في هذا نبذة صغيرة عن حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وكيف طلب العلم؛ مع ذكر بعض مشايخه، وكذلك رحلته إلى الحج وذكر ما لاقى فيها من الصعاب، ومن لقي فيها من الطلبة والعلماء، وبيان لمناقشات ومباحثات في سفره مع بعض العلماء والطلبة أثناء رحلته إلى الحج. وقد تحدث الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله عن دور الشيخ العلمي في السعودية وتدريسه للتفسير واللغة والأصول.
الشنقيطي وطلبه للعلم وبعض مشايخه:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فأما هذا العلامة فقد تقدم أن اسمه: محمد الأمين فاسمه مركب: الأمين اسمه و محمد أضيفت، كما كان العامة يضيفون للبركة، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح ، من أولاد الطالب هوبك ، وهذا من قبيلة جكن الأبرجد، وهي القبيلة الكبيرة المعروفة المشهورة بالجكنين، ويرجع نسبهم إلى حمير. وقد ولد رحمه الله تعالى سنة (1325) هـ عند ماء يسمى تنبة، من أعمال مديرية كيفا من القطر المسمى شنقيط في دولة موريتانيا المعروفة الآن، ونشأ رحمه الله يتيماً.
الشنقيطي يبدأ بحفظ القرآن:
قال: توفي والدي وأنا صغير، أقرأ في جزء عم، وترك لي ثروة من الحيوان والمال، وكانت سكناي في بيت أخوالي -وأمي بنت عم أبي- وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم ، حفظ القرآن وعمره عشر سنوات رحمه الله تعالى، وتعلم رسم المصحف العثماني عن ابن خاله وقرأ عليه التجويد، لقراءة نافع ، برواية ورش وكذلك قالون ، وأخذ عنه بذلك سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره ست عشرة سنة، ودرس القرآن منهجاً متكاملاً، بما في ذلك رسمه ونوع كتابته، وضبط المتشابه في الرسم والتلاوة، وحفظ في ذلك السن بعض الأراجيز المتعلقة بهذا الفن والعلم، وكذلك درس مختصرات في فقه الإمام مالك رحمه الله كرجز الشيخ ابن عاشر ، وأخذ مبادئ النحو الآجرومية، وتمرينات واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية، أخذها عن أمه، فكانت أمه إذاً عندها علم واضح بهذا، وهذا كثير عند الشناقطة الاهتمام باللغة العربية، وحفظ المنظومات في هذا، وكذلك في الأصول أخذ نظم الغزوات لـأحمد البدوي الشنقيطي يزيد على خمسمائة بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بـحماد ، و نظم عمود النسب للمؤلف وهو يُعد بالآلاف، ودرس أشياء في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ. هذا فقط في محيط الأقارب من أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله، وكذلك درس بقية الفنون، مثل الفقه المالكي على الشيخ محمد بن صالح ، قسم العبادات، ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك رحمه الله، ودرس على عدد من العلماء الشناقطة الجكنين، كالشيخ محمد بن صالح المشهور بـابن أحمد الأفرم ، والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار والشيخ العلامة أحمد بن عمر وغيرهم. قال: وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون، النحو والصرف والأصول والبلاغة، وبعض التفسير والحديث، وأما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة، وكانت طريقة التدريس أن يأتي بعض المشايخ أو بعض العلماء في البوادي يحلون بها، ويتوافد عليهم الطلاب في خيام أو في مبانٍ بدائية تعد لهذا الغرض، وكان الشيخ يُعرف بالمرابط الذي يأتي ويدرس، ولا يأخذ مالاً بل إن كان لديه مال وزعه على الطلبة وأعطاهم، وكانت طريقتهم أنه لا يحق للطالب لديهم أن يجمع بين فنين في وقت واحد، بل يدرس فناً حتى يكمله، كالنحو مثلاً ثم يبدأ في البلاغة، وهكذا، ويبدأ في الفقه ثم بعد ذلك يثني بالأصول ونحو ذلك. يكتب الطالب في لوح خشبي قد لا يستطيع حفظه ثم يمحوه ثم يكتب قدراً آخر حتى يتم المقرر في الفن، مثل: الألفية في النحو يكتبها أبياتاً حتى يحفظها، ويمحو ويكتب الأبيات التي بعدها وهكذا، فإذا حفظ المتن تقدم للدراسة على الشيخ، يشرحه لهم، في مجالس شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل، وليس العادة أن يفتح الشيخ كتباً عندهم، وبعد ذلك يراجعون ما أخذوه عن الشيخ ويستذكرونه ويناقشونه، ويقابلونه لكي يتأكدوا من ضبط ما أخذوه.
رحلة الشنقيطي في طلب العلم:
وكان الشنقيطي -رحمه الله- في أول أمره وهو في سن الطفولة ميالاً للهو واللعب كغيره من الأطفال، قال: كنت أميل للهو واللعب أكثر من الدارسة حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدءوا يقرءونني إياها بالحركات، بَ فتحة، بِ كسرة، بُ ضمة، وهكذا التاء والثاء، فقلت لهم: أو كل الحروف هكذا؟ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، فتركوني فقرأتها، قال: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران، عنيت بي والدتي وأخوالي أشد العناية، وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي، وترغيباً لي في طلب العلم ... إلى أن قال: هكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل. فإذاً الدرس العظيم الذي نأخذه من هذه القصة، أن تنشئة الأطفال على طلب العلم وإظهار الفرح بهم إذا حفظوا شيئاً أو نبغوا في شيء، وإعطائهم من الدنيا والأعطيات والهدايا والملابس الجميلة ونحو ذلك، وبيان قدرهم ورفعة شأنهم من الأشياء التي تحمس الولد على الطلب، وهكذا كانوا يعتنون به ولا شك أن مثل هذه الأم في هذه العناية تخرج مثل الشنقيطي رحمه الله تعالى. وبعد ذلك سار في هذا المركب، يطوف على أهل العلم في القرى التي حوله يحصل ويجلس إليهم، وقال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني من أكون في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلاً:
هذا فتى من بني جكان قد نزلا * * * به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة العلياء نحوكـم * * * إذ شام برق علـوم نـوره اشتعـلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه * * * تكسو لسان الفتـى أزهـاره حـللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحـو ثم أبى * * * ألا يميز شكل العين من فعلا
وقلنا: عين الفعل من أكثر المشكلات في دراسة اللغة العربية، وما هي التغيرات التي تطرأ على عين الفعل، وأنواع الأفعال بالنسبة لعين الفعل، قال:
وقد أتى اليوم صَبّاً مولعاً كلفاً فالحمد لله لا أبغي له بدلا
وهذا إشارة إلى قصيدة لامية الأفعال، المبدوءة بالحمد لله، وقصد بقوله شكل العين دارسة قصيدة لامية الأفعال على هذا الشيخ، ولما لُوحِظت نجابته أذن له مشايخه بأن يقرن بين كل فنين -مع أن العادة عندهم عندما يبدأ الطالب لا يجمع أكثر من فن واحد- تفرساً فيه، وحرصاً على سرعة تحصيله، فانصرف بهمة عالية.
الزواج في حياة الشنقيطي:
قال: ومما قلت في شأن طلب العلم وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم، دائماً اشتغالي به عن التزويج؛ لأنه ربما عاقني عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغبن في زواجي ويطمعن فيه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال أيست مني. كانت امرأة تريد أن تتزوج منه، لكنها يئست منه؛ لأنه كان في الطلب طويل الباع. فتزوجت ببعض الأغنياء وقال لي بعض الأصدقاء: إن لم تتزوج الآن، من تصلح لك؟ تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال ولم تجد من يصلح لمثلك، يريد أن يصرفني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات:
دعاني الناصحون إلى النكاح * * * غداة تزوجت بيض المـلاح
فقـالوا لـي تـزوج ذات دل * * * خلوف اللخط حائلة والوشاح
ضحوكاً عن مؤشـرة رقـاق* * * تمج الـراح بالماء القـراح
ثم قال:
فقلت لهم دعوني إن قلـبي * * * من الغي الصراح اليوم صـاح
ولي شغل بأبكار عـذارى * * * كأن وجوهها غـرر الصبـاح
أراها في المهالك لابسـات * * * براقع من معانيـها الصـحاح
أبيت مفكراً فيها فتضـحى * * * لفهم الفـدم خافـضة الجنـاح
أبحت حريمها جبراً عليها * * *وما كـان الحـريم بمسـتباح
يقصد مسائل العلم، وأنه قد صار مغرماً بها وأنه اشتغل بها عن النساء، وكما قلنا بأن الشنقيطي رحمه الله لم يكن مُتعبداً بترك الزواج، ولم يكن راغباً عنه مخالفةً للسنة، وهو يعلم أن الزواج سنة المرسلين وتزوج وأنجب أولاداً بعد ذلك، ولكن حيثُ أنه لم يكن ممن يجب عليه الزواج، فإنه لم يُسارع إليه، وإلا لو كان يُخشى على الإنسان من الشهوة أو يخشى على نفسه الحرام ويخشى على نفسه العنت فإنه يجب عليه أن يتزوج حالاً، وذكر نص العلماء في كتب النكاح من كتبهم الفقهية، في أوائل كتاب النكاح في كتب الفقه تجد أحكام النكاح الخمسة، يذكرها بعضهم ومنها: الوجوب، وأنه إذا لم يكن له طريق لتحصين نفسه من الزنا إلا بالنكاح، فيجب عليه أن يتزوج. وإذا كان ذا شهوة ويصبر ويضبط نفسه، فيستحب له أن يتزوج، وكذلك المرأة، قالوا: إن كانت محتاجة إلى النفقة وإن كانت تواقة إلى الرجل، وإن كانت تخشى على نفسها من دخول واقتحام الفجرة عليها، فيجب عليها أن تتزوج. المرأة ماذا تفعل؟ تخلي بين الزوج المتقدم وبين النكاح، أي: لا تمتنع، فهي لا تستطيع أن تطوف وتقول: تزوجوني أيها الرجال، لكن ماذا تفعل؟ ما الحل بالنسبة للمرأة؟ إذا وجب عليها النكاح، ألا تمنع من يتقدم إليها، ولا تمتنع عمن يتقدم إليها إن كان ذا خلقٍ ودين. وبرز الشنقيطي رحمه الله بعلمه مبكراً، فصار يُدرس ويُستفتى ويستقضى ويطلب قضاؤه، ويُرحل إليه في هذا، وصارت أخبار نجابته شائعةً ذائعةً في القطر الموريتاني.
