بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيكم و لكم مني أجمل تحية .
قال أبو عبد الله محشيا على ما قاله شيخ الشعراء أبو رواحة معلقا :
يردي عدى المختار لا يتصـرم *** علا الإلـه مَـقامـه بنوالـه
قلتُ ( أي أبو رواحة ):
إن كنتَ أردت بـ "علا " بمعنى رفع فهي بتشديد اللام , وإن كنت أردت بها أعلا فقد سقطت الهمزة
قال أبو عبد الله :
بل مرادي (علا) بمعنى رفع ؛ وسياق القصيدة يدل عليه ؛ إذ القصد افتتاح كل شطر ثان بحروف اسمك وهنا دور العين من اسمك ( ا ل ش ا "[ع]" ر أ ب و ...) ...
آمين قولوا ملء فيكـم تنعموا *** راجيـن شكـر الله فـي آلائه
قلت ( أي أبو رواحة ) :
وهل للشعراء فم على الحقيقة واحد ؟!!!! ولكن في غير الحقيقة سائغ .
قال أبو عبد الله بلال :
الحقيقة هي ما تبادر ابتداءا إلى الذهن وغلب على السمع وذلك الظاهر المراد ؛ وقد ورد من كلام الله جل وعلا ما يصلح شاهدا على ما سقته ؛ وكذلك من كلام العرب الفصيحة ؛ ومن ذلك ما ساقه صاحب الدر المصون في محفل تفسيره لقوله تعالى :"خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" ؛ حين وجه ورود السمع مفردا بكونه مصدرا أو تكنية عن الأذن ؛ وجاء لذلك بشواهد منها قول الشاعر :
كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم ، وَمثلُه :
لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي : جلودها ، ومثله :
لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا
وقد يكون صوابا ما ذهب إليه شيخ الشعراء وصاحب الدر لولم ترد قراءة آحاد للآية بلفظ الجمع : "على أسماعِهم" ؛ وكذلك مجيء قوله تعالى في سياق شبيه بجمع الجلد مع أن صاحب الدر ذكر شواهدا فيها الجلد مفردا مع أن حقه - على رأيه - الجمع ؛ وذلك كقوله تعالى :"حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ؛ ومن كل هذا يعلم أن التعبير في مثل هذه المواضع بالحقيقة وعدمها غير موافق للحقيقة ؛ ونحن لنا أن نعبر بما عبر به الله ورسوله وفصحاء العرب ممن يستشهد بكلامهم ؛
وأن الظاهر المتبادر هو المراد مع ما يحوم به من قرائن ؛ وذلك أننا لو قلنا مثلا أن السمع هو الحقيقة لأنه مصدر فهل نقول أن الأسماع في الرواية الآحاد غير حقيقة ؛ أو أن الجلد إذا أفرد في سياق الجمع غير حقيقة فماذ نفعل مع الشاهد والآية ؛ ولذلك فالحق هو ترك التعبير بالحقيقة إلى قولنا : الغالب والظاهر ...
وزد على ذلك أن قصدي اجتماع كلمة السلفيين وأنهم يصدرون عن قلب رجل واحد وفهم واحد وشعور واحد لا فرقة بينهم ولا خلاف إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ...
الشعـر منـه ملامـة فتنـدم *** بـل منـه كفـر ظاهر ومشابه
قلت ( أي أبو رواحة ) :
هنا إقواء وهو اختلاف حركة الروي في قولك : ومشابهُ , إذ حقه الرفع تبعاً للمرفوع "كفرٌ ظاهرٌ" لأن القافيه كلها بكسر الهاء
قال أبو عبد الله بلال :
وأظنه ( ... مع ابتسامة باردة ... ) مما قال فيه الخليل ونقله عنه قدامة وغيره :
"لعلك إما أم عمرو تبدلت ... سواك خليلاً شاتمي تستخيرها
وهذا مزاحف في كاف سواك ومن أنشده خليلاً سواك كان أشنع.
قال: وكان الخليل بن أحمد رحمه الله يستحسنه في الشعر، إذا قل البيت أو البيتان، فإذا توالى وكثر في القصيدة سمج.
قال إسحاق: فإن قيل: كيف يستحسن منه شيئاً وقد قيل هو عيب؟ قيل: هذا مثل الحول والقبل واللثغ في الجارية، قد يشتهي القليل نمه الخفيف، وهو إن كثر هجن وسمج، والوضح في الخيل يشتهي ويستظرف خفيفه، مثل الغرة والتحجيل، فإذا فشا وكثر، كان هجنة ووهناً.
قال: وخفيف البلق يحتمل في الخيل، ولم أر أبلق قط، ولم أسمع به سابقاً.".
وقد ذكر قدامة في السياق أن الإقواء لا يجوز لغير الفحول من المولدين ؛ وقد رد ادعاءه هذا غير واحد على أن ما جاز للفحول جاز لغيرهم وما كان ضرورة عند أمثال : عبيد الله بن الحر ؛ و : سحيم بن وثيل الرياحي ؛ و لحقهم جرير من الإسلاميين ؛ كان كذلك ضرورة عند من تأسى بهم واستشهد بشعرهم ممن جاء بعدهم .
رسـم الشريعـة للقريض يقوم *** يا أيـها السَّلفـي خـذ بقيامه
قلت ( أي أبو رواحة ) :
لو قلتَ مقوِّماً كان أجمل , حتى تقف على ساكن , وأرجو أن تلاحظ ذلك في سائر صدور أبياتك مع مقارنة ذلك بالقصائد العربية , فهو من الملاحظات العامة التي تعطي الأبيات قوة .
كما ان قولك بقيامه : كان حقه الصرفي أن تقول بتقويمه , ولكن ألجأتك القافية !!!
قال أبو عبد الله :
بلى لم تلجئني القافية بل مرادي في الأولى ( أي يقوم أو مقوم ) قوله تعالى :" وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا " ؛ و في الثانية ( أي قيامه ) قوله تعالى :" جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ " وقد أوردت شرحهما في الطرة ...
و ختاما أقول لشيخنا الفحل أبي رواحة الموري ولأخينا المفضال أبي عبد الرحمن العكرمي :
جزاكما الله خيرا على ما جدتما به من فوائد ودرر ولا عدمناكما يا إخوان الصدق والديانة فيما نحسبكم والله حسيبكم ...