الأصول من علم الأصول للعلامة العثيمين
الأصول من علم الأصول لفضيلة الشيخ العلامة / محمد بن صالح العثيمين .. رحمه الله الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً. أما بعد، فهذه رسالة مختصرة في أصول الفقه كتبناها على وفق المنهج المقرر للسنة الثالثة الثانوية في المعاهد وسميناها ( الأصول من علم الأصول ). أسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لله نافعاً لعباد الله، إنه قريب مجيب. أصول الفقه تعريفه: أصول الفقه يعرف باعتبارين: الأول باعتبار مفرديه، أي باعتبار كلمة ( أصول ) وكلمة ( فقه ). فالأصول: جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره. ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرغ منه أغصانها قال تعالى: ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ). الفقه لغة الفهم، ومنه قوله تعالى: ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ). واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية. فالمراد بقولنا ( معرفة ) العلم والظن، لأن إدراك الأحكام الفقيه قد يكون يقينياً وقد يكون ظنياً كما في كثير من مسائل الفقه. والمراد بقولنا ( الأحكام الشرعية ) الأحكام المتلقاة من الشرع، كالوجوب والتحريم. فخرج به الأحكام العقلية كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء، والأحكام العادية كمعرفة نزول الطل في الليلية الشاتية إذا كان الجو صحواً. والمراد بقولنا ( العملية ) ما لا يتعلق بالاعتقاد، كالصلاة والزكاة. فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، فلا يسمى ذلك فقهاً في الاصطلاح. والمراد بقولنا ( بأدلتها التفصيلية ) أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية. فخرج به أصول الفقه، لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية. الثاني: باعتبار كونه لقباً لهذا الفن المعين. فيعرف بأنه: علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد. فالمراد بقولنا ( الإجمالية ) القواعد العامة، مثل قولهم ( الأمر للوجوب ) و ( النهي للتحريم ) و ( الصحة تقتضي النفوذ ). فخرج به الأدلة التفصيلية، فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل للقاعدة. والمراد بقولنا ( وكيفية الاستفادة منها ) معرفة كيف يستفيد الأحكام من أدلتها، بدراسة أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك، فإنه بإدراكه يستفيد من أدلة الفقه أحكامها. والمراد بقولنا ( وحال المستفيد ) معرفة حال المستفيد وهو المجتهد، سمى مستفيداً لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد. فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه. فائدة أصول الفقه إن أصول الفقه علم جليل القدر بالغ الأهمية غزير الفائدة. فائدته التمكن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة. وأول من جمعه كفن مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله. ثم تابعه العلماء في ذلك، فألفوا في التآليف المتنوعة ما بين منثور ومنظوم ومختصر ومبسوط، حتى صار فناً مستقلاً له كيانه ومميزاته. الأحكام الأحكام جمع حكم، وهو لغة القضاء. واصطلاحاً: ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع. فالمراد بقولنا ( خطاب الشرع ) الكتاب والسنة. والمراد بقولنا ( المتعلق بأفعال المكلفين ) ما تعلق بأعمالهم، سواء كانت قولاً أم فعلاً، إيجاداً أم تركاً. فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكماً بهذا الاصطلاح. والمراد بقولنا ( المكلفين) ما من شأنهم التكليف، فيشمل الصغير والمجنون. والمراد بقولنا ( من طلب ) الأمر والنهي، سواء على سبيل الإلزام أو الأفضلية. والمراد بقولنا ( أو تخيير ) المباح. والمراد بقولنا ( أو وضع ) الصحيح والفاسد ونحوهما مما وضعه الشارع من علامات وأوصاف للنفوذ والإلغاء. أقسام الأحكام الشرعية: تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: تكليفية ووضعية. فالتكليفية خمسة: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح. 1- فالواجب لغة الساقط واللازم. واصطلاحاً: ما أمر به الشارع على وجه الإلزام، كالصلوات الخمس. فخرج بقولنا ( ما أمر به الشارع ) المحرم والمكروه والمباح. وخرج بقولنا ( على وجه الإلزام ) المندوب. والواجب يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه. ويسمى فرضاً وفريضة وحتماً ولازماً. 2- والمندوب لغة المدعو. واصطلاحاً: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام، كالرواتب. فخرج بقولنا ( ما أمر به الشارع ) المحرم والمكروه والمباح. وخرج بقولنا ( لا على وجه الإلزام ) الواجب. والمندوب يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه. ويسمى سنة ومسنوناً ومستحبّاً ونفلاً. 3- والمحرم لغة الممنوع. واصطلاحاً: ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك، كعقوق الوالدين. فخرج بقولنا ( ما نهى عنه الشارع ) الواجب والمندوب والمباح. وخرج بقولنا ( على وجه الإلزام بالترك ) المكروه. والمحرم يثاب تاركه امتثالاً ويستحق العقاب فاعله. ويسمى محظوراً أو ممنوعاً. 4- والمكروه لغة المبغض واصطلاحاً: ما نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام بالترك، كالأخذ بالشمال والإعطاء بها. فخرج بقولنا ( ما نهى عنه الشارع ) الواجب والمندوب والمباح. وخرج بقولنا ( لا على وجه الإلزام بالترك ) المحرم. والمكروه يثاب تاركه امتثالاً ولا يعاقب فاعله. 5- والمباح لغة المعلن، والمأذون به. واصطلاحاً: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته، كالأكل في رمضان ليلاً. فخرج بقولنا ( ما لا يتعلق به أمر ) الواجب والمندوب. وخرج بقولنا ( ولا نهي ) المحرم والمكروه. وخرج بقولنا ( لذاته ) ما لو تعلق به أمر لكونه وسيلة لمأمور به، أو نهي لكونه وسيلة منهي عنه، فإن له حكم ما كان وسيلة له من مأمور أو منهي، ولا يخرجه ذلك عن كونه مباحاً في الأصل. المباح ما دام على وصف الإباحة فإنه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب. ويسمى حلالاً وجائزاً. الأحكام الوضعية: الأحكام الوضعية: ما وضعه الشارع من أمارات لثبوت أو انتفاء أو نفوذ أو إلغاء. ومنها الصحة والفساد. 1- فالصحيح لغة السليم من المرض. واصطلاحاً: ما ترتبت آثار فعله عليه، عبادةً كان أم عقداً. فالصحيح من العبادات ما برئت به الذمة وسقط به الطلب. والصحيح من العقود ما ترتب آثاره على وجوده، كترتب الملك على عقد البيع مثلاً. ولا يكون الشيء صحيحاً إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه. مثال ذلك في العبادات أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها. ومثال ذلك في العقود أن يعقد بيعاً تاماً شروطه المعروفة مع انتفاء موانعه. فإن فقد شرط من الشروط أو وجد مانع من الموانع امتنعت الصحة. مثال فقد الشرط في العبادة أن يصلي بلا طهارة. ومثال فقد الشرط في العقد أن يبيع ما لا يملك. ومثال وجود المانع في العبادة أن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي. ومثال وجود المانع في العقد أن يبيع من تلزمه الجمعة شيئاً بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح. 2- والفاسد لغة الذاهب ضياعاً وخسراً. واصطلاحاً: ما لا تترتب آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً. فالفاسد من العبادات ما لا تبرأ به الذمة ولا يسقط به الطلب، كالصلاة قبل وقتها. والفاسد من العقود ما لا تترتب آثاره عليه، كبيع المجهول. وكل فاسد من العبادات والعقود والشروط فإنه محرم، لأن ذلك من تعدي حدود الله واتخاذ آياته هزواً، ولأن النبي e أنكر على من اشترطوا شروطاً ليست في كتاب الله. والفاسد والباطل بمعنى واحد، إلا في موضعين: الأول في الإحرام. فرقوا بينهما بأن الفاسد ما وطئ فيه المحرم قبل التحلل الأول، والباطل ما ارتد فيه عن الإسلام. الثاني في النكاح. فرقوا بينهما بأن الفاسد ما اختلف العلماء في فساده كالنكاح بلا ولي، والباطل ما أجمعوا على بطلانه كنكاح المعتدة. العلم تعريفه العلم إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، كإدراك أن الكل أكبر من الجزء وأن النية شرط في العبادة. فخرج بقولنا ( إدراك الشيء ) عدم الإدراك بالكلية، ويسمى ( الجهل البسيط )، مثل أن يُسأل: متى كانت غزوة بدر؟ فيقول: لا أدري. وخرج بقولنا ( على ما هو عليه ) إدراكه على وجه يخالف ما هو عليه، ويسمى ( الجهل المركب )، مثل أن يُسأل: متى كانت غزوة بدر؟ فيقول: في السنة الثالثة من الهجرة. وخرج بقولنا ( إدراكاً جازماً ) إدراك الشيء إدراكاً غير جازم بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه، فلا يسمى ذلك علماً. ثم إن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإن تساوى الأمران فهو شك. وبهذا تبين أن تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي: 1- علم وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً. 2- جهل بسيط وهو عدم الإدراك بالكلية. 3- جهل مركب وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه. 4- ظن وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح. 5- وهم وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح. 6- شك وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مساوٍ. أقسام العلم: ينقسم العلم إلى قسمين ضروري ونظري. 