الشنقيطي وطريقته في القضاء:
اشتغل بالتدريس والفتيا عند خروجه من مسقط رأسه للحج، حيث وجد أرضاً متعطشة للعلم، ولذلك أفتى ودرس وحكم في طريق رحلته إلى الحج ماراً بقرية كيفا في موريتانيا ، و تامشقط و العيون و النعمة وغيرها. وكان مروره في هذه القرى على بعير ثم باعه في قرية النعمة وركب السيارة، وقلنا: لعله أراد بذلك الاستعجال لإدراك موسم الحج قبل فواته، فالرحلة كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى يصل إلى مكة ، وأكمل الطريق إلى قرية فاوى مروراً ببلد بنيامي عاصمة النيجر الفرنساوية في ذلك الوقت، وقرية الجنينة ، وبلدة أندرمان في السودان ، وسيأتي ذكر بعض فوائد هذه الرحلة العظيمة جداً في رحلة الشنقيطي رحمه الله في الحج، وهذا مؤلف مستقل رحلة الحج للشنقيطي رحمه الله. وطريقته في القضاء أنه إذا أتاه الطرفان استكتب رغبتهما في التقاضي أولاً حتى يذعنا للحكم، يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه في أسفل كتابة الدعوى، ثم يكتب الحكم مع الدعوة والإجابة، ويقول لهما: اذهبا إلى من شئتم من المشايخ أو الحكام أي: القضاة، فلا تأتي هذه العريضة واحداً من المشايخ إلا أقرها وصدق عليها عندما يرى قضاء الشنقيطي وحكمه فيها رحمه الله. وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، من ورعه رحمه الله، وقد كُونت لجنة بمسمى لجنة الدماء وطُلب من الشيخ الشنقيطي أن يكون فيها، فكان أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره رحمه الله. ألف في صغره كتاباً أو نظماً في أنساب العرب قبل البلوغ، قال في أوله:
سميته بخالص الجمـان * * * في ذكر أنساب بني عدنان
قبل البلوغ، إن أولادنا الآن يلعبون بالأتاري، وبعد البلوغ يلعبون بالأتاري أيضاً، أما الشنقيطي فكان يؤلف نظماً في أنساب العرب، ولكنه بعد البلوغ دفنه، وقال: لأنه كان على نية التفوق على الأقران، لم يكتبه بنية خالصة، وقد لامه بعض المشايخ على دفنه، وقالوا: كان من الممكن تحويل النية وتحسينها، لكنه لم يفعل ذلك، وكتب رجزاً في فروع مذهب مالك ، يختص بالعقود من البيوع والرهون يبلغ آلافاً متعددة، يقول فيها:
الحمد لله الـذي قـد ندبا * * * لأن نميز البيع عن نفس الربا
ومنـى بالمـؤلـفيـن كتبـا* * * تطرد أطواد الجهالة هـبا
تكشف عن عين الفؤاد الحجبا * * * إذا حجاب دون علم ضربا
أشار رحمه الله إلى هذا النظم في مصنفه في التفسير، وفي قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:276] وعلق ما نصه: وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة، في نظم لي طويل في فروع مالك ، بقولي:
وكل ما يـذاق مـن طعـام * * * ربا النسي فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف * * * ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وكذلك كما قلنا: إن مسائل الأطعمة من المسائل التي اختلف العلماء في علة الربا فيها، الآن الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، إذا زاد أو لم يحدث تقابض فهو ربا، وكذلك التمر بالتمر، صاع بصاعين ربا، القمح بالقمح والشعير بالشعير والملح بالملح. بقية المطعومات وبقية الأشياء، والرز لم يذكر في الحديث، هل يقاس عليها أم لا؟ وهذه الأشياء كالزبيب والأشياء الأخرى التي لم تذكر مثل اللحوم، هل يجري فيها الربا أم لا؟ وغير ذلك من الثمار ونحوها ما هو الضابط، إذا بعت كيلوين بكيلو هل يصير ربا؟ ما هو الضابط؟ ما هي حدود الأشياء التي يجري فيها الربا؟ قيل الطعام. وقال بعضهم: العلة الوزن، إذا كانت الأطعمة توزن، أما إذا كانت معدودة كتفاحتين بتفاحة، مثلاً فلا بأس وهكذا. والآن صارت بعض الأشياء توزن، وبعض الأشياء كانت تباع بالعدد، البيض مثلاً أو التفاح تباع بالعدد، الآن يباع بالوزن، فهل الآن لما صار الناس يجرون على الوزن تغيرت المسألة الأولى؟ هذه مسألة عويصة فيها نقاش طويل، فقال في المنظومة:
وكل ما يـذاق مـن طعـام * * * ربا النسي فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف * * * ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن لم يكن يطـعم للـدواء * * * مجرداً فالمـنع ذو انتـفاء
إلى آخر الكلام، فكانت هذه إشارة إلى هذه المسألة، المقصود أنه ألف نظماً في هذا، ثم ألف نظماً في الفرائض :
أولها تركة الميت بعد الخـامس * * * بخمسة محصورة عن سادس
وحصرها في الخمس بالاستقراء * * *وانبذ لحصر العقل بالعـراء
إلى آخر القصيدة، وكذلك فإنه رحمه الله تعالى قد ألف منظومات أخرى، ولما عزم على الحج ركب في رحلته المشهورة الزاخرة إلى الحج بأنواع المحاضرات والدروس، والمناظرات، والنكت الأدبية، والعلمية، والفوائد والشروحات التي حصلت وكتابة الفتاوى، وكتابة القضايا، رحمه الله تعالى.
الشنقيطي وخروجه لأداء حج بيت الله:
بدأ الرحلة في السابع من شهر جمادى الآخرة، وحط عصا الترحال في العشر الأوائل من ذي الحجة من نفس العام، وصل على الموسم رحمه الله، وكان الباعث على الخروج كما بين قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] لا قول عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنياً أو أقمت لها * * *ماذا أخذت بترك الحج من ثمن
ثم قال: اعلم أنا خرجنا من عند أهلنا بجانب الوادي والبطاح والمياه والنخيل وودعنا كل قريب وخليل، والبين يولج في القلوب الداء الدخيل، فترى ورد الخدود يطله جمود الدموع، والأعين تنكر السنة والهجوع، ماء العيون في الجفن حائر حسبما قال الشاعر:
ومما قد شجاني أنها يوم ودعت * * *ولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعـيد بنظـرة * * * إلي التفاتاً أسلمـته المحـاجـر
وخرج لسبع مضين من جمادى الآخرة في سنة (1367) هـ، يقول: وكان يوم خروجي لهذه القاعدة الكبيرة لسبع مضين لجمادى الآخرة، ومن سنة (1367) هـ أمننا الله مما نخشاه من الأمام والخلف.
