعرب؛ قال في المزهر1/107 : " معرفة من تُقْبَل روايته ومن تُرَد فيه مسائل : الأولى - قال ابن فارس في فقه اللغة : تؤخذ اللغة سَماَعاً من الرُّوَاة الثقات ذوي الصّدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون فحدَّثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني عن أبيه عن معروف بن حسان عن الليث عن الخليل قال : إن النَّحَارير ربما أَدْخَلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللَّبْس والتَّعْنيت. قال ابن فارس : فَلْيَتَحَرَّ آخذُ اللغة أهل الأمانة والصّدْق والثّقة والعَدالة فقد بلغنا من أمر بعض مَشْيَخة بَغْداد ما بَلَغَنا وقال الكمال بن الأنباري في لُمَع الأدلّة في أُصول النَّحْو : يُشْتَرط أن يكونَ ناقلُ اللغة عَدْلاً رَجلاً كان أو امرأة حرّاً كان أو عبداً كما يُشْترط في نقل الحديث لأن بها معرفةَ تفسيره وتأويله فاشْتُرطَ في نقلها ما اشتُرط في نقله وإن لم تكن في الفضيلة من شكله فإن كان ناقل اللغة فاسقاً لم يقبَل نقله. الثانية - قال ابنُ الأنباري : يُقْبل نقْل العَدْل الواحد ولا يُشْترط أن يُوافقَه غيرُه في النَّقل لأن الموافقة لا يخلو إما أن تُشْترط لحصول العلم أو لغَلبة الظَّن . بطل أن يُقال لحُصُول العلم لأنه لا يحصلُ العلمُ بنَقْل اثنين فوجب أن يكونَ لغَلَبة الظنّ وإذا كان لغَلَبة الظنّ فقد حصلَ غلبةُ الظنّ بخبَر الواحد من غير مُوافقة . وزعم بعضُهم أنه لا بد من نَقْل اثنين كالشهادة وهذا ليس بصحيح لأن النَّقْل مَبْنَاه على المُسَاهلة بخلاف الشهادة ولهذا يُسْمع من النساء على الانفراد مطلقاً ومن العبيد ويُقبل فيه العَنْعَنَة ولا يشترط فيه الدّعوى وكلُّ ذلك معدوم في الشهادة فلا يُقاسُ أحدُهما بالآخر". وقد يدخل التدليس في اللغة كما يدخل في الحديث؛ قال في المزهر1/108 : " قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه : اعْتُمد في العربية على أشعار العرب وهم كُفّار لبُعْد التَّدليس فيها كما اعتُمد في الطّب وهو في الأصل مأخوذ عن قوم كفّار لذلك". أما النقل عن أهل الأهواء والمجهولين فيقول السيوطي في المزهر 1/109: " قال ابنُ الأنباري : نَقْل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها إلاَّ أن يكونوا ممن يتدينَّون بالكَذب كالخَطَّابيّة من الرَّافضَة وذلك لأن المُبْتدع إذا لم تكن بدعتُه حاملةً له على الكّذب فالظاهرُ صدْقه. وقال الكمال بن الأنباري : المجهولُ الذي لم يُعْرف ناقله نحوُ أن يقول أبو بكر بن الأنباري : حدّثني رجلٌ عن ابن الأعرابي غيرُ مقبول لأن الجهلَ بالناقل يُوجب الجهلَ بالعَدالة وذهب بعضُهم إلى قبوله وهو القائل بقبول المُرسَل قال : لأنه نَقْلٌ صدَر ممن لا يُتَّهم في نَقْله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى نَقْله عن المجهول لتطرّقت إلى نَقْله عن المعروف وهذا ليس بصحيح لأن النقل عن المجهول لم يصرَّح فيه باسم الناقل فلم يمكن الوقوفُ على حقيقة حًاله بخلاف ما إذا صُرّح باسم الناقل فَبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المعروف قبولُ المجهول". وسبحانك اللهم وبحمدك أشهدأن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وكتبه أبو الحسين الحسيني |
جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة شرفها الله. الساعة الآن: 03:51 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.7.3, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لكل مسلم بشرط الإشارة إلى منتديات الشعر السلفي