1- فالضروري: ما يكون إدراك المعلوم فيه ضرورياً، بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال، كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء وأن النار حارة، وأن محمداً رسول الله e. 2- والنظري ما يحتاج إلى نظر واستدلال، كالعلم بوجوب النية في الصلاة. الكلام تعريفه: الكلام لغة اللفظ الموضوع لمعنى. واصطلاحاً اللفظ المفيد، مثل الله ربنا ومحمد نبينا. وأقل ما يتألف منه الكلام اسمان أو فعل واسم. مثال الأول: محمد رسول الله. ومثال الثاني: استقام محمد. واحد الكلام كلمة، وهي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد. وهي إما اسم أو فعل أو حرف. (أ) فالاسم ما دل على معني في نفسه من غير إشعار بزمن. وهو ثلاثة أنواع: الأول: ما يفيد العموم، كالأسماء الموصولة. الثاني: ما يفيد الإطلاق، كالنكرة في سياق الإثبات. الثالث: ما يفيد الخصوص، كالأعلام. (ب) والفعل: ما دل على معنى في نفسه وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة. وهو إما ماضٍ كـ( فهِم )، أو مضارع كـ( يفهم )، أو أمر كـ( افهم ). والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق، فلا عموم له. (ج) والحرف: ما دل على معنىً في غيره. ومنه: 1- الواو. وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، ولا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل. 2- الفاء. وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، مع الترتيب والتعقيب. وتأتي سببية فتفيد التعليل. 3- اللام الجارّة. ولها معانٍ، منها التعليل والتمليك والإباحة. 4- على الجارة. ولها معانٍ، منها الوجوب. أقسام الكلام: ينقسم الكلام باعتبار إمكان وصفه بالصدق وعدمه إلى قسمين: خبر وإنشاء. 1- فالخبر: ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته. فخرج بقولنا ( ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب ) الإنشاء، لأنه لا يمكن فيه ذلك، فإن مدلوله ليس مخبراً عنه حتى يمكن أن يقال إنه صدق أو كذب. وخرج بقولنا ( لذاته ) الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به، وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يمكن وصفه بالكذب، كخبر الله ورسوله الثابت عنه. الثاني: ما لا يمكن وصفه بالصدق، كالخبر عن المستحيل شرعاً أو عقلاً. فالأول كخبر مدعي الرسالة بعد النبي e. والثاني كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد. الثالث: ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب، إما على السواء أو مع رجحان أحدهما، كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه. 2- والإنشاء: ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب. ومنه الأمر والنهي، كقوله تعالى: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ). وقد يكون الكلام خبراً وإنشاءً باعتبارين. كصيغ العقود اللفظية، مثل بعت وقبلت، فإنها باعتبار دلالتها على ما في نفس العاقد خبر، وباعتبار ترتب العقد عليها إنشاء. وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء، وبالعكس، لفائدة. مثال الأول قول تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ). فقوله ( يتربصن ) بصورة الخبر والمراد به الأمر. وفائدة ذلك تأكيد فعل المأمور به حتى كأنه أمر واقع يتحدث عنه كصفة من صفات المأمور. ومثال العكس قوله تعالى: ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ). فقوله ( ولنحمل ) بصورة الأمر والمراد بها الخبر، أي ونحن نحمل. وفائدة ذلك تنزيل الشيء المخبر عنه منزل المفروض الملزم به. الحقيقة والمجاز: وينقسم الكلام من حيث الاستعمال إلى حقيقة ومجاز. 1-فالحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، مثل ( أسد ) للحيوان المفترس. فخرج بقولنا ( المستعمل ) المهمل، فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً. وخرج بقولنا ( فيما وضع له ) المجاز. وتنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: لغوية وشرعية وعرفية. فاللغوية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة. فخرج بقولنا ( في اللغة ) الحقيقة الشرعية والعرفية. مثال ذلك ( الصلاة ) في حقيقتها اللغوية الدعاء، فتحمل عليه في كلام أهل اللغة. والحقيقة الشرعية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع. فخرج بقولنا ( في الشرع ) الحقيقة اللغوية والعرفية. مثال ذلك ( الصلاة ) فإن حقيقتها الشرعية الأقوال والأفعال المعلومة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فتحمل في كلام أهل الشرع على ذلك. والحقيقة العرفية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف. فخرج بقولنا ( في العرف ) الحقيقة اللغوية والشرعية. مثال ذلك ( الدابة ) فإن حقيقتها العرفية ذات الأربع من الحيوان، فتحمل عليه في كلام أهل العرف. وفائدة معرفة تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام أن نحمل كل لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله. فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية، وفي استعمال الشرع على الحقيقة الشرعية، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية. 2-والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، مثل أسد للرجل الشجاع. فخرج بقولنا ( المستعمل ) المهمل، فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً. وخرج بقولنا ( في غير ما وضع له ) الحقيقة. ولا يجوز حمل اللفظ على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع من إرادة الحقيقة، وهو ما يسمى في علم البيان بالقرينة. ويشترط لصحة استعمال اللفظ في مجازه وجود ارتباط بين المعنى الحقيقي والمجازي ليصح التعبير عنه، وهو ما يسمى في علم البيان بالعلاقة. والعلاقة إما أن تكون المشابهة أو غيرها. فإن كانت المشابهة سمي التجوز ( استعارة )، كالتجوز بلفظ أسد عن الرجل الشجاع. وإن كانت غير المشابهة سمي التجوز ( مجازاً مرسلاً ) إن كان التجوز في الكلمات، و ( مجازاً عقلياً ) إن كان التجوز في الإسناد. مثال ذلك في المجاز المرسل أن تقول: رعينا المطر. فكلمة المطر مجاز عن العشب، فالتجوز بالكلمة. ومثال ذلك في المجاز العقلي أن تقول: أنبت المطر العشب. فالكلمات كلها يراد بها حقيقة معناها، لكن إسناد الإنبات إلى المطر مجاز، لأن المنبت حقيقة هو الله تعالى، فالتجوز في الإسناد. ومن المجاز المرسل التجوز بالزيادة، والتجوز بالحذف. مثلوا للمجاز بالزيادة بقولة تعالى: ( ليس كمثله شيء ). ومثال المجاز بالحذف قوله تعالى: ( واسأل القرية ) أي: واسأل أهل القرية، فحذفت أهل مجازا.ً وللمجاز أنواع كثيرة مذكورة في علم البيان، وإنما ذكر طرف من الحقيقة والمجاز في أصول الفقه لأن دلالة الألفاظ إما حقيقة وإما مجاز، فاحتيج إلى معرفة كل منهما وحكمه، والله أعلم. تنبيه: تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز هو المشهور عند أكثر المتأخرين في القرآن وغيره. وقال بعض أهل العلم لا مجاز في القرآن. وقال آخرون لا مجاز في القرآن ولا في غيره، وبه قال أبو إسحاق الاسفرائيين ومن المتأخرين محمد الأمين الشنقيطي. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم أنه اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة، ونصره بأدلة قوية كثيرة تبين لمن اطلع عليها أن هذا القول هو الصواب. الأمر تعريفه: الأمر: قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء، مثل ( أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ). فخرج بقولنا ( قول ) الإشارة، فلا تسمى أمراً وإن أفادت معناه. وخرج بقولنا ( طلب الفعل ) النهي لأنه طلب ترك. والمراد بالفعل الإيجاد، فيشمل القول المأمور به. وخرج بقولنا ( على وجه الاستعلاء ) الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من صيغة الأمر بالقرائن. صيغ الأمر: صيغ الأمر أربع: 1-فعل الأمر، مثل ( اتل ما أوحي من الكتاب ). 2- اسم فعل، مثل ( حي على الصلاة ). 3- المصدر النائب عن فعل الأمر، مثل ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ). 