وصول الشنقيطي إلى كيفا:
فخرجنا من بيتنا يصحبنا بعض تلامذتنا إلى قرية اسمها كيفا فوصلناها في مدة خفيفة، والجمال تسعى بنا في الأودية والرمال، وفي مدة إقامتنا في كيفا ، سألتنا كريمة من بنات العم وهي أم الخيرات عن مسألتين فيما يحيك في النفس من عدم الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، انظر هذه من النساء تسأل في مسألة لا نعرف معناها، فضلاً عن الراجح فيها، وما هي الأقوال فيها ونحو ذلك. فأجاب رحمه الله في أربع صفحات وعن السؤال الثاني في صفحة ونصف، قال: ثم ارتحلنا من كيفا عشية بعد أن توادعنا مع من يعز علينا، يُشيعنا فلان وفلان، فمررنا في الطريق بـأم البوادي أم الخز ، ونزلنا عند حي من قبيلة الأقيال اسمها حلة أهل الطالب جدة ، فأحسنوا إلينا غاية الإحسان، ومن جملة من زارنا عالم ذلك الحي ومفتيه، الشيخ الأستاذ محمد فال بن أحمد نوح ، فسألنا عن قول الأخضري في سلمه -في كلامه- على القياس الاستثنائي، وذكر البيت وجوابه عن القياس الاستثنائي، وبعد ذلك تابع المسيرة، قال: فصلنا عند قرية تامشقط عند صلاة المغرب، فزارنا جُل من فيها من الأكابر والعلماء، وعاملونا معاملة الكرماء، وذكر الذين نزلوا عنده صاحب البيت، وفلان و فلان، ودارت المذاكرة في البيت، والسؤال عن مسألتين فذكرهما، ومنهما تحقيق الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، فأجاب عن ذلك في ثلاث صحائف، الأولى والثانية في صحيفة. ثم قال: ثم ذهبنا من قرية تامشقط قبيل غروب الشمس، ونحن على جمالنا في أخريات جمادى الآخرة، وشيعنا جّل من فيها من الأكابر وودعونا وقدم لنا وقت الوداع العالم الأديب الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن جدة بن خليفة القلاوي أبياتاً:
مني إلى المعهود ذي الفتح الجلي * * * درع الكماة إذا التقت في الجحفل
مباحثات علمية في قرية العيون وتمبدرة:
وذكر قصيدة في مدحه، مشوا وارتحلوا إلى قرية العيون وإلى تمبدرة ، وإلى تنبتقة ، وهكذا وصلوا إلى ذلك المكان في شهر الله رجب الفرد، قال: في هذه المسألة فتذكرت كل ما مر بي من اسم. أحياناً يمر بأسماء بلدان، فيذكر أبياتاً شعرية ورد فيها هذا الاسم دليلاً على سعة حفظه للشواهد الشعرية والأبيات بشكل عجيب جداً، ربما لا يُعرف له مثيل في عصرنا، لما وصل قال: وصلناها في شهر الله رجب الفرد، تذكرت قول مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني:
ما مر بي رجب إلا نعمت به * * * يا حبذا رجب لو دام لي رجب
وحصل هناك مباحثات أيضاً لما نزلوا في ذلك المكان، وكانت من المسائل التي نوقشت النص الفلاني منسوخ بالإجماع، ما حكم قول هذا؟ ودخلوا في مسألة الإجماع، لا يجوز النسخ به شرعاً أم لا؟ وأجاب عن ذلك ودارت مناقشة في مسألة هل يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لا يجوز الجمع بين الأختين من الحرائر في الزواج من حرائر، أما ملك اليمين إذا اشتريت إماء، هل يجوز أن تشتري أمة وأختها، أم لا؟ هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يشمل قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23] عموم يدخل في الإماء أو لا يدخل؟ أجاب عنها بسبع صفحات رحمه الله تعالى، وذكر مناقشات حصلت في فروع مذهب مالك رحمه الله. ومن المسائل: هل يجوز السلم في الكاغد المتعامل به في فلوس النحاس؟ لأن هناك عُملات ورقية وعُملات معدنية، فأجاب عن ذلك، فهناك من علمائنا الآن من يجيز ذلك عشر ورق بتسع معدن، ومنهم من يقول: لا يجوز؛ لأن الكل ريالات، ومادامت العملة واحدة، ولو كانت من عملات مختلفة، يجوز التفاوت، قد تشتري -مثلاً- دولاراً بأربعة ريالات بشرط التقابض، ريال بمائة ليرة بشرط التقابض، فتفاوت العدد إذاً هنا جائز مادام اختلفت العملات؛ لأن اختلاف العملات ينـزل منزلة اختلاف الأجناس، لكن لو كان من عملة واحدة هنا ريال معدن بريال ورق فما هو الحكم؟ فبعض أهل العلم قال: إن هذا مثل استلاف الأجناس، وهذا ورق وهذا معدن، ومنهم من قال: لا. الريال واحد، الريال هو الريال، وهذه الأوراق في الحقيقة لا قيمة لها من جهة الورق في الكتابة عليه وما يُضمن به من قِبل الجهات التي تضمنه، فليس في الحقيقة للريال قيمة من جهة الورق ككونه ورقاً بخلاف المعدن، قد يكون له قيمة في نفسه، قد يكون المعدن ثميناً، مثلاً: بعض العملات ذهبية وبعضها فضية، إلى آخره، فالمقصود أنه حصل نقاش في هذه المسألة. وقال: ومما سألونا عنه مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقوله عز وجل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان) ونحو ذلك، فأجابهم في أربع عشرة صفحة، والذي يستدعي الوقوف هنا، أن الشنقيطي رحمه الله كان سلفياً منذ أول أمره، في الأسماء والصفات. ولما سُئل عن هذه الأسئلة أجاب عنها بقول السلف ، وهذا موجود مسطر في رحلته في الحج أجابه في أربع عشرة صفحة.
الشنقيطي يحفظ الشواهد الشعرية والطرائف:
المباحثات العلمية أحياناً تحتاج إلى شيء من الملح والطرائف والنوادر الشعرية للترويح حتى لا تمل النفس ونحو ذلك، وقد حصل في بعض المجالس سؤال عن أيام العرب وأشعارها وملح الأدباء ونوادرهم، وقلنا: إن دروس ابن عباس رضي الله عنه كان فيها درس في التفسير ودرس في الحديث ودرس في كذا، ومنها درس في الشعر، أو في كلام العرب، والشواهد الشعرية هذه مفيدة جداً في تقوية الملكة العربية، والفصاحة ثم معرفة معنى الكلمة، لأن الكلمة عندما توضع في بيت شعر تعطيك معناها حسب السياق تفهم المعنى. فربما تأتي الكلمة في القرآن أو في السنة، فيرجع العلماء إلى الشواهد الشعرية المذكورة فيها هذه الكلمات لمعرفة معناها عند العرب، فالشواهد الشعرية مهمة؛ ولذلك ترى كتاب ابن جرير الطبري رحمه الله مليئاً بالشواهد الشعرية، فالشواهد لها فوائد في معرفة معاني الكتاب والسنة. وكذلك ربما كانت تستعمل في الملح والأحماض، لطرد الملل من المجالس، قالوا: ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة، ثناء أدباء الشعراء في قصار النساء، كقول الشاعر:
من كان حـربـاً للنساء فإنني سِلْم لهنَّ
فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتـهنَّ
وإذا برزن لمحـفل فقصارهن مـلاحـهنَّ
قال: معاني القصر جداً وصف مذموم كما يدل عليه قول كعب بن زهير .
لا يشتكى قِصَر منها ولا طول:
أي: أن من محاسن المرأة أن تكون متوسطة لا مفرطة في الطول ولا في القصر، وكذلك ذكر رحمه الله طرفة، قال: إننا لما دخلنا -أي: ذكر عن بعض العامة، جهلهم- لما جاءوا على مدينة خرطوم في السودان ، قال: قال لنا واحد بكلامه الدارج ومضمونه، أنه يغبطنا ويغار منا بسبب أننا نمر من أرض السودان التي فيها موضع شريف، قلنا له: وما ذاك الموضع الشريف -يقول: أنا لا أعرف أن في السودان موضعاً جاء فضله في الكتاب والسنة، مثل مكة و المدينة و بيت المقدس - فقال: الخرطوم ، قلنا: وأي شرف للخرطوم ؟ قال: مذكور في القرآن العظيم في قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] فقلنا له: ذاك خرطوم آخر غير الخرطوم الذي تعنيه، فضحك من يفهم من الحاضرين. وحصل مناقشة في مجلس قال: واستدل بعضهم بدليل هو عليه لا له، وهذه من الأشياء التي يقع فيها حتى بعض الشباب من طلاب العلم ونحوهم فقال بعض الحاضرين وكان عندهم أدب -عندهم الأدب يعني: أنهم يحفظون الأشياء والطرائف- قال: هذا مثل مغني اللصوص، فضحك من له خبرة بقصة مغني اللصوص، وهي قصة مشهورة، ملخصها أن بعض الأمراء أسر لصوصاً كانوا يقطعون الطريق، فقدمهم للقتل واحداً بعد الآخر حتى لم يبقَ منهم إلا واحد، فقال: لا تقتلوني فأنا لست من اللصوص، وإنما كنت مغنياً لهم، أطربهم بالأناشيد والأغاني، فقالوا له: بم كنت تغني لهم؟ ماذا كنت تغني للصوص؟ فقال: أغنيهم بقول الشاعر :
عن المرء لا تسل وسل عـن قرينه * * * فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإن كان ذا شر فجانب بسرعة * * * وإن كان ذا خير فقارنه تهتـدي
فهذا مغني اللصوص الذي جاء بالأشعار يظنها أنها حجة له فإذا هي حجة عليه. وطلب منا قوم من أهل النعمة أن أفسر لهم سورة الواقعة، ففسرتها لهم ليلاً، وسأل بعض طلبة العلم عن الفعل المبني للمفعول، هل هو أصل أو فرع، فأجابه عن ذلك، ودخل في المناقشة في قضية تتعلق بهذه المسألة.
