موقف السلف الصالح من النمام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد :
فإن من أسوأ ما يُبتلى به الإنسان من رذائل الأخلاق وقبيح الصفات : النميمة , وهي الوشاية بين الناس , ونقل القيل والقال بقصد الإفساد بينهم , ولما كانت النميمةُ نجاسةً في الأخلاق , فقد قُرنتْ بالنجاسة في البدن , وذلك في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ : ( إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ) الحديث , وهو متفق على صحته .
وأخرجه الحافظ ابن حبان في صحيحه ( 3/106 الرسالة ) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَمَرَرْنَا عَلَى قَبْرَيْنِ ، فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ ، فَجَعَلَ لَوْنَهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَ كُمُّ قَمِيصِهِ ، فَقُلْنَا : مَا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : ( أَمَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ ؟ ) فَقُلْنَا : وَمَا ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( هَذَانِ رَجُلانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ ) قُلْنَا : فِيمَ ذَاكَ ؟ قَالَ : ( كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَكَانَ الآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ ) الحديث , قال محقق الكتاب : إسناده صحيح .
قال العلامة السفاريني : وَقَدْ أَبْدَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ نُكْتَةَ ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّا يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ عَلَى صَفَحَاتِ الْقُلُوبِ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْضِي فِيهِ الْحَقُّ جَلَّ جَلالُهُ الصَّلاةُ وَالدِّمَاءُ .
وَالطَّهَارَةُ أَقْوَى شُرُوطِ الصَّلاةِ وَمُقَدِّمَتُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَتَنَزَّهْ مِنْ الْبَوْلِ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْ مِنْهُ فَقَدْ فَرَّطَ فِي شَرْطِ الصَّلاةِ .
وَسَبَبُ وُقُوعِ النَّاسِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِرَاقَتِهَا بِغَيْرِ حَقِّ : الْعَدَاوَةُ ، وَمُقَدِّمَتُهَا النَّمِيمَةُ ، فَإِنَّهَا سَبَبُ الْعَدَاوَةِ ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ مُقَدِّمَةُ عَذَابِ النَّارِ ، فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُقَدِّمَاتِ أَوَّلا .
فَانْظُرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ وَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا . ا.هـ ( غذاء الألباب 1/112 )
قلت : وجزاء النمام يوم القيامة هو ما جاء في الحديث عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عِنْهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنُمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ ) متفق عليه ولفظه لمسلم .
وهذه العقوبة الشديدة في الآخرة مع ما يناله النمام من عذاب في قبره والعياذ بالله , من أجل ما في النميمة من آثار سيئة وعواقب مدمرة على الأفراد والمجتمعات , ففي ( الزهد ) لهناد بن السَّري عن عطاء بن السائب قال : قدمت من مكة , فلقيني الشعبي فقال لي يا أبا زيد أطرفنا ما سمعت قال قلت : لا إلا أني سمعت عبدالرحمن بن عبدالله بن سابط يقول : لا يسكن مكة سافك دم , ولاآكل ربا , ولا مشاء بنميم . قال : فعجبت منه حين عدل النميمة بسفك الدم وأكل الربا . قال فقال الشعبي : وما تعجب من ذلك وهل تُسفك الدماء وتُستحل المحارم إلا بالنميمة .
قال يحيى بن أبى كثير : يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر.
ذَكَرَه المقدسي في ( مختصر منهاج القاصدين ) وذَكَرَ له قصةً شاهدةً عليه فقال : وقد حكى أن رجلا ساوم بعبد، فقال مولاه : إني أبرأ منك من النميمة والكذب، ( يعني أن هذا العبد كذاب ونمام ) فقال : نعم، أنت برئ منهما، فاشتراه . فجعل يقول لمولاه إن امرأتك تبغي وتفعل، وإنها تريد أن تقتلك، ويقول للمرأة : إن زوجك يريد أن يتزوج عليك ويتسرى، فان أردت أن أعطفه عليك، فلا يتزوج ولا يتسرى، فخذ الموسى واحلقي شعرة من حلقه إذا نام ، وقال للزوج : إنها تريد أن تقتلك إذا نمت . قال فذهب ( أي الزوج ) فتناوم لها، فجاءت بموسى لتحلق شعرة من حلقه، فأخذ بيدها فقتلها، فجاء أهلها فاستعدوا عليه فقتلوه .ا.هـ
هذه هي خاتمة النميمة !