4- المضارع المقرون بلام الأمر، مثل ( لتؤمنوا بالله ورسوله ). وقد يستفاد طلب الفعل من غير صيغة الأمر، مثل أن يوصف بأنه فرض أو واجب أو مندوب أو طاعة، أو يمدح فاعله، أو يذم تاركه، أو يترتب على فعله ثواب أو على تركه عقاب. ما تقتضيه صيغة الأمر: صيغة الأمر عند الإطلاق تقتضي وجوب المأمور به، والمبادرة بفعله فوراً. فمن الأدلة على أنها تقتضي الوجوب قوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ). وجه الدلالة أن الله حذر المخالفين عن أمر الرسول e أن تصيبهم فتنة - وهي الزيغ - أو يصيبهم عذاب أليم، والتحذير بمثل ذلك لا يكون إلا على ترك الواجب، فدل على أن أمر الرسول e المطلق يقتضي وجوب فعل المأمور. ومن الأدلة على أنه للفور قوله تعالى: ( فاستبقوا الخيرات )، والمأمورات الشرعية خير، والأمر بالاستباق إليها دليل على وجوب المبادرة. ولأن النبي e كره تأخير الناس ما أمرهم به من النحر والحلق يوم الحديبية، حتى دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس. ولأن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ، والتأخير له آفات ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز عنها. وقد يخرج الأمر عن الوجوب والفورية لدليل يقتضي ذلك. فيخرج عن الوجوب إلى معانٍ، منها: 1- الندب كقوله تعالى: ( وأشهدواإذا تبايعتم ). فالأمر بالإشهاد على التبايع للندب، بدليل أن النبي e اشترى فرساً من أعرابي ولم يشهد. 2- الإباحة. وأكثر ما يقع ذلك إذا ورد بعد الحظر، أو جواباً لما يتوهم أنه محظور. مثاله بعد الحظر قوله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا ) فالأمر بالاصطياد للإباحة لوقوعه بعد الحظر المستفاد من قوله تعالى: ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ). ومثاله جواباً لما يتوهم أنه محظور قوله e: ( أفعل ولا حرج ) في جواب من سألوه في حجة الوداع عن تقديم أفعال الحج التي تفعل يوم العيد بعضها على بعض. 3- التهديد، كقوله تعالى: ( اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ) ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً ) فذكر الوعيد بعد الأمر المذكور دليل على أنه للتهديد. ويخرج الأمر عن الفورية إلى التراخي. مثاله قضاء رمضان، فإنه مأمور به لكن دل الدليل على أنه للتراخي، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان يكون علىّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، وذلك لمكان رسول الله e ). ولو كان التأخير محرماً ما أُقِرّت عليه عائشة رضي الله عنها. مالا يتم المأمور إلا به: إذا توقف فعل المأمور به على شيء كان ذلك الشيء مأموراً به، فإن كان المأمور به واجباً كان ذلك الشيء واجباً، وإن كان المأمور به مندوباً كان ذلك الشيء مندوباً. مثال الواجب ستر العورة، فإذا توقف على شراء ثوب كان ذلك الشراء واجباً. ومثال المندوب التطيب للجمعة، فإذا توقف على شراء الطيب كان ذلك الشراء مندوباً. وهذه القاعدة في ضمن قاعدة أعم منها، وهي ( الوسائل لها أحكام المقاصد ) فوسائل المأمورات مأمور بها، ووسائل المنهيات منهي عنها. النهي تعريفه: النهي: قول يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء، بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية، مثل قوله تعالى: ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ). فخرج بقولنا ( قول ) الإشارة، فلا تسمى نهياً وإن أفادت معناه. وخرج بقولنا ( طلب الكف ) الأمر، لأنه طلب فعل. وخرج بقولنا ( على وجه الاستعلاء ) الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من النهي بالقرائن. وخرج بقولنا ( بصيغة مخصوصة هي المضارع.. إلخ ) ما دل على طلب الكف بصيغة الأمر مثل ( دع، اترك، كف، ونحوها )، فإن هذه وإن تضمنت طلب الكف لكنها بصيغة الأمر فتكون أمراً لا نهياً. وقد يستفاد طلب الكف بغير صيغة النهي، مثل أن يوصف الفعل بالتحريم أو الحظر أو القبح، أو يذم فاعله، أو يرتب على فعله عقاب أو نحو ذلك. ما تقتضيه صيغة النهي: صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه وفساده. فمن الأدلة على أنها تقتضي التحريم قوله تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا )، فالأمر بالانتهاء عما نهى عنه يقتضي وجوب الانتهاء، ومن لازم ذلك تحريم الفعل. ومن الأدلة على أنه يقتضي الفساد قوله e: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) أي: مردود. وما نهي عنه فليس عليه أمر النبي e فيكون مردوداً. هذا وقاعدة المذهب في المنهي عنه: هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم، كما يلي: 1- أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً. 2- أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه فلا يكون باطلاً. مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في العبادة النهي عن صوم يوم العيدين. ومثال العائد إلى ذاته في المعاملة النهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة. ومثال العائد إلى شرطه في العبادة النهي عن لبس الرجل ثوب الحرير، فستر العورة شرط لصحة الصلاة، فإذا سترها بثوب منهي عنه لم تصح الصلاة، لعود النهي إلى شرطها. ومثال العائد إلى شرطه في المعاملة النهي عن بيع الحمل، فالعلم بالمبيع شرط لصحة البيع، فإذا باع الحمل لم يصح البيع، لعود النهي إلى شرطه. ومثال النهي العائد إلى أمر خارج في العبادة النهي عن لبس الرجل عمامة الحرير، فلو صلى وعليه عمامة حرير لم تبطل صلاته، لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة ولا شرطها. ومثال العائد إلى أمر خارج في المعاملة النهي عن الغش، فلو باع شيئاً مع الغش لم يبطل البيع، لأن النهي لا يعود إلى ذات البيع ولا شرطه. وقد يخرج النهي عن التحريم إلى معانٍ أخرى لدليل يقتضي ذلك، فمنها: 1- الكراهة. ومثلوا لذلك بقوله e: ( لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ) فقد قال الجمهور: إن النهي هنا للكراهة، لأن الذكر بضعة من الإنسان، والحكمة من النهي تنزيه اليمين. 2- الإرشاد مثل قوله e لمعاذ: ( لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ). من يدخل في الخطاب بالأمر والنهي؟ الذي يدخل في الخطاب بالأمر والنهي المكلف، وهو البالغ العاقل. فخرج بقولنا ( البالغ ) الصغير، فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ، ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها. وخرج بقولنا ( العاقل ) المجنون، فلا يكلف بالأمر والنهي، ولكنه يمنع مما يكون فيه تعدٍّ على غيره أو إفساد، ولو فعل المأمور به لم يصح منه الفعل لعدم قصد الامتثال منه. ولا يرد على هذا إيجاب الزكاة والحقوق المالية في مال الصغير والمجنون، لأن إيجاب هذه مربوط بأسباب معينة متى وجدت ثبت الحكم، فهي منظور فيها إلى السبب لا إلا الفاعل. والتكليف بالأمر والنهي شامل للمسلمين والكفار. لكن الكافر لا يصح منه فعل المأمور به حال كفره لقوله تعالى: ( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله )، ولا يؤمر بقضائه إذا أسلم لقوله تعالى: ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) وقوله e لعمرو بن العاص: ( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله ). وإنما يعاقب على تركه إذا مات على الكفر لقوله تعالى عن جواب المجرمين إذا سئلوا: ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ). موانع التكليف: للتكليف موانع، منها الجهل والنسيان والإكراه لقول النبي e: ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) رواه ابن ماجه والبيهقي وله شواهد من الكتاب والسنة تدل على صحته. فالجهل: عدم العلم. فمتى فعل المكلف محرماً جاهلاً بتحريمه فلا شيء عليه، كمن تكلم في الصلاة جاهلاً بتحريم الكلام. ومتى ترك واجباً جاهلاً بوجوبه لم يلزمه قضاؤه إذا كان قد فات وقته، بدليل أن النبي e لم يأمر المسيء في صلاته - وكان لا يطمئن فيها - لم يأمره بقضاء ما فات من الصلوات، وإنما أمره بفعل الصلاة الحاضرة على الوجه المشروع. والنسيان: ذهول القلب عن شئ معلوم. فمن فعل محرماً ناسياً فلا شيء عليه، كمن أكل في الصيام ناسياً. ومن ترك واجباً ناسياً فلا شيء عليه حال نسيانه ولكن عليه فعله إذا ذكره، لقول النبي e: ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ). والإكراه: إلزام الشخص بما لا يريد. فمن أكره على شيء محرم فلا شيء عليه، كمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. ومن أكره على ترك واجب فلا شيء عليه حال الإكراه وعليه قضاؤه إذا زال، كمن أكره على ترك الصلاة حتى خرج وقتها فإنه يلزمه قضاؤها إذا زال الإكراه. وتلك الموانع إنما هي في حق الله، لأنه مبني على العفو والرحمة. أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه، والله أعلم. العام تعريفه: العام لغة الشامل. واصطلاحاً: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر، مثل ( إن الأبرار لفي نعيم ). فخرج بقولنا ( المستغرق لجميع أفراده ) ما لا يتناول إلا واحداً، كالعلم والنكرة في سياق الإثبات. كقوله تعالى: ( فتحرير رقبة ) لأنها لا تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول، وإنما تتناول واحداً غير معين. وخرج بقولنا ( بلا حصر ) ما يتناول جميع أفراده مع الحصر، كأسماء العدد: مئة وألف ونحوهما. صيغ العموم: صيغ العموم سبع: 1- مادل على العموم بمادته، مثل: كل وجميع وكافة وقاطبة وعامة، كقوله تعالى: ( إنا كلّ شيء خلقناه بقدر ). 2- أسماء الشرط، كقوله تعالى: ( من عمل صالحاً فلنفسه ) ( فأينما تولوا فثم وجه الله ). 3- أسماء الاستفهام، كقوله تعالى: ( فمن يأتيكم بماء معين ) ( ماذا أجبتم المرسلين ) ( فأين تذهبون ). 4- الأسماء الموصولة، كقوله تعالى: ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) ( والذين جاهدوا فينا لندهينهم سبلنا ) ( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) ( ولله ما في السموات وما في الأرض ). 5- النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام الإنكاري، كقوله تعالى: ( وما من إله إلا الله ) ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) ( إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً ) ( من إله غير الله يأتيكم بضياء ). 6- المعرف بالإضافة مفرداً كان أم مجموعاً، كقوله تعالى: ( واذكروا نعمة الله عليكم ) ( فاذكروا آلاء الله ). 