الشنقيطي في قرية النواري:
وقال: بتنا في القرية الفلانية بـالنواري ولم نعرف أحداً من أهلها -يقول: البلد هذه النواري ما عرفنا فيها أحداً- فتذكرت قول الشاعر:
إن للدهر إن تأملت صرخة * * * يكسب المرء حكمة واعتبارا
ها أنا اليوم بـالنواري مقيم * * * أي عهد بيني وبين النواري
ليست لي علاقة فيهم، ولا أعرف أحداً منهم، لكن اضطر الحال إلى أن نزلت في هذه البلد، وليس لي فيها معرفة. قال: وجاءت بنا السيارة، بلد بامكوف الليلة الثالثة آخر الليل فنزلنا عند تاجر منا طيب الشمائل والأخلاق اسمه أحمد بن الطالب الأمين ، وهو من أخص إخواني وتلاميذي، فبالغ في إكرامنا وأهدى لنا ثياباً ودفع عنا أجرة السيارة إلى بلدة نبتا فابتدرنا السفر إلى هذه الجهة، وركب معنا أخونا المذكور في السيارة، وباتت بنا في تلك الليلة في قرية اسمها سكثو وباتت في الليلة الثانية في قرية اسمها صن ، ومررننا في طريقنا على قرى صغيرة مساكنها العرش والأخواص، يزرعون الذرة واللوز، وليس على أبدانهم شيء من الثياب أصلاً، ونساؤهم حالقات الرءوس، عاريات جميع البدن، والواحد منهم ذكراً كان أو أنثى يجعل خرقة صغيرة جداً أو ورقة من أوراق الشجر على سوءة قبله، ولا يستتر بشيء غير ذلك، وهم سود الألوان، سمعت بالاستفاضة أنهم وثنيون يعبدون الشجر، وما نزلنا في شيء من قراهم، ولا كلمنا منهم أحداً مع أن السيارة تمر بنا من بين مزارعهم، وسمعت أنهم ربما أكلوا الناس، ويسمون باللسان الدارجي العرايا وهم تحت حكم فرنسا . ثم جاءت بنا السيارة بلدة مبتى وقت الظهر فنزلنا في دار فيها تجار منا فبالغوا في إكرامنا وبتنا معهم ليلتين، ثم ذهبنا إلى بلدة فاوى و دوينصة ، ودخلنا فاوى وقت الضحى، فنزلت عند رجل تاجر من أبناء العلم اسمه الزاوي ، وهو رجل طيب الأخلاق والشمائل فأحسن إلينا غاية الإحسان، واجتمع علينا التجار من قبيلتنا الجكنين، كانوا في أرض فاوى فمكثنا معهم أسبوعاً في غاية الإكرام والتبجيل. وزارنا كثير من أهل فاوى ، وسألونا عن مسائل منها: امرأة غاب زوجها، فسمعت في غيبته أنه مات، فظنت صدق الخبر فاعتدت وتزوجت، فحملت من الزوج الثاني ثم انكشف الغيب عن حياة الزوج الأول وعدم فراقه لزوجته، ما الحكم في ذلك في مذهب مالك رحمه الله؟ فأجبناهم بفتوى كتبناها لهم محررة بنصوص فروع مذهب مالك ، وذكر صاحبها في صفحة ونصف تقريباً. يعني هل تبين حكم الزواج بالثاني أنه باطل، لماذا؟ لأنها ما زالت في عصمة الأول؛ لأن الأول ما طلق ولا مات لتعتد عدة صحيحة، فإذاً الزواج الثاني باطل. فهل ترجع إلى الأول؟ كيف ترجع إلى الأول وفي بطنها حمل؟ إذاً لا بد أن تنتظر حتى تضع حملها فإذا وضعت حملها وصار الرحم نظيفاً وبعد ذلك يُقال للأول: هل تريدها أم لا؟ فإذا قال: أريدها، رجعت إليه، وإن قال: لا أريدها، نقول: طلقها، فيطلقها فتعتد فيتزوجها الثاني زواجاً صحيحاً. المهم هذه المسألة وفيها مناقشات وأبحاث للفقهاء، على أية حال أجابهم رحمه الله عن ذلك.
الشنقيطي يلقى الترحيب والإكرام في أكثر القرى التي مر بها:
قال: ولما قدمنا إلى بلدة أنيامي في الضحى بعد الليلة الثانية، نزلنا عند تاجر اسمه الكيدي تورى ، وهو رجل كريم السجايا والطبائع، فيه نفع للمار به من عامة المسلمين -جزاه الله عنهم خيراً- ففرح بقدومنا وأكرمنا غاية الإكرام، ورغب جداً في أن نقيم عنده شهر رمضان وقد استهل ونحن عنده، ووعدنا بأن يحملنا من كيسه في طائرة إلى جدة إن أقمنا معه مدة، فقلنا له: لا بد لنا من أن نجد في السير في الوقت الحاضر فأهدى لنا وودعنا. فقد يقول قائل: ولماذا لم يسافروا بالطائرة إلى جدة ؟ يقال: إن في سفره فوائد، فهو يريد أن يفيد الناس، وإذا ذهب إلى جدة بالطائرة فاتت كل الفوائد على الناس، وكذلك ربما يريد رحمه الله أن يدفع من جيبه أجرة الحج لأنه لا شك أنه كلما بذل الإنسان في حجه من جيبه كان أفضل، فالذي يحج على نفقته، أفضل من الذي يحج على نفقة غيره، مع أن الحج على نفقة الغير صحيح ولو كان فرضاً. في مدة إقامتنا عند الحاج الكيدي تورى جاءنا رجل من أهل العلم من قبيلة تسمى الطلابا اسمه محمد بن إبراهيم وطلب منا أن نبين له معاني سلم الأخضري في فن المنطق بدرس شاف فأجبته، وكان يكتب ما أملي عليه من إيضاح معانيه، ليلاًً ونهاراً خوفاً من معاجلة السفر قبل إتمامه يقول: قبل أن يذهب الشيخ، نكتب ما عنده من العلم ليلاً ونهاراً، يكتب، الطالب قد يتحمل لكن الشيخ جاء من سفر، وفي سفر ومع ذلك بذل نفسه رحمه الله في الإملاء والتعليم، فجاء الإملاء شرحاً وافياً وعن غيره كافياً، الحمد لله رب العالمين. ثم سألنا عن تعين الناسخ لآية الوصية للوالدين والأقربين ما الذي نسخها؟ فقلت له: كان هذا مشكلاً عليّ في زمن درسي فن أصول الفقه إشكالاً قوياً -فما الذي نسخ الآية؟ هل هي آية المواريث أم آية من القرآن أخرى، أم الذي نسخها من السنة، وهو حديث: (لا وصية لوارث) وإذا كان هذا فهل السنة تنسخ القرآن؟ وفي ذلك بحث طويل- فالشاهد أنه أجابه وبين له وجه الإشكال في خمس صفحات ورد عليه. قال: ثم بعد ذلك قدمنا إلى بلدة مرادي وفي العشر الأوائل من رمضان أكرمت فيها ونزلت عند أحد أبناء عمي وفي ضيافته خمسة أيام، وقدّمنا فلوساً كانت عندنا إلى فورنلي بطريق الحوالة -يحتاجون إلى إرسال نقود إلى قرية سيأتون عليها، أو بلد سيأتون عليها فأرسلوا لها حوالة -ثم سافرنا من القرية التي تسمى مرادي ، إلى بلد اسمها كانو ، فلما مشينا قليلاً مررنا على مركز فرنساوي، هو الحدود بين النيجر الفرنسي و نيجيريا الإنجليزية وهذه تحت الاستعمار الفرنسي، وهذه تحت الاستعمار الإنجليزي، فنظر رئيس المركز في جوازات السفر وأمضاها، وبتنا تلك الليلة في بلد اسمها كتنة ، ثم من الغد نزلنا وكان آخر النهار فنزلنا عند شريف ظريف، اسمه محمد الأمين الشريف ، فأحسن إلينا غاية الإحسان، وبتنا عنده ليلة وبادرنا السفر من صبيحتها متجهين إلى قرية تسمى جص.