قال ابن حزم في ( طوق الحمامة ) : وما في جميع الناس شرٌ من الوشاة ، وهم النمامون ، وإن النميمة لطبعٌ يدل على نتن الأصل ، ورداءة الفرع ، وفساد الطبع ، وخبث النشأة ، ولابد لصاحبه من الكذب ؛ والنميمة فرع من فروع الكذب ونوع من أنواعه ، وكل نمام كذاب ، وما أحببت كذاباً قط ، وإني لأسامح في إخاء كلِّ ذي عيب وإن كان عظيماً ، وأَكِلُ أمره إلى خالقه عز وجل ، وآخذ ما ظهر من أخلاقه حاشا من أعلمه يكذب ، فهو عندي ماحٍ لكل محاسنه ، وذلك لأن كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه وكل ذام فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه ، حاشا الكذب فلا سبيل إلى الرجعة عنه ولا إلى كتمانه حيث كان . وما رأيت قط ولا أخبرني من رأى كذاباً ترك الكذب ولم يعد إليه ، ولا بدأتُ قط بقطيعة ذي معرفة إلا أن أطلع له على الكذب ، فحينئذ أكون أنا القاصد إلى مجانبته والمتعرض لمتاركته ، وهي سمة ما رأيتها قط في أحد إلا وهو مزنون إليه بِشَرٍّ في نفسه ، مغموز عليه لعاهة سوء في ذاته ، نعود بالله من الخذلان . ا.هـ
فينبغي لمن نُقلت إليه نميمة أن يتعامل معها التعامل الشرعي الصحيح , كما بيَّنه صاحب ( مختصر منهاج القاصدين ) رحمه الله فقال : وكل من نقلت إليه النميمة، مثل أن يقال له : قال فيك فلان كذا وكذا , أو فعل في حقك كذا، ونحو ذلك ؛ فعليه ستة أشياء :
الأول : أن لا يصدق الناقل، لأن النمام فاسق مردود الشهادة .
الثانى : أن ينهاه عن ذلك وينصحه .
الثالث أن يبغضه في الله، فإنه بغيض عند الله .
الرابع : أن لا يظن بأخيه الغائب السوء .
الخامس : أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث، لقوله تعالى : { ولاتجسسوا } [ الحجرات 12 ]
السادس : أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكى نميمته .
ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل : بلغني أنك وقعت فىَّ، وقلت كذا وكذا . فقال الرجل : ما فعلتُ، فقال سليمان : إن الذي أخبرني صادق . فقال الرجل : لا يكون النمامُ صادقاً . فقال سليمان : صدقتَ، اذهب بسلام .
أما موقف السلف الصالح من صاحب النميمة والوشاية بين الناس والتفريق بين الأحبة فيتجلَّى في هذا الموقف من التابعي الجليل وهب بن منبِّه رحمه الله ,
قال أبو نعيم في ( الحلية 4/71 ) : حدثنا محمد بن علي ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة ثنا نوح بن حبيب ثنا عنبر مولى الفضل بن أبي عياش قال : كنت جالسا مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال إني مررت بفلان وهو يشتمك . فغضب , فقال : ما وجد الشيطان رسولا غيرك ! فما برحتُ من عنده حتى جاءه ذلك الرجلُ الشاتمُ فسلم على وهب فرد عليه ومد يده وصافحه وأجلسه الى جنبه .
قلت : هكذا فلتكن الأخلاق !
وكتبه / عبدالحميد بن خليوي الجهني
ليلة الثلاثاء 14/ شوال / 1429 هـ
محافظة ينبع _ المملكة العربية السعودية _ أعَزَّها الله بالتوحيد والسنة .