7- المعرف بأل الاستغراقية مفرداً كان أم مجموعاً، كقوله تعالى:( وخلق الإنسان ضعيفاً ) ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ). وأما المعرف بأل العهدية فإنه بحسب المعهود، فإن كان عامّاً فالمعرف عام وإن كان خاصّاً فالمعرف خاص. مثال العام قوله تعالى: ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون ). ومثال الخاص قوله تعالى: ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ). وأما المعرف بأل التي لبيان الجنس فلا يعم الأفراد. فإذا قلت: الرجل خير من المرأة أو الرجال خير من النساء، فليس المراد أن كل فرد من الرجال خير من كل فرد من النساء، وإنما المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس وإن كان قد يوجد من أفراد النساء من هو خير من بعض الرجال. العمل بالعام: يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك. وإذا ورد العام على سبب خاص وجب العمل بعمومه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله فيختص بما يشبهها. مثال ما لا دليل على تخصيصه آيات الظهار، فإن سبب نزولها ظهار أوس بن الصامت والحكم عام فيه وفي غيره. ومثال ماد دل الدليل على تخصيصه قوله e: ( ليس من البر الصيام في السفر ) فإن سببه أن النبي e كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: ( ما هذا؟ ) قالوا: ( صائم. ) فقال: ( ليس من البر الصيام في السفر ). فهذا العموم خاص بمن يشبه حال هذا الرجل، وهو من يشق عليه الصيام في السفر، والدليل على تخصيصه بذلك أن النبي e كان يصوم في السفر حيث كان لا يشق عليه، ولا يفعل e ما ليس ببر. الخاص تعريفه: الخاص لغة ضد العام. واصطلاحاً: اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد، كأسماء الأعلام والإشارة والعدد. فخرج بقولنا ( على محصور ) العام. والتخصيص لغة ضد التعميم. واصطلاحاً: إخراج بعض أفراد العام. والمخصِّص - بكسر الصاد - فاعل التخصيص، وهو الشارع، ويطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص. ودليل التخصيص نوعان: متصل ومنفصل. فالمتصل: ما لا يستقل بنفسه. والمنفصل: ما يستقل بنفسه. فمن المخصص المتصل: أولاً الاستثناء. وهو لغة من الثني، وهو رد بعض الشيء إلى بعضه، كثني الحبل. واصطلاحاً: إخراج بعض أفراد العام بـ( إلا ) أو إحدى أخواتها، كقوله تعالى: ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ). فخرج بقولنا: ( بإلا أو إحدى أخواتها ) التخصيص بالشرط وغيره. شروط الاستثناء: يشترط لصحة الاستثناء شروط، منها: 1- اتصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً. فالمتصل حقيقة المباشر للمستثنى منه، بحيث لا يفصل بينهما فاصل. والمتصل حكماً: ما فصل بينه وبين المستثنى منه فاصل لا يمكن دفعه، كالسعال والعطاس. فإن فصل بينهما فاصل أو سكوت لم يصح الاستثناء، مثل أن يقول: عبيدي أحرار، ثم يسكت أو يتكلم بكلام آخر، ثم يقول: إلا سعيداً، فلا يصح الاستثناء ويعتق الجميع. وقيل يصح الاستثناء مع السكوت أو الفاصل إذا كان الكلام واحداً، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي e قال يوم فتح مكة: ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ) فقال العباس: ( يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوهم ) فقال: ( إلا الإذخر ) وهذا القول أرجح لدلالة هذا الحديث عليه. 2- ألا يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه، فلو قال: له عليّ عشرة دراهم إلا ستة، لم يصح الاستثناء ولزمته العشرة كلها. وقيل لا يشترط ذلك فيصح الاستثناء وإن كان المستثنى أكثر من النصف، فلا يلزمه في المثال المذكور إلا أربعة. أما إن استثنى الكل فلا يصح على القولين، فلو قال: له عليّ عشرة إلا عشرة، لزمته العشرة كلها. وهذا الشرط فيما إذا كان الاستثناء من عدد، أما إن كان من صفة فيصح وإن خرج الكل أو الأكثر. مثاله قوله تعالى لإبليس: ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) وأتباع إبليس من بني آدم أكثر من النصف. ولو قلت: أعط من في البيت إلا الأغنياء، فتبين أن جميع من في البيت أغنياء صح الاستثناء ولم يعطوا شيئاً. ثانياً: من المخصص المتصل الشرط. وهو لغة العلامة. والمراد به هنا تعليق شيء بشيء وجوداً أو عدماً بـ( إن ) الشرطية أو إحدى أخواتها. والشرط مخصص سواء تقدم أم تأخر. مثال المتقدم قوله تعالى في المشركين: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم )، ومثال المتأخر قوله تعالى: ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ). ثالثاً: الصفة. وهي ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال. مثال النعت قوله تعلى: ( فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ). ومثال البدل قوله تعالى: ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ). ومثال الحال قوله تعالى: ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ) الآية. المخصص المنفصل: المخصص المنفصل: ما يستقل بنفسه، وهو ثلاثة أشياء: الحس والعقل والشرع. مثال التخصيص بالحس قوله تعالى عن ريح عاد: ( تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ) فإن الحس دل على أنها لم تدمر السماء والأرض. ومثال التخصيص بالعقل قوله تعالى: ( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) فإن العقل دل على أن ذاته تعالى غير مخلوقة. ومن العلماء من يرى أن ما خص بالحس والعقل ليس من العام المخصوص، وإنما هو من العام الذي أريد به الخصوص، إذ المخصوص لم يكن مراداً عند المتكلم ولا المخاطب من أول الأمر، وهذه حقيقة العام الذي أريد به الخصوص. وأما التخصيص بالشرع فإن الكتاب والسنة يخصص كل منهما بمثلهما وبالإجماع والقياس. مثال تخصيص الكتاب بالكتاب قوله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) خص بقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً ). ومثال تخصيص الكتاب بالسنة آيات المواريث كقوله تعالى: ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدةً فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضةً من الله إن الله كان عليماً حكيماً ) ونحوها خص بقوله e: ( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ). ومثال تخصيص الكتاب بالإجماع قوله تعالى: ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ) خص بالإجماع على أن الرقيق القاذف يجلد أربعين. هكذا مثل كثير من الأصوليين، وفيه نظر لثبوت الخلاف في ذلك، ولم أجد له مثالاً سليماً. ومثال تخصيص الكتاب بالقياس قوله تعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) خص بقياس العبد الزاني على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور. ومثال تخصيص السنة بالكتاب قوله e: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ) خص بقوله تعالى: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ). ومثال تخصيص السنة بالسنة قوله e: ( فيما سقت السماء العشر ) خص بقوله e: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ). ولم أجد مثالاً لتخصيص السنة بالإجماع. ومثال تخصيص السنة بالقياس قوله e: ( البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام ) خص بقياس العبد على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور. المطلق والمقيد تعريف المطلق: المطلق لغة ضد المقيد. واصطلاحاً: ما دل على الحقيقة بلا قيد، كقوله تعالى: ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ). فخرج بقولنا ( ما دل على الحقيقة ) العام، لأنه يدل على العموم لا على مطلق الحقيقة فقط. وخرج بقولنا ( بلا قيد ) المقيد. تعريف المقيد: المقيد لغة ما جعل فيه قيد من بعير ونحوه. واصطلاحاً: ما دل على الحقيقة بقيد، كقوله تعالى: ( فتحرير رقبة مؤمنة ). فخرج بقولنا ( قيد ) المطلق. العمل بالمطلق: يجب العمل بالمطلق على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك. وإذا ورد نص مطلق ونص مقيد وجب تقييد المطلق به إن كان الحكم واحداً، وإلا عمل بكل واحد على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد. مثال ما كان الحكم فيهما واحداً قوله تعالى في كفارة الظهار: ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) وقوله في كفارة القتل: ( فتحرير رقبة مؤمنة ) فالحكم واحد هو تحرير الرقبة، فيجب تقييد المطلق في كفارة الظهار بالمقيد في كفارة القتل ويشترط الإيمان في الرقبة في كل منهما. ومثال ما ليس الحكم فيهما واحداً قوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وقوله في آية الوضوء: ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) فالحكم مختلف، ففي الأولى قطع وفي الثانية غسل، فلا تقيد الأولى بالثانية بل تبقى على إطلاقها ويكون القطع من الكوع - مفصل الكف - والغسل إلى المرافق. المجمل والمبين تعريف المجمل: المجمل لغة المبهم والمجموع. واصطلاحاً: ما يتوقف فهم المراد منه على غيره إما في تعيينه أو بيان صفته أو مقداره. مثال ما يحتاج إلى غيره في تعيينه قوله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) فإن القرء لفظ مشترك بين الحيض والطهر فيحتاج في تعيين أحدهما إلى دليل. ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان صفته قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة ) فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان. ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان مقداره قوله تعالى: ( وآتو الزكاة ) فإن مقدار الزكاة الواجبة مجهول يحتاج إلى بيان. تعريف المبين: المبين لغة المظهر والموضح. واصطلاحاً: ما يفهم المراد منه إما بأصل الوضع أو بعد التبيين. مثال ما يفهم المراد منه بأصل الوضع لفظ: سماء أرض جبل عدل ظلم صدق. فهذه الكلمات ونحوها مفهومة بأصل الوضع ولا تحتاج إلى غيرها في بيان معناها. ومثال ما يفهم المراد منه بعد التبيين قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فإن الإقامة والإيتاء كل منهما مجمل، ولكن الشارع بينهما فصار لفظهما بينا بعد التبيين. العمل بالمجمل: يجب على المكلف عقد العزم على العمل بالمجمل متى حصل بيانه. والنبي e قد بين لأمته جميع شريعته أصولها وفروعها حتى ترك الأمة على شريعة بيضاء نقية ليلها كنهارها، ولم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً. وبيانه e إما بالقول أو بالفعل أو بالقول والفعل جميعاً. مثال بيانه بالقول إخباره عن أنصبة الزكاة ومقاديرها، كما في قوله e: ( فيما سقت السماء العشر ) بياناً لمجمل قوله تعالى : ( وآتوا الزكاة ). ومثال بيانه بالفعل قيامه بأفعال المناسك أمام الأمة بياناً لمجمل قوله تعالى: ( ولله على الناس حج البيت ). وكذلك صلاة الكسوف على صفتها هي في الواقع بيان لمجمل قوله e: ( فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا ). ومثال بيانه بالقول والفعل بيانه كيفية الصلاة، فإنه كان بالقول كما في حديث المسيء في صلاته حيث قال e: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ) الحديث. وكان بالفعل أيضاً كما في حديث سهل بن سعد الساعدي t أن النبي e قام على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر.. الحديث، وفيه: ثم أقبل على الناس وقال: ( إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ). الظاهر والمؤول تعريف الظاهر: الظاهر لغة الواضح والبين. واصطلاحاً: ما دل بنفسه على معنى راجح مع احتمال غيره. مثاله قوله e: ( توضئوا من لحوم الإبل ). فإن الظاهر من المراد بالوضوء غسل الأعضاء الأربعة على الصفة الشرعية دون الوضوء الذي هو النظافة. فخرج بقولنا ( ما دل بنفسه على معنى ) المجمل، لأنه لا يدل على المعنى بنفسه. وخرج بقولنا ( راجح ) المؤول، لأنه يدل على معنى مرجوح لولا القرينه. وخرج بقولنا ( مع احتمال غيره ) النص الصريح، لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً. العمل بالظاهر: العمل بالظاهر واجب إلا بدليل يصرفه عن ظاهره، لأن هذه طريقة السلف، ولأنه أحوط وأبرأ للذمة وأقوى في التعبد والانقياد. تعريف المؤول: المؤول لغة من الأول وهو الرجوع. واصطلاحاً: ما حمل لفظه على المعنى المرجوح. فخرج بقولنا ( على المعنى المرجوح ) النص والظاهر. أما النص فلأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً، وأما الظاهر فلأنه محمول على المعنى الراجح. والتأويل قسمان: صحيح مقبول، وفاسد مردود. 1- فالصحيح ما دل عليه دليل صحيح، كتأويل قوله تعالى: ( واسأل القرية ) إلى معنى: واسأل أهل القرية، لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها. 2- والفاسد ما ليس عليه دليل صحيح، كتأويل المعطلة قوله تعالى: ( الرحمن على العرش استوى ) إلى معنى استولى. والصواب أن معناه العلو والاستقرار من غير تكييف ولا تمثيل. النسخ تعريفه: النسخ لغة الإزالة والنقل. واصطلاحاً: رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة. فالمراد بقولنا ( رفع حكم ) أي تغييره من إيجاب إلى إباحة، أو من إباحة إلى تحريم مثلاً. فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع، مثل أن يرتفع وجوب الزكاة لنقص النصاب أو وجوب الصلاة لوجود الحيض، فلا يسمى ذلك نسخاً. والمراد بقولنا ( أو لفظه ) لفظ الدليل الشرعي. لأن النسخ إما أن يكون للحكم دون اللفظ، أو بالعكس، أو لهما جميعاً كما سيأتي. وخرج بقولنا ( بدليل من الكتاب والسنة ) ما عداهما من الأدلة كالإجماع والقياس، فلا ينسخ بهما. والنسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً. أما جوازه عقلاً فلأن الله بيده الأمر وله الحكم لأنه الرب المالك، فله أن شرع لعباده ما تقتضيه حكمته ورحمته. وهل يمنع العقل أن يأمر المالك مملوكه بما أراد؟! ثم إن مقتضى حكمة الله ورحمته بعبادة أن يشرع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم ودنياهم، والمصالح تختلف بحسب الأحوال والأزمان، فقد يكون الحكم في وقت أو حال أصلح للعباد ويكون غيره في وقت أو حال أخرى أصلح، والله عليم حكيم. وأما وقوعه شرعاً فلأدلة، منها: 1- قوله تعالى: ( ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ). 2- قوله تعالى: ( الآن خفف الله عنكم ) ( فالآن باشروهن ) فإن هذا النص في تغيير الحكم السابق. 3-قوله e ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها ) فهذا نص في نسخ النهي عن زيارة القبور. ما يمتنع نسخة: 1-الأخبار. لأن النسخ محله الحكم. ولأن نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذباً، والكذب مستحيل في أخبار الله ورسوله. اللهم إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخه، كقوله تعالى: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) الآية، فإن هذا خبر معناه الأمر، ولذا جاء نسخه في الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين ) الآية. 2- الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان، كالتوحيد وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك، فلا يمكن نسخ الأمر بها. وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان، كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك. إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم. شروط النسخ: يشترط للنسخ فيما يمكن نسخه شروط، منها: 1- تعذر الجمع بين الدليلين. فإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بكل منهما. 2- العلم بتأخر الناسخ. ويعلم ذلك إما بالنص أو بخبر الصحابي أو بالتاريخ. مثال ما علم تأخره بالنص قوله e ( كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ). ومثال ماعلم بخبر الصحابي قول عائشة رضي الله عنها – ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ). ومثال ما علم بالتاريخ قوله تعالى: ( الآن خفف الله عنكم ) الآية، فقوله ( الآن ) يدل على تأخر هذا الحكم. وكذا لو ذكر أن النبي e حكم بشيء قبل الهجرة ثم حكم بعدها بما يخالفه، فالثاني ناسخ. 3-ثبوت الناسخ. 4- واشترط الجمهور أن يكون أقوى من المنسوخ، فلا ينسخ المتواتر عندهم بالآحاد وإن كان ثابتاً. والأرجح أنه لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى، لأن محل النسخ الحكم ولايشترط في ثبوته التواتر. أقسام النسخ: ينقسم النسخ باعتبار النص المنسوخ إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما نسخ حكمه وبقي لفظه، وهذا هو الكثير في القرآن. مثاله آيتا المصابرة، وهما قوله تعالى: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) الآية، نسخ حكمها بقوله تعالى: ( الآن خفف الله عنكم ). وحكمة نسخ الحكم دون اللفظ بقاء ثواب التلاوة وتذكير الأمة بحكمة النسخ. الثاني: ما نسخ لفظه وبقي حكمه، كأية الرجم، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب t قال ( كان فيما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله e ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ). وحكمة نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن، وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة. الثالث: ما نسخ حكمه ولفظه، كنسخ عشر الرضعات السابق في حديث عائشة رضي الله عنها. وينقسم النسخ باعتبار الناسخ أربعة أقسام: الأول: نسخ القرآن بالقرآن. ومثاله آيتا المصابرة. الثاني: نسخ القرآن بالسنة. ولم أجد له مثالاً سليماً. الثالث: نسخ السنة بالقرآن. ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ). الرابع: نسخ السنة بالسنة. ومثاله قوله e ( كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكراً ). حكمة النسخ: 1- مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم. 2- التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال 3- اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك. 4-اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف، ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل. الاخبار تعريف الخبر: الخبر لغة النبأ. والمراد به هنا: ما أضيف إلى النبي e من قول أو فعل أو تقرير أو وصف. وقد سبق الكلام على أحكام كثيرة من القول. وأما الفعل: فإن فعله e أنواع: الأول: ما فعله بمقتضى الجبلة، كالأكل والشرب والنوم، فلا حكم له في ذاته. ولكن قد يكون مأموراً به أو منهياً عنه لسبب. وقد يكون له صفة مطلوبة كالأكل باليمين أو منهي عنها كالأكل بالشمال. الثاني: ما فعله بحسب العادة، كصفة اللباس، فمباح في حد ذاته. وقد يكون مأموراً به أو منهياً عنه لسبب. الثالث: ما فعله على وجه الخصوصية فيكون مختصاً به، كالوصال في الصوم والنكاح بالهبة. ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل، لأن الأصل التأسي به. الرابع: ما فعله تعبداً، فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا على أصح الأقوال. وذلك لأن فعله تعبداً يدل على مشروعيته والأصل عدم العقاب على الترك، فيكون مشروعاً لا عقاب في تركه، وهذا حقيقة المندوب. مثال ذلك حديث عائشة أنها سئلت: ( بأي شيء كان النبي e يبدأ إذا دخل بيته؟ ) قالت: ( بالسواك )، فليس في السواك عند دخول البيت إلا مجرد الفعل فيكون مندوباً. ومثال آخر ( كان النبي e يخلل لحيته في الوضوء )، فتخليل اللحية ليس داخلاً في غسل الوجه حتى يكون بياناً لمجمل، وإنما هو فعل مجرد فيكون مندوباً. الخامس: ما فعله بياناً لمجمل من نصوص الكتاب أو السنة، فواجب عليه حتى يحصل البيان لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون له حكم ذلك النص المبين في حقه وحقنا، فإن كان واجباً كان ذلك الفعل واجباً وإن كان مندوباً كان ذلك الفعل مندوباً. مثال الواجب أفعال الصلاة الواجبة التي فعلها النبي e بياناً لمجمل قوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة ). ومثال المندوب صلاته e ركعتين خلف المقام بعد أن فرغ من الطواف بياناً لقوله تعالى: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )، حيث تقدم e إلى مقام إبراهيم وهو يتلو هذه الآية، والركعتان خلف المقام سنة. وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على الشيء فهو دليل على جوازه على الوجه الذي أقره، قولاً كان أم فعلاً. مثال إقراره على القول إقراره الجارية التي سألها: ( أين الله؟ ) قالت: ( في السماء ). ومثال إقراره على الفعل إقراره صاحب السرية الذي كان يقرأ لأصحابه فيختم بـ( قل هو الله أحد ) فقال النبي e ( سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك ) فسألوه، فقال: ( لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها ) فقال النبي e ( أخبروه أن الله يحبه ). ومثال آخر إقراره الحبشة يلعبون في المسجد من أجل التأليف على الإسلام. فأما ما وقع ولم يعلم به فإنه لا ينسب إليه، ولكنه حجة لإقرار الله له، ولذلك استدل الصحابة y على جواز العزل بإقرار الله لهم عليه، قال جابر t: ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) متفق عليه، زاد مسلم: قال سفيان: ( ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن ). ويدل على أن إقرار الله حجة أن الأفعال المنكرة التي كان المنافقون يخفونها يبينها الله تعالى وينكرها عليهم، فدل على أن ما سكت الله عنه فهو جائز. أقسام الخبر باعتبار من يضاف إليه: ينقسم الخبر باعتبار من يضاف إليه إلى ثلاثة أقسام: مرفوع وموقوف ومقطوع. 1-فالمرفوع: ما أضيف إلى النبي e حقيقة أو حكماً. فالمرفوع حقيقة قول النبي e وفعله وإقراره. والمرفوع حكماً ما أضيف إلى سنته أو عهده أو نحو ذلك، مما لا يدل على مباشرته إياه. ومنه قول الصحابي: ( أمرنا ) أو ( نهينا ) أو نحوهما، كقول ابن عباس رضي الله عنهما: ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. وقول أم عطية: ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ). 2- والموقوف: ما أضيف إلى الصحابي، ولم يثبت له حكم الرفع. وهو حجة على القول الراجح، إلا أن يخالف نصاً أو قول صحابي آخر. فإن خالف نصاً أخذ بالنص، وإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالراجح منهما. والصحابي: من اجتمع بالنبي e مؤمناً به ومات على ذلك. 3- والمقطوع: ما أضيف إلى التابعي فمن بعده. والتابعي: من اجتمع بالصحابي مؤمناً بالرسول e ومات على ذلك. أقسام الخبر باعتبار طرقه: ينقسم الخبر باعتبار طرقه إلى متواتر وآحاد. 1- فالمتواتر: ما رواه جماعة كثيرون يستحيل في العادة أن يتواطؤوا على الكذب وأسندوه إلى شيء محسوس. مثاله قوله e: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ). 2- والآحاد: ما سوى المتواتر. وهو من حيث الرتبة ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف. فالصحيح: ما نقله عدل تام الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة. والحسن: ما نقله عدل خفيف الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة. ويصل إلى درجة الصحيح إذا تعددت طرقه، ويسمى ( صحيحاً لغيره ). والضعيف ما خلا من شرط الصحيح والحسن. ويصل إلى درجة الحسن إذا تعددت طرقه على وجه يجبر بعضها بعضاً، ويسمى (حسناً لغيره ). وكل هذه الأقسام حجة سوى الضعيف فليس بحجة، لكن لا بأس بذكره في الشواهد ونحوها. صيغ الأداء: للحديث تحمل وأداء. فالتحمل: أخذ الحديث عن الغير. والأداء: إبلاغ الحديث إلى الغير. وللأداء صيغ، منها: 1- حدثني: لمن قرأ عليه الشيخ. 2- أخبرني: لمن قرأ عليه الشيخ أو قرأ هو على الشيخ. 3- أخبرني إجازة، أو أجاز لي: لمن روى بالإجازة دون القراءة. والإجازة: إذنه للتلميذ أن يروي عنه ما رواه وإن لم يكن بطريق القراءة. 4- العنعنة: وهي رواية الحديث بلفظ عن. وحكمها الاتصال، إلا من معروف بالتدليس فلا يحكم فيها بالاتصال إلا أن يصرح بالتحديث. هذا وللبحث في الحديث ورواته أنواع كثيرة في علم المصطلح، وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى. الإجماع تعريفه: الإجماع لغة العزم والاتفاق. واصطلاحاً: اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي e على حكم شرعي. فخرج بقولنا ( اتفاق ) وجود خلاف ولو من واحد، فلا ينعقد معه الإجماع. وخرج بقولنا ( مجتهدي ) العوام والمقلدون، فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم. وخرج بقولنا ( هذه الأمة ) إجماع غيرها، فلا يعتبر. وخرج بقولنا ( بعد النبي e ) اتفاقهم في عهد النبي e فلا يعتبر إجماعاً من حيث كونه دليلاً، لأن الدليل حصل بسنة النبي e من قول أو فعل أو تقرير. ولذلك إذا قال الصحابي: ( كنا نفعل - أو كانوا يفعلون - كذا على عهد النبي e ) كان مرفوعاً حكماً لا نقلاً للإجماع. وخرج بقولنا ( على حكم شرعي ) اتفاقهم على حكم عقلي أو عادي، فلا مدخل له هنا، إذ البحث في الإجماع كدليل من أدلة الشرع. والإجماع حجة لأدلة، منها: 1 – قوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ). فقوله: ( شهداء على الناس ) يشمل الشهادة على أعمالهم وعلى أحكام أعمالهم، والشهيد قوله مقبول. 2- قوله تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) دل على أن ما اتفقوا عليه حق. 3- قوله e ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ). 4- أن نقول: إجماع الأمة على شيء إما أن يكون حقاً وإما أن يكون باطلاً، فإن كان حقاً فهو حجة، وإن كان باطلاً فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله؟! هذا من أكبر المحال. أنواع الإجماع: الإجماع نوعان: قطعي وظني. 1- فالقطعي: ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس وتحريم الزنى. وهذا النوع لا أحد ينكر ثبوته ولا كونه حجة، ويكفر مخالفة إذا كان ممن لا يجهله. 2- والظني: ما لايعلم إلا بالتتبع والاستقراء. وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته. وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في العقيدة الواسطية ( والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ) أهـ. واعلم أن الأمة لا يمكن أن تجمع على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ، فإنها لا تجمع إلا على حق. وإذا رأيت إجماعاً تظنه مخالفاً لذلك، فانظر، فإما أن يكون الدليل غير صريح أو غير صحيح أو منسوخاً، أو في المسألة خلاف لم تعلمه. شروط الإجماع: للإجماع شروط، منها: 1- أن يثبت بطريق صحيح، بأن يكون إما مشهوراً بين العلماء أو ناقلة ثقة واسع الإطلاع. 2- ألا يسبقه خلاف مستقر، فإن سبقه ذلك فلا إجماع، لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها. فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق وإنما يمنع من حدوث خلاف. هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه. وقيل لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة ويكون حجة على من بعده. ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجمعين، فينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد، لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم، فما الذي يرفعه؟! وإذا قال بعض المجتهدين قولاً أو فعل فعلاً واشتهر ذلك بين أهل الاجتهاد ولم ينكروه مع قدرتهم على الإنكار، فقيل يكون إجماعاً، وقيل يكون حجة لا إجماعاً، وقيل ليس بإجماع ولا حجة، وقيل إن انقرضوا قبل الإنكار فهو إجماع، لأن استمرار سكوتهم إلى الانقراض مع قدرتهم على الإنكار دليل على موافقتهم، وهذا أقرب الأقوال. القياس تعريفه: القياس لغة التقدير والمساواة. واصطلاحاً: تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما. فالفرع المقيس. والأصل المقيس عليه. والحكم ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب أو تحريم أو صحة أو فساد أو غيرها. والعلة المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل. وهذه الأربعة أركان القياس. والقياس أحد الأدلة التي ثبت بها الأحكام الشرعية. وقد دل على اعتباره دليلاً شرعياً الكتاب والسنة وأقوال الصحابة. فمن أدلة الكتاب: 1- قوله تعالى: ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) والميزان ما توزن به الأمور ويقايس به بينها. 2- قوله تعالى: ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) فشبه الله تعالى إعادة الخلق بابتدائه، وشبه إحياء الأموات بإحياء الأرض، وهذا هو القياس. ومن أدلة السنة: 1- قوله e لمن سألته عن الصيام عن أمها بعد موتها: ( أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟ ) قالت: ( نعم ) قال ( فصومي عن أمك ). 