الشنقيطي وبعض الصعوبات التي واجهته أثناء الرحلة:
ركبنا في قطار الحديد إلى قرية تسمى جص فبتنا دونها ليلة، وجئناها من الغد فوجدناها كما قال الشاعر:
ولكن الفتى العربي فيها * * * غريب الوجه واليد واللسان
غريب الوجه: أي: ما ترى فيها عربي، واليد واللسان، ولا لسان عربي، فلم يفهموا كلامنا، ولم نفهم كلامهم، وبتنا فيها ليلة واحدة، ثم وجدنا واحداً يفهم من العربية قليلاً، فحصل بيننا مفاهمة مع صاحب سيارة ذاهبة إلى بلدة مادثري ، فدفعنا لصاحبها أجرتها وركبنا فيها، فلما سارت بنا تسعة وستين ميلاً وقع فيها خلل مانع من الحركة، فمكثنا يومين وليلة في محل واحد موحش، كثير البعوض والندى -الرطوبة- في خلاء من الأرض ثم أصلح فسادها حتى لم يبق بيننا وبين البلدة التي يقصدونها إلا مائة ميل وسبعة عاودها الفساد، فمرت بنا سيارة ذاهبة إلى تلك البلدة، فدفعنا الأجرة لصاحبها وركبنا فيها، فأدخلتنا البلدة في تلك الليلة، فنزلنا على تاجر اسمه عبد المحمود ، فأصلح لي خللاً كان في جواز رفيقي عند الحكومة، فشكرت له، وتذكرت قول الشاعر:
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعةً * * * من جاهه فكأنها من ماله
ومكثنا في هذه البلدة ليلتين، ثم سافرنا إلى فورنلي ، فركبنا بالأجرة في سيارة مشت بنا خمسة أميال ففسدت فساداً مانعاً من الحركة، فبتنا في ذلك المكان، وأرسل الله مطراً كأفواه القرب، فلما كان آخر النهار فعل لها سائقها شبه الإصلاح، وسرنا فيها آخر النهار سيراً ضعيفاً للخلل الواقع بها، فلما سارت بنا ستة أميال راجعها الفساد بأشد من الحالة الأولى فبتنا في ذلك المكان تلك الليلة، ولما ارتفع النهار مرت بنا سيارة، فدفعنا الأجرة إلى صاحبها وركبنا فيها، فسارت بنا بقية اليوم، فلما كان آخر النهار حبسها المطر، في قرية اسمها كنبار ، فلما كان من الغد وجاءت بنا آخر النهار إلى بلد اسمها كسرى ، فأتعبنا أهل مركزه بتفتيش المتاع، وأخذوا منا جوازات السفر وباتت عندهم. أي: هذا يؤخذ منه، كيف الذي كان يحج البيت العتيق، يعاني من المشاق الشديدة في السفر، والآن ينبغي أن نحمد الله سبحانه وتعالى على الوسائل التي هيأها للسفر، فكيف كانوا يعانون لأجل الذهاب إلى البيت العتيق، وتعترضهم هذه الاعتراضات. وذكر قصة أن بعضهم قد أصر على أن يدفع أجرة السيارة عنهم، وأنه دعا له بالخير حيث قال: جزاه الله خيراً، ومعروف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من قال لأخيه جزاك الله خيراً فقد أجزل له في العطاء) أي: إذا صنع لك معروفاً ولم تستطع أن تسدي له مثله، فلتدعو لصاحبه، فبأي شيء تدعو له؟ من السنة أن تدعو له بأن يجزيه الله خيراً، فتقول: جزاك الله خيراً. قال بعد ذلك: جميع السيارات التي نحن فيها والتي ترافقنا مشحونة من السوادين الذين لا يفهمون كلامنا ولا نفهم كلامهم، وأكثرهم كالبهائم -أي: لا دين ولا عقل- فذكرتني مرافقتنا معهم أبيات -تصور أن واحداً يرافق أناساً لا دين لهم ولا عقل، كالبهائم- لـمحمد بن السالم الشنقيطي :
إذ يطرحوني أرضاً لا يؤانسني * * *إلا لص هريـت الشـدق نبـاح
فكم تكنفني في ظـل مدرسـة * * * شم الأنوف لهـم كتـب وألـواح
وكم يغـازل جمـاء العظـام على * * * أنيابها العنبر الهندي والراح
وفي تلك الأيام أغلق الفرنسيون الطريق المعهودة إلى قرية آتيفا ، فهاشت بنا السيارة إلى بحر الغزال، فبتنا دونها ليلة وجاء من الغد ورحنا آخر النهار متوجهين إلى قرية آتين في طريق غير معبد، فهو إلى بنيات الطريق أقرب منه إلى الطريق كلما خرجنا من ورطة حبستها أخرى، والأرض هناك رمال لينة جداً، بتنا الليل كله نمشي على أقدامنا، لكن قليلاً قليلاً لكثرة عوائق السيارات من الرمل اللين، فدخلنا وادياً فيه زراعات ومياه، وفيه الفلفل الأحمر بكثرة لا ندري ما اسمه، وقلنا فيه -من القيلولة- ثم رحنا منه آخر النهار. ثم جئنا بعد ذلك إلى القرية فالتمسنا عربياً نبيت عنده، فدعاني رجل عربي -هذه قصة جيدة- والله ما سألته عن اسمه ولا اسم أبيه خوفاً من الغيبة -الآن دخلوا بلداً فأبوا أن يضيفوهم، حتى جاء رجل عربي رضي أن يضيفهم، لكن لما رأى الشنقيطي رحمه الله مستوى الضيافة، أو ما عند الرجل أو ماذا سيقدم لهم، ما سأله عن اسمه ولا اسم أبيه، خشية الغيبة ، خشية أن يذكره بعد ذلك بشر وهو يعرف اسمه- قال: والله ما سألت عن اسمه واسم أبيه خوفاً من الغيبة، فأنزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فبتنا بليلة لا أعاد الله علينا مثلها، أشد من ليلة النابغية وأشد من ليلة المهلهلية، فذكرتني ليلة النابغة :
كليني لهم يا أميمة ناصب * * * وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ليلة مرت علينا طويلة جداً من المشقة في ذلك المكان، واستعار أيضاً من المهلهل يصف ليلة طويلة:
كأن كواكب الجوزاء عود * * * معطفة على ربع كسير
كأن الجدي أثناه ربق * * * أسيـر أو بمنـزلة الأسـير
هذا الجدي والجوزاء نجوم في السماء، لها منازل إذا مرت الليلة تمر النجوم، يقول: كأن الجدي هذا مربوط كأنه أسير.
كواكبها زواحف لاغبات كأن سماءها بيدي مجير
ثم بعد ذلك مضت تلك الليلة، وصُبح تلك الليلة أحب غائب إلينا، فخرجنا من ذلك الضيق أول النهار.
الشنقيطي يناقش مسألة الزواج بنية الطلاق:
ونزلوا على الحاج مكي في محطة فقابلهم بالبشر والترحاب، وأكرمهم فدعا له، قال: جزاه الله خيراً، ثم بعد ذلك جاءوا إلى بعض المراكز -يقتربون الآن من مراكز حدودية وتفتيش- قال: ومما سأله عنه أهل قرية الجنينة ، تولية المسلم على المسلم إذا كانت صادرة من غير مسلم متغلب، هل هي منعقدة أم لا؟ -متغلب من هو مثلاً: فرنسي أو إنجليزي، إذا ولى مسلماً على مسلم ولاية، هل تنعقد الولاية؟ هل هي شرعاً صحيحة؟- ومما سألونا عنه صلاة الجمعة في مسجد جديد بناه رجل من أهل البلد في جانب من جوانب البلد، هل يجوز لمن أراد صلاة الجمعة فيه أن يصليها فيه، أو يرسلهم يصلوا في الجامع الكبير الذي هو مسجد الجمعة العتيق؟ ومما سئلنا عنه: الغريب في بلد يريد التزوج فيه ونيته أنه إن أراد العودة لوطنه ترك الزوجة طالقاً في محلها، فهل تزوجه مع نية الفراق بعد مدة، يجعل نكاحه نكاح متعة، فيكون باطلاً أم لا؟ فالمسألة باختصار هل يجوز الزواج بنية الطلاق؟ بدون أن يشرط عليهم ذلك ولا يخبرهم ولا يكلمهم ولا يتفق معهم في العقد ولا شيء، شخص تزوج امرأة بنية أن يطلقها بعد مدة؟ قول جمهور العلماء الجواز، وأنها فرق بين هذا وبين نكاح المتعة، نكاح المتعة نكاح على أجل معلوم بين الزوجين يُذكر في العقد، وبانتهاء المدة ينتهي العقد، أما هذا نية حديثة في النفس غير مخبر عنها ولا متفق عليها ولا هي في العقد، ثم كما يقول الشيخ عبد العزيز في تبين رجحان الجواز، قال: قد يأتيه منها أولاد وقد يرغب فيها، وقد يمسكها ولا يطلقها، وأن الفراق ظني، فقول جمهور العلماء في هذه المسألة: الجواز. قال: ونزلنا الأبيض بعد ذلك، فنزلنا عند رجل اسمه محمد خير مكثنا في قرية الأبيض ليلتين وصاحبنا الذي نحن في ضيافته، يُرسل لنا في يومينا قبل المغرب قطعة من عصيدة الدخن عليها بعض الإدام، فمرة تركناها وأكلنا من زادنا، ومرة تناولناها، فتذكرت قول الشاعر:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس * * * فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
والموت سـوى حيـن عـدّل قسمه بين الخليفة والفقير البائس
يقول: الجوع مطرود بالرغيف اليابس فلماذا أتحسر على طعام لا أشتهيه، أو على طعام ليس بجيد، الجوع يطرد بالرغيف اليابس.
الشنقيطي في معهد أم درمان:
ثم ذكر بعد ذلك في الطريق أن بعض الأساتذة المدرسين في معهد أم درمان ، وأثنى على أم درمان ، وعلى معهد أم درمان ، وعلى الطلاب الذين في هذا المعهد الديني، وقال: إنه سأله بعض الأساتذة أن يتكلم له على قوله جل وعلا: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد:31] ذكر الجواب في ثلاث صفحات. ثم سألونا عن وجه الجمع بين قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16] وبينا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28] وذكر في تفسيره أضواء البيان كلاماً رائعاً حول هذا، والقراءات في (آمرنا وأمّرنا، أمرنا) أن أمر أو أمِر في اللغة تأتي بمعنى الكثير أي: كثرناهم، ويستشهد بقول أبي سفيان : أمِر أمر ابن أبي كبشة أي: عظم وانتشر. ثم سألني بعض أذكياء الطلبة عن قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] في معهد أم درمان سألوه عن تفسيرها، وعن قصة الغرانيق، فأجابهم في تسع صفحات. ثم سألوه عن تحقيق بيتين في ألفية ابن مالك ، فأجابهم عن ذلك، وسألوه عن مسائل أخرى لغوية ونحوية، ذكرها رحمه الله في كتابه الذي هو رحلة الحج ، ثم سألنا بعض الطلبة: هل عثرنا على نص من كتاب أو سنة يُفهم منه وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟ فأجاب رحمه الله ما ملخصه: إن ذلك قد جاء بالإشارة أن بعض النصوص فيها إشارة إلى هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وأن المقاتلة على وزن مفاعلة، والمفاعلة لا بد أن تكون بين طرفين، هم طرف وأنتم طرف، وإذا كان هذا معنى ذلك أنه لا بد أن يكون هناك جيشان، وإذا كان هناك جيش فلا بد أن يكون هناك اجتماع ونظام وأمير لكل من الطرفين. فمعنى ذلك، قال: وفي هذا إشارة إلى أنه يكون لليهود دولة وقوة حتى يقاتلوا، هذا كله أخذه من أين؟ كل الكلام هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وذكر أن فيها إشارة فعلاً إلى ذلك وأنه لا يصلح أن يقاتلونا وهم كما قال الله تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً [الأعراف:168] أنهم مقطعين مشردين فلا بد أن يجتمعوا وتكون لهم قوة ويعملون جيشاً ثم يقاتلون، ولكن ستكون الغلبة في النهاية للمسلمين عليهم. وسأله بعض الطلاب عن الحديث الثابت في قتال الترك: (كأن وجوههم المجان المطرّقة) فما معنى هذا؟ ومن أين أخذ؟ وقال: لم تزل المذاكرة بينا وبين علماء معهد أم درمان الديني حتى جاء حديث الضيافة والإحسان إلى الضيف في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ذكروا أن الشعراء ربما هجوا على عدم القِرة -أي: عندما يأتي ضيف فلا يجد أحداً يُضيفه- وذكرت لهم نبذاً من هجاء الشعراء -انظر العالم وميزة العالم، أن كل شيء يأتي تجد أن له فيه إسهاماً، من شعر أو قول فكانت هذه الملح في هذا- قال: وأنهم ربما هجوا على قلة المقدم إليهم، كما قال بعض الأدباء:
أبو جعفر رجل عالم * * * بما يصلح المعدة الفـاسدة
تخوف مـن تخـمة أضيافه * * * فعودهم أكلة واحدة
فهذا من بخله، لكن الشاعر، يتندر عليه فيقول: هذا حريص على صحتنا، وعلى عدم تلبك معدتنا. ولما ذكرت لهم بهذه المناسبة بيتي الأديب أحمد بن عبد الله البوحسني الشنقيطي المعروف بالذئب، وقد استضاف أقواماً فلم يضيفوه، رفضوا أن يضيفوه:
مات الغداء لدينا أهل ذا الأفق والخطب سهل إذا كان العشاء بقي
ولست أحسـبه يبقـى وقـد زعمت عوّاده أنه في آخر الرمـق
أي: أنهم سيأكلوا الآن العشاء والضيف يبقى بلا شيء، فضحكوا. ثم سألني صديق كبير ذو الشمائل الطيبة، أحد أساتذة المعهد المذكور الشيخ إبراهيم يعقوب فقال: أأنت شاعر أم لا؟ فقلت: أما بالجبلة والطبيعة فنعم، الشعر يجري في نفسي، وأما من حيث التوصل بالشعر إلى الأغراض والأكل به من الملوك والأمراء فلا، فألح عليّ أن أسمعه شيئاً كنت قلته من الشعر فيما مضى، فأخبرته أن عهدي ينسج القريض أيام الصبا، وأكثر ما جرى على لساني في عنفوان الشباب، وأني لما عزمت على ألا أقول شعراً قلت أبياتاً في ذلك مقتضاها أن مقاصد الشعراء ليست لي بمقاصد. المهم أنهم أصروا عليه فأسمعهم بعض الأبيات التي سبق أن نظمها، وسألوه عن آيات أيضاً من القرآن الكريم، ثم قال: لما عزمنا على السفر من أم درمان اجتمع بنا الأخ الفاضل محمد صالح الشنقيطي رئيس لجنة في السودان فأحسن إلينا وأكرمنا غاية الإكرام وجمع بيننا وبين السيد عبد الرحمن فعزيناه في ولد ولده كان متوفى عند ملاقاتنا، ففرح بلقائنا وأظهر لنا البشر والإكرام، وأهدى لنا هدية سنية، وشيعنا بسيارته الخاصة، وأخذ لنا ولجميع من معنا تذاكر السفر في القطار الحديدي؛ كي نسافر.
الشنقيطي في أرض الحجاز:
سافرنا في العشر الأواخر من ذي القعدة من سنة (1367) هـ متوجهين إلى سواكن ، فبتنا دونها، وجئناها من الغد فنزلنا في خيم مبنية للحجاج، وأخذنا جوازات السفر إلى الحجاز ، وما توصلنا إلى أخذها حتى تعبنا من الزحام في المركز لكثرة الحجاج المزدحمين لأخذ الجوازات، وكان بواب المركز يُدخل قبلنا كثيراً من أخلاط الناس من أسود وأحمر ونحن جئنا قبلهم، فذكرني ذلك قول عصام بن عبيد الزماني :
أدخلت قبلي قوماً لم يكن لهم في الحق أن يدخلوا الأبواب قدّامي
أي: هذه شغلة الواسطات، دخل ناس قبلنا ونحن واقفون، ثم بعد أن تحصلنا على أخذ الجوازات وبعد أن سلمنا الرسوم المقررة مكثنا في محل النظر في صحة الحجاج ثلاثة أيام، ثم ركبنا في السفينة متوجهين إلى جدة ، فمكثت السفينة بنا يوماً وليلة في البحر، ثم نزلنا من الغد في جدة في بيت لآل جمجوم عمومي لنزول أهل قطرنا -أي: هذا البيت مخصص للشناقطة ينزلون فيه- فمكثنا ليلتين في جدة ، ولم نجتمع بأحد من أهلنا، لكن اجتمعنا برجل سوداني موظف في بعض الشركات اسمه أحمد بكري ، فأحسن إلينا وحملنا إلى مكة المكرمة بواسطة رجل طيب من موظفي إدارة الحج، فركبنا من جدة بعد صلاة المغرب، محرمين ملبين تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، وكان إحرامنا بالحج مفرداً. الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان في سورة الحج، تكلم على أنواع النُسك، ونصر القول بالإفراد نصراً عظيماً وأتى له بالأدلة وحشدها حشداً يكاد القارئ له أن تزول قناعته باستحباب التمتع، ولكن مذهب جمهور أهل العلم كما هو معروف أن التمتع هو الأفضل لكن من أراد أن يَنظر في تقرير استحباب الإفراد فعليه بما كتبه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان . وبعد ذلك نزل رحمه الله في منى بجانب بعض الخيام، وسأله بعضهم عن مسائل متعلقة باللغة والشعر، وحصلت مباحثات أيضاً فقهية وغيرها، قال: ثم سافرنا من مكة المكرمة بعد أن اعتمرنا من التنعيم وطفنا وقت السفر طواف الوداع، ودعونا الله ألا يجعل ذلك آخر عهدنا ببيته الحرام، فبتنا ليلة في جدة ، وتوجهنا إلى المدينة وركبنا في سيارة ومالكها معنا وهو يحفظ القرآن العظيم وعرض علينا في الطريق أجزاء عديدة من القرآن، أي: حفظاً، هذه قراءة العرض، ولا بأس بقراءته وحفظه، ووقفت بنا السيارة بعد المغرب في محطة اسمها ذُهْبَان، ثم مرت بنا على محطة اسمها: توَل هذه يسمونها الآن البادية، تول بإسكان التاء وغيرهم والحاضر يقولون تُول، ووقفت فيها قليلاً ثم سارت بنا إلى البلدة المعروفة رابغ وذكر قول الشاعر هنا:
فلما أجزنا الميل من بطـن رابـغ بـدت نــارها قـمـراء للمتـنور
ولما أضاء الفجر عنّا بـدت لنـا ذرى النخل والقصر الذي دون عزور
فإذاً هذا موضع آخر عزور هذا في الطريق، وكان كلما جاء إلى مكان، هو يراه لأول مرة، ولكن اسم المكان معروف عنده من شواهد العرب من قبل، فكل ما جاء على بلد وعلى مكان يتذكر ما قيل من الشعر في هذا المكان، قال: ووجدنا غالب الطعام الموجود فيها لحم السمك، وقال: ثم ذهبنا في تلك الليلة من رابغ بعد ظرف قليل من الزمن، صعدت بنا السيارة جبلاً عُبدت فيه الطريق للسيارات فقال لنا صاحب السيارة: هذا الجبل اسمه هرشى ، فتذكرت قول الشاعر:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإ نه * * * كلا جانبي هرشى لهن طريق
وأخبرته أنه يُروى، وهذا السفر طبعاً يقطع بمنح وبأشياء وملح وطرائف، فأخبرتهم أنه يروى عن بدوي من الأعراب أنه قرأ سورة إذا زلزلت، وقرأ فيها فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، فقالوا له: قدمت المؤخر وأخرت المقدم، أي: الآية، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه [الزلزلة:7] الخير أولاً ثم الشر، فقال لهم:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإ نه كلا جانبي هرشى لهن طريق
قال هذا من جهله وجفائه. ثم عرّجنا آخر الليل بين جبال كثيرة وأخذنا هجعة لنستريح، فما استيقظنا حتى اتضح الصبح فتوضأنا، وصلينا الرغيبة وفرض الفجر وركبنا في محطات متعددة، وذكر بعض هذه المحطات إلى أن وصل أبيار علي ، حصل للسيارة عائق إلى صلاة العشاء خلصت منه وتقدمت إلى المدينة ، وصلوا المسجد النبوي وقد أغلقت أبوابه وانصرف الناس عنه كالعادة، فلم يُقدر لهم صلاة في تلك الليلة في المسجد النبوي. ثم نزلوا عند الشيخ محمد بن عبد الله بن آد ، فتلقانا بالبشر والسرور ولم نُدرك ذلك اليوم صلاة الصبح مع الجماعة، لأننا لم نستيقظ من شدة تعب السفر حتى ضاق الوقت، فصلينا الرغيبة وفرض الصبح في محلنا لضيق الوقت، ولما ارتفعت الشمس وحل النفل -وصارت صلاة النفل جائزة- ذهبنا الحرم المدني.