2- أن رجلاً أتى النبي e فقال ( يا رسول الله ولد لي غلام أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعة عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق ). وهكذا جميع الأمثال الواردة في الكتاب والسنة دليل على القياس لما فيها من اعتبار الشيء بنظيره. ومن أقوال الصحابي ما جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كتابة إلى أبي موسى الأشعري في القضاء قال: ( ثم الفهم الفهم فيما أدلي عليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك، واعرف الأمثال، ثم أعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ). قال ابن القيم: ( وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول ). وحكى المزني أن الفقهاء في عصر الصحابة إلى يومه أجمعوا على أن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، واستعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام. شروط القياس: للقياس شروط منها: 1- أن لا يصادم دليلاً أقوى منه. فلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة - إذا قلنا قول الصحابي حجة - ويسمى القياس المصادم لما ذكر ( فاسد الاعتبار ). مثاله أن يقال: يصح أن تزوج المرأة الرشيدة نفسها بغير ولي قياساً على صحة بيعها مالها بغير ولي. فهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النص، وهو قوله e ( لا نكاح إلى بولي ). 2- أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع. فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه، وإنما يقاس على الأصل الأول، لأن الرجوع إليه أولى، ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة. مثال ذلك أن يقال: يجري الربا في الذرة قياساً على الرز، ويجري في الرز قياساً على البر. فالقياس هكذا غير صحيح، ولكن يقال يجري الربا في الذرة قياساً على البر، ليقاس على أصل ثابت بنص. 3- أن يكون لحكم الأصل علة معلومة ليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها. فإن كان حكم الأصل تعبدياً محضاً لم يصح القياس عليه. مثال ذلك أن يقال: لحم النعامة ينقض الوضوء قياساً على لحم البعير لمشابهتها له. فيقال هذا القياس غير صحيح، لأن حكم الأصل ليس له علة معلومة، وإنما هو تعبدي محض على المشهور. 4- أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع اعتباره، كالإسكار في الخمر. فإن كان المعنى وصفاً طردياً لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به، كالسواد والبياض مثلاً. مثال ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت، قال: ( وكان زوجها عبداً أسود ). فقوله ( أسود ) وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم، ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت لها إذا عتقت تحت حر وإن كان أسود. 5- أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل، كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف. فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس. مثال ذلك أن يقال: العلة في تحريم الربا في كونه مكيلاً، ثم يقال يجري الربا في التفاح قياساً على البر, فهذا القياس غير صحيح، لأن العلة غير موجودة في الفرع، إذ التفاح غير مكيل. أقسام القياس: ينقسم القياس إلى جلي وخفي. 1- فالجلي: ما ثبتت علته بنص أو إجماع، أو كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع. مثال ما ثبتت علته بالنص قياس المنع من الاستجمار بالدم النجس الجاف على المنع من الاستجمار بالروثة، فإن علة حكم الأصل ثابتة بالنص، حيث أتى ابن مسعود t إلى النبي e بحجرين وروثة ليستنجي بهن، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: ( هذا ركس )، والركس النجس. ومثال ما ثبتت علته بالإجماع نهي النبي e أن يقضي القاضي هو غضبان. فقياس منع الحاقن من القضاء على منع الغضبان منه من القياس الجلي لثبوت علة الأصل بالإجماع، وهي تشويش الفكر وانشغال القلب. ومثال ما كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع قياس تحريم إتلاف مال اليتيم باللبس على تحريم إتلافه بالأكل، للقطع بنفي الفارق بينهما. 2- والخفي: ما ثبتت علته باستنباط، ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع. مثاله قياس الأشنان على البر في تحريم الربا بجامع الكيل، فإن التعليل بالكيل لم يثبت بنص ولا إجماع، ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، إذ من الجائز أن يفرق بينهما بأن البر مطعوم بخلاف الأشنان. قياس الشبه: ومن القياس ما يسمى بـ( قياس الشبه ). وهو أن يتردد فرع بين أصلين مختلفي الحكم، وفيه شبه بكل منهما، فيلحق بأكثرهما شبهاً به. مثال ذلك العبد، هل يملك بالتمليك قياساً على الحر أو لا يملك قياساً على البهيمة؟ إذا نظرنا إلى هذين الأصلين: الحر والبهيمة، وجدنا أن العبد متردد بينهما. فمن حيث أنه إنسان عاقل يثاب ويعاقب وينكح ويطلق، يشبه الحر. ومن حيث أنه يباع ويرهن ويوقف ويوهب ويورث ولا يودع ويضمن بالقيمة ويتصرف فيه، يشبه البهيمة. وقد وجدنا أنه من حيث التصرف المالي أكثر شبهاً بالبهيمة، فيلحق بها. وهذا القسم من القياس ضعيف، إذ ليس بينه وبين الأصل علة مناسبة سوى أنه يشبهه في أكثر الأحكام، مع أنه ينازعه أصل آخر. قياس العكس: ومن القياس ما يسمى بـ( قياس العكس ). وهو إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه. ومثلوا لذلك بقوله e ( وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا: ( يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! ) قال: ( أرايتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ). فأثبت النبي e للفرع - وهو الوطء الحلال - نقيض حكم الأصل - وهو الوطء الحرام - لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه، أثبت للفرع أجراً لأنه وطء حلال كما أن في الأصل وزراً لأنه وطء حرام. التعارض تعريفه: التعارض لغة التقابل والتمانع. واصطلاحاً: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر. وأقسام التعارض أربعة: القسم الأول: أن يكون بين دليلين عامين. وله أربع حالات: 1- أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر فيها، فيجب الجمع. مثال ذلك قوله تعالى لنبيه e ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) وقوله: ( إنك لا تهدي من أحببت ). والجمع بينهما: أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق وهذه ثابتة للرسول e، والآية الثانية يراد بها هداية التوفيق للعمل وهذه بيد الله تعالى لا يملكها الرسول e ولا غيره. 2- فإن لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ إن علم التاريخ، فيعمل به دون الأول. مثال ذلك قوله تعالى في الصيام: ( فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم ). فهذه الآية تفيد التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام، وقوله تعالى: ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر ) تفيد تعيين الصيام أداءً في حق غير المريض والمسافر، وقضاءً في حقهما؛ لكنها متأخرة عن الأولى، فتكون ناسخة لها كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما. 3- فإن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح. مثال ذلك قوله e ( من مس ذكره فليتوضأ ) وسئل e عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء؟ قال: ( لا، إنما هو بضعة منك ). فيرجح الأول لأنه أحوط، ولأنه أكثر طرقاً ومصححوه أكثر، ولأنه ناقل عن الأصل ففيه زيادة علم. 4- فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف. ولا يوجد له مثال صحيح. القسم الثاني: أن يكون التعارض بين خاصين. فله أربع حالات أيضاً: 1- أن يمكن الجمع بينهما، فيجب الجمع. مثاله حديث جابر t في صفة حج النبي e أن النبي e صلى الظهر يوم النحر بمكة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي e صلاها بمنى. فيجمع بينهما بأنه صلاها بمكة، ولما خرج إلى منى أعادها بمن فيها من أصحابه. 2- فإن لم يمكن الجمع، فالثاني ناسخ إن علم التاريخ. مثاله قوله تعالى: ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك ) الآية، وقوله تعالى: ( لا يحل لك النساء من بعد ). فالثانية ناسخة للأولى على أحد الأقوال. 3- فإن لم يمكن عمل بالراجح إن كان هناك مرجح. مثاله حديث ميمونة أن النبي e تزوجها وهو حلال، وحديث ابن عباس أن النبي e تزوجها وهو محرم. فالراجح الأول لأن ميمونة صاحبة القصة فهي أدرى بها، ولأن حديثها مؤيد بحديث أبي رافع t أن النبي e تزوجها وهو حلال، قال: ( وكنت الرسول بينهما ). 4- فإن لم يوجد مرجح، وجب التوقف. ولا يوجد له مثال صحيح. القسم الثالث: أن يكون التعارض بين عام وخاص، فيخصص العام بالخاص. مثاله قوله e: ( فيما سقت السماء العشر ) وقوله: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ). فيخصص الأول بالثاني، ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق. القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه. فله ثلاث حالات: 1- أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به. مثاله قوله تعالى: ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن ) وقوله: ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )، فالأولى خاصة في المتوفي عنها عامة في الحامل وغيرها، والثانية خاصة في الحامل عامة في المتوفي عنها وغيرها، لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية، وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي e أن تتزوج. وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواء كانت متوفى عنها أم غيرها. 2- وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح. مثال ذلك قوله e: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) وقوله e: ( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ). فالأول خاص في تحية المسجد عام في الوقت، والثاني خاص في الوقت عام في الصلاة يشمل تحية المسجد وغيرها، لكن الراجح تخصيص عموم الثاني بالأول، فتجوز تحية المسجد في الأوقات المنهي عن عموم الصلاة فيها. وإنما رجحنا ذلك لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد كقضاء المفروضة وإعادة الجماعة فضعف عمومه. 3- وإن لم يقم دليل ولا مرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها. لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح، لأن النصوص لا تتناقض، والرسول e قد بين وبلغ، لكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره، والله أعلم. الترتيب بين الأدلة إذا اتفقت الأدلة السابقة - الكتاب والسنة والإجماع والقياس - على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته، وإن تعارضت وأمكن الجمع وجب الجمع، وإن لم يكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه. وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح. فيرجح من الكتاب والسنة: النص على الظاهر، والظاهر على المؤول، والمنطوق على المفهوم، والمثبت على النافي، والناقل عن الأصل على المبقي عليه لأنه مع الناقل زيادة علم، والعام المحفوظ - وهو الذي لم يخصص - على غير المحفوظ، وما كانت صفات القبول فيه أكثر على ما دونه، وصاحب القصة على غيره. ويقدم من الإجماع: القطعي على الظني. ويقدم من القياس: الجلي على الخفي. المفتي والمستفتي المفتي: هو المخبر عن حكم شرعي. والمستفتي: هو السائل عن حكم شرعي. شروط الفتوى: يشترط لجواز الفتوى شروط، منها: 1- أن يكون المفتي عارفاً بالحكم يقيناً أو ظناً راجحاً، وإلا وجب عليه التوقف. 2- أن يتصور السؤال تصوراً تاماً ليتمكن من الحكم عليه، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فإذا أشكل عليه معنى كلام المستفتي سأله عنه، وإن كان يحتاج إلى تفصيل استفصله أو ذكر التفصيل في الجواب. فإذا سئل عن امرئ هلك عن بنت وأخ وعم شقيق، فليسأل عن الأخ هل هو لأم أو لا؟ أو يفصل في الجواب، فإن كان لأم فلا شيء له والباقي بعد فرض البنت للعم، وإن كان لغير أم فالباقي بعد فرض البنت له ولا شيء للعم. 3- أن يكون هادئ البال ليتمكن من تصور المسألة وتطبيقها على الأدلة الشرعية، فلا يفتي حال انشغال فكره بغضب أو هم أو ملل أو غيرها. ويشترط لوجوب الفتوى شروط، منها: 1- وقوع الحادثة المسؤول عنها، فإن لم تكن واقعة لم تجب الفتوى لعدم الضرورة، إلا أن يكون قصد السائل التعلم فإنه لا يجوز كتم العلم، بل يجيب عنه متى سئل بكل حال. 2- ألا يعلم من حال السائل أن قصده التعنت أو تتبع الرخص أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض أو غير ذلك من المقاصد السيئة، فإن علم ذلك من حال السائل لم تجب الفتوى. 3- ألا يترتب على الفتوى ما هو أكثر منها ضرراً، فإن ترتب عليها ذلك وجب الإمساك عنها دفعاً لأشد المفسدتين بأخفهما. ما يلزم المستفتي: يلزم المستفتي أمران: الأول: أن يريد باستفتائه الحق والعمل به، لا تتبع الرخص وإفحام المفتي وغير ذلك من المقاصد السيئة. الثاني: ألا يستفتي إلا من يعلم - أو يغلب على ظنه - أنه أهل للفتوى، وينبغي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً، وقيل: يجب ذلك. الاجتهاد تعريفه: الاجتهاد لغة بذل الجهد لإدراك أمر شاق واصطلاحاً: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي. والمجتهد من بذل جهده لذلك. شروط الاجتهاد: للاجتهاد شروط، منها: 1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده، كآيات الأحكام وأحاديثها. 2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه، كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك. 3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع، حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع. 4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه، حتى لا يحكم بما يخالف ذلك. 5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ، كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ونحو ذلك، ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات. 6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها. والاجتهاد قد يتجزأ، فيكون في باب واحد من أبواب العلم، أو في مسألة من مسائله. ما يلزم المجتهد: يلزم المجتهد أن يبذل جهده في معرفة الحق ثم يحكم بما ظهر له، فإن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابة الحق، لأن في إصابة الحق إظهاراً له وعملاً به، وإن أخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور له، لقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ). وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف، وجاز التقليد حينئذ لضرورة. التقليد تعريفه: التقليد لغة وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة. واصطلاحاً: اتباع من ليس قوله حجة. فخرج بقولنا ( من ليس قوله حجة ) اتباع النبي e واتباع أهل الإجماع واتباع الصحابي - إذا قلنا أن قوله حجة - فلا يسمى اتباع شيء من ذلك تقليداً، لأنه اتباع للحجة، لكن قد يسمى تقليداً على وجه المجاز والتوسع. مواضع التقليد: يكون التقليد في موضعين: الأول: أن يكون المقلد عامياً لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه ففرضه التقليد، لقوله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ). ويقلد أفضل من يجده علماً وورعاً. فإن تساوى عنده اثنان خير بينهما. الثاني: أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها فيجوز له التقليد حينئذ. واشترط بعضهم لجواز التقليد ألا تكون المسألة من أصول الدين التي يجب اعتقادها، لأن العقائد يجب الجزم فيها، والتقليد إنما يفيد الظن فقط. والراجح أن ذلك ليس بشرط، لعموم قوله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )، والآية في سياق إثبات الرسالة وهو من أصول الدين. ولأن العامي لا يتمكن من معرفة الحق بأدلته، فإذا تعذر عليه معرفة الحق بنفسه لم يبق إلا التقليد، لقوله تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ). أنواع التقليد: التقليد نوعان: عام وخاص: 1- فالعام: أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصة وعزائمه في جميع أمور دينه. وقد اختلف العلماء فيه. فمنهم من حكى وجوبه لتعذر الاجتهاد في المتأخرين. ومنهم من حكى تحريمه لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي e. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( إن في القول بالوجوب: طاعة غير النبي e في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع، وجوازه فيه ما فيه ). وقال: ( من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ولا عذر شرعي يقتضي حل ما فعله، فهو متبع لهواه فاعل للمحرم بغير عذر شرعي، وهذا منكر. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز - بل يجب - وقد نص الإمام أحمد على ذلك ). 2- والخاص: أن يأخذ بقول معين في قضية معينة، فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد، سواء عجز عجزاً حقيقياً أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة. فتوى المقلد: قال الله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وأهل الذكر هم أهل العلم، والمقلد ليس من أهل العلم المتبوعين، وإنما هو تابع لغيره. قال أبو عمر بن عبد البر وغيره: ( أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله ). قال ابن القيم: ( وهذا كما قال أبو عمر، فإن الناس لا يختلفون في أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن دليل. وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد ). ثم حكى ابن القيم بعد ذلك في جواز الفتوى بالتقليد ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام. وهذا قول أكثر الأصحاب وجمهور الشافعية. الثاني: أن ذلك جائز فيما يتعلق بنفسه، ولا يجوز أن يقلد فيما يفتي به غيره. الثالث: أن ذلك جائز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلامه. وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه المذكرة الوجيزة. نسأل الله أن يلهمنا الرشد في القول والعمل وأن يكلل أعمالنا بالنجاح إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله. |
|
جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة شرفها الله. الساعة الآن: 02:58 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.7.3, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لكل مسلم بشرط الإشارة إلى منتديات الشعر السلفي