الشنقيطي يقيم نشاطاً دعوياً وعلمياً في السعودية:
هذه رحلة الشيخ رحمه الله باختصار، والذي يقرأ الكتاب سيجد فيه الفوائد الكثيرة والعظيمة جداً، وحصل في خِلال إقامة الشيخ أشياء، ومن أهم الأشياء التي حصلت من أن الشيخ كان قد سمع دعايات عن الوهابية في بلده، فقد جاء إلى البلد هنا وعنده فكرة أنه سيواجه الآن أناساً من المنحرفين ومن المتعصبين -الوهابية فيهم وفيهم- مع أن الشيخ عقيدته صحيحة، لكن ليست عنده فكرة صحيحة عن الوهابية الذين أطلقت عنهم الدعايات في مواسم الحج وغيره من الضلال وعمموا بها على العالم الإسلامي، ومن ذلك بلد الشيخ. فتعامل بعض أهل علماء البلد معه بحكمة، وقُدم للشيخ كتاب المغني في أصل المذهب، وبعض كتب شيخ الإسلام ، كمنهج العقيدة، فقرأها وتعددت اللقاءات مع علماء البلد، فوجد مذهباً معلوماً من مذاهب أهل السنة ومنهجاً سليماً في العقيدة، وقيل له: هذا الذي يُدَّرس، وهذا الذي عليه أهل العلم، فعند ذلك انكشفت القضية للشيخ، وعرف حقيقة الأمر واتضحت له القضية، وزيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة، وتوطدت العلاقات بينه وبين علماء هذه البلاد، وأعرب عن رغبته بالتفسير.
تدريس الشنقيطي للتفسير واللغة:
فقال: ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه أمنيته- تحققت أمنية الشيخ وحقق الله مراده، وبلغه أمنيته، وأُقر له درس في المسجد النبوي وفسر القرآن فيه مرتين، وتوفي ولم يكمل المرة الثالثة، كان بداية الدرس في عام (1369) هـ وعام (1370هـ) على مدار العام، ثم صار مقتصراً على الإجازة الصيفية في عام (1371) هـ حيث كان يدرس في كلية الشريعة واللغة في الرياض ، فإذا نزل إلى المدينة في الإجازة الصيفية درس وأكمل التفسير، استمر على ذلك إلى سنة (1381) هـ حيث صار الشيخ مدرساً في الجامعة الإسلامية. وكان يخص التفسير في وقت من الأوقات، في شهر رمضان من العصر إلى المغرب، ويُظهر فيه الأعاجيب فظهر علمه للناس، وكان يحرص على ربطه بالواقع ما وجد إلى ذلك فرصة، كربط تكشف النساء اليوم بفتنة إبليس لحواء في الجنة، في قوله تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:27] وقال: إن فتنة الجاهلية الأولى كانت أن يطوفوا بالبيت عرايا رجالاً ونساء. وهاهو الشيطان في هذا الزمان يستدرجهن في التكشف شيئاً فشيئاً، بدءاً بكشف الوجه ثم الرأس ثم الذراعين إلى آخر كلامه رحمه الله، ومن أراد أن يرجع إلى كلامه فعليه أن يقرأ أضواء البيان في تفسير هذه الآية، ووصل إلى قوله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12] فتكلم في القياس كلاماً عجيباً في إثباته، والرد على ابن حزم وغيرهم من نفاة القياس، فعرف الناس منزلة الشيخ وعلمه واجتمعوا عليه وكان درسه حافلاً وكانت له ثلاث مستويات في التفسير، في الشرح الإسهاب والتوسع في المسجد النبوي في شهر رمضان من كل عام، من العصر إلى قريب الغروب. الحالة الثانية: التوسط، وهذا كان في تدريسه في الفصل، والاقتضاب إذا رأى في آخر السنة أن الوقت قد ضاق والمنهج لم يكتمل، فإنه كان يختصره اختصاراً، تولى تدريس التفسير في دار العلوم في المدينة ، عام (1369) هـ إلى أن انتقل إلى الرياض عام [1371هـ] ودرس التفسير والأصول بالمعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة، وظل هناك عشر سنين استفاد منه من لا يُحصى في الدروس النظامية وغيرها. كان يتكلم في علم الأصول في الرياض الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد خليل هراس رحمهما الله، فلما جاء الشنقيطي إلى الرياض سُلمت الراية إلى صاحبها، وحصلت المناظرات وعقدت المجالس، وكانت تلك المجالس حافلة جداً، لا شك أنه قد فاتنا الخير العظيم، نحن كلنا ما حضرنا هذا ولا رأيناه، فلا شك أن مثل تلك المجالس يتأسف الإنسان وبود كل واحد أنه حضر تلك المجالس. الشنقيطي رحمه الله يتكلم في الأصول، لو أنك قلت بأنه لا يُعرف مثل الشنقيطي رحمه الله في التفسير والأصول في هذا العصر -أقصد في هذا الزمن الذي نعيش فيه- لكان ذلك صحيحاً واضحاً، تفسير وأصول لا يُعلى على محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله يُسلم له بذلك، وكان الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد ناصر الدين الألباني يحضران مجلسه في التفسير في المسجد النبوي. وكان أيضاً يعقد له في صحن المعهد في الرياض بين المغرب والعشاء درس، وكلفه الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق رحمه الله بتدريس أصول الفقه لكبار الطلبة، قال: هو أحق بذلك مني، فعقد درساً خاصاً لنجباء الطلاب بعد صلاة العصر، وأملى وشرح مراقي السعود، وحصل بعد فتح الجامعة الإسلامية عام (1381) للهجرة انتقال الشيخ إلى المدينة ، ليدرس في الجامعة. وفي عام (1386) للهجرة عندما افتتح معهد القضاء العالي بـالرياض وكانت الطريقة استخدام الأساتذة الزائرين، كان من ضمن وأهم من يزور ذلك المعهد هو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وصار الشنقيطي في لجان لأهل العلم تفتي في القضايا المعاصرة، وقد شهد له أهل العلم بحسن الإدارة، وبعد النظر في الأمور، وحسن التدبر للعواقب، ولما صارت بعض البعثات من الجامعة الإسلامية إلى بعض الدول الإسلامية، للدعوة والتعليم سافر الشنقيطي رحمه الله تعالى وكان لا شك فيه شوق إلى بلده، فذهب في رحلة من السودان انتهت في موريتانيا ، موطن الشيخ، رافقه فيها عدد من أهل العلم، ويوجد الآن عشرة أشرطة تسجيل لدروس الشيخ في رحلة أفريقيا، عشرة أشرطة رحلة الشيخ إلى أفريقيا مسجلة وموجودة، ولا زالت محفوظة.
الكتب التي ألفها الشنقيطي في بلاد الحرمين:
وألف الشيخ رحمه الله في فترة إقامته في هذه البلاد، كتباً عظيمة جداً منها: أضواء البيان ، منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وحاول أن يرد عليه واحد اسمه عبد العظيم المطعني ، ولكنه لا شك أن بين علمه وبين علم الشيخ بوناً شاسعاً، وكذلك فإن الشيخ رحمه الله قد ألف كتابه العظيم دافع الإيهام والاضطراب عن آيات الكتاب ، الذي بين فيه التوفيق بين الآيات والنصوص التي ظاهرها التعارض؛ لأن القرآن نزل من عند الحكيم العليم، العزيز الكريم، لا يمكن أن يكون فيه تعارض، فإذا ظهر التعارض فلنا نحن. فبين رحمه الله أي آيات فيها تعارض، يظهر للشخص وما هو وجه إزالة هذا التعارض، وكذلك فإنه رحمه الله كتب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام (1367) هـ موجود ومطبوع، ورسالة في النسخ، ورسالة لمنهج دراسات الأسماء والصفات الذي تم عرضه مسبقاً، وتفسير سورة الوقعة وخبر الآحاد، وحكم صلاة الجمعة في المسجد الجديد، الفوائد التي حصلت في رحلته، قد دونت أيضاً. وشرح على مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود ، شرحه رحمه الله شرحاً لا شك أنه شرح نفيس ومهم جداً لهذا الكتاب، وكذلك بيان الناسخ والمنسوخ من الآي والذكر الحكيم، وشرح على سلم الأخضري ، ولعل الشيخ عبد العزيز قد أخذه عنه تلميذاً في هذا الفن. وكذلك فإن له رسائل متفرقة في التوحيد والوعظ وتحكيم الشرع، وأحوال الاجتماع بين المجتمع والاقتصاد، وكذلك تسلط الكفار على المسلمين، ومشكلة ضعف المسلمين، ومشكلة اختلاف القلوب بين المجتمع، وله محاضرات مطبوعة، منها: في تفنيد شبه حول الرق وحكم الصلاة في الطائرة، وبين صحة ذلك، وقال: أما بعد: فقد طلب مني بعض فضلاء إخواني أن أقيد لهم حروفاً تظهر بها صحة صلاة من صلى في الطائرة، فأجبناهم إلى ذلك. قلنا: لا شك أن الشيخ كان رحمه الله تعالى سلفي العقيدة، وأنه كان مقاوماً للشرك، ويظهر كلامه في مؤلفاته في رفضه للبدع الشركية والقبور والأضرحة، وتحقيق التوحيد يظهر لمن تأمل تفسيره رحمه الله تعالى، والرد على الصوفية في مسائل الإلهامات والخواطر، والزنادقة والرد عليهم كما في معنى قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] والكلام في مسائل في العقيدة، لأهل الفرق فيها ضلالات، كنزول عيسى وعصمة الأنبياء وغير هذا كثير جداً.
وفاة الشنقيطي وبعض الأبيات في رثائه:
لما حج الشيخ رحمه الله في آخر عمره جاء للسعي يوم الحج الأكبر سعى شوطاً واحداً على قدميه، ثم أخذت له العربة، فحصل معه ضيق في التنفس من ذلك الشوط الذي طافه على قدميه، ثم تُوفي في اليوم السابع عشر من ذي الحجة، في عام: (1393) للهجرة ضحى يوم الخميس، يقول غاسله الشيخ أحمد بن أحمد الشنقيطي وغسلته في بيته في مكة ، بشارع المنصور، وصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي مع من حضر من المسلمين ودفن بمقبرة المعلاة بريع الحجون بـمكة ، حرسها الله تعالى، وقد رثاه عدد من العلماء من طلابه ومحبيه، منهم ابن عمه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني الشنقيطي ، الذي يقول:
أبكي الأمين وليتني من علمه *** ما عشت فزت بنيل كل بيان
أبكي الأمين محمـداً وإننـي *** أبكي الأمين لشرعة الـقرآن
من ذا يلومك إن بكيت مفوهاً *** سمح الخليقة من بني الإنسان
إلى آخر الآبيات، وكذلك الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد المزيدي الجكني الشنقيطي رثاه بقصيدة مطلعها:
نعى الأمين نعاة قد نـعوا علما *** بحراً خضماً بموج العـلم ملتطـما
أبكته أجيال علم حين عد لـه *** ريع الحجون مصيراً بعـدما ختـما
ما كان يرغب في السكنى بذي *** بلد غير المدينة طابت مسكن الكرما
فبنى بها وببيت الله دار سكنـاً *** فالخـير فيمـا أراد الله منـحتـما
ثم قال:
من للنوازل مثل الشيـخ إن *** نزلت أو للحوادث إن أدمت بنا كلْما
أضواؤه كشفت أبعاد مطلبه *** والدفع يدفع ما في الوحي قد وهـما
البيت هذا فيه اسم كتابين وهما أضواء البيان، و دافع الإيهام والاضطراب.
إن النصوص لها جرح بـه أثر قد كان يلئمـه بالعـلم فالـتأمـا
معروفه عرفت منه الأرامل *** ما يغني عن الذكر والمسكيـن والهما
عز العلوم وطلاب العلـوم *** ومن يعرض سؤال علوم أو أصولهما
إلى آخر تلك القصيدة، ورثاه عدد من أهل العلم، منهم أيضاً الشيخ محمد بن مدين الشنقيطي بقوله:
الله أكبر مات العلم والورع يا *** ليت ما قد مضى من ذاك يرتجع
يبكي الكتاب كتاب الله غيبته *** كذا المـدارس والآداب والجمـع
مفسـر الذكـر الحكـيم ومـا *** من الحديث إلى المختـار يرتفـع
أخلاقه الشهد ممزوجـاً بمـاء *** صفا وما يغير طبعـاً زانه طـبع
فهو الإمام الذي من غيره تبـع *** له وهل يستوي المتـبوع والتبـع
إذا ما بدا في الدرس تحسب فيضه على الناس صوب المدجنات السحائب
كما قال في قصيدة أخرى، محمد الأمين محمد المختار رحمه الله.
تواضع الشنقيطي وزهده وحسن أخلاقه:
أما بالنسبة لسمته وأخلاقه: الإمام أحمد رحمه الله نقل عبارة: أصل العلم خشية الله، وبرؤية العالم يُعرف من شكله وسمته، وهكذا قال بعض من واجهوه، وكان من عنايته بالعلم يقول ابنه عنه: قال لي أبي: لا توجد آية في القرآن إلا درستها على حدة، وأخبرني وكذلك قال أحد تلاميذه: كل آية قال فيها الأقدمون شيئاً فهو عندي، هذا لم يتباه به في مجالس أمام الناس بل قاله لولده، وقاله لأحد أصحابه خاصةً، وكان يلهج دائماً بالوصية، يقول ولده: سألت أبي: ما الذي يطرد وساوس الشيطان؟ قال: التدبر في كتاب الله. وبهذه الوصية افتتح كتابه وبه ختمه، الوصية بتدبر القرآن، وفي قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] كلام طويل له رحمه الله في هذا، وكان مُتبعاً للسنة، إذا عرف الدليل اتبعه، وكان يقول لبعض الحجاج والزوار من بلده، وكان أهل بلده مذهبهم مالكي، يقول: أنا المالكي لا أنتم، لأني آخذ بالدليل متبعاً في ذلك الإمام مالك رحمه الله لا متعصباً له، ولما سأله بعض تلاميذه أن يدرسوا عليه، قال: ادرسوا عليّ البخاري و مسلماً ، ما بين أهمية اعتماده على السنة وتمسكه بها، لكن منيته عاجلت فلم يتحقق تدريسه للبخاري و مسلم في ذلك الموقف. وكان يجلس في المجلس فيأتي الضيف ولا يشعر به، حتى ينبهه ابنه إلى قدوم الضيف، لانشغال فكره بتجميع شواهد من كتاب الله تعالى، ومنذ أن كان في بلده معروفاً بكثرة التأمل، والعالِم لا بد أن يتأمل، والتأمل شيء ضروري، يقول هو: جئت للشيخ لقراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح ولكن لم يشفِ ما في نفسي على ما تعودت، ولم يروِ لي ظمئي -هذا كان وهو يطلب العلم- وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس، وكان الوقت ظهراً، فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودت حتى المغرب فلم انتهِ، فأوقد لي خادمي أعواداً من الحطب، أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار، وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي، فتركت المطالعة ونمت. هي مسألة واحدة، هكذا جرى فيها من بعد درس شيخه إلى عصر اليوم التالي رحمه الله تعالى، درس فيها في الليل على ضوء المشاعل، وفي النهار في ضوء النهار، وكان رحمه الله شديد التباعد عن الفتوى، وإذا اضطر يقول: لا أتحمل في ذمتي شيئاً، العلماء يقولون: كذا وكذا، وقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتل، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله، أن الله حرم وحلل، ولا تدري أنك تصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه، ويستشهد بقول الشاعر:
إذا ما قتلت الشيء علماً فقل بـه ***ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يرى متصدراً *** ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله
وجاءه وفد من الكويت في آخر حياته فسألوه عن مسائل فقال: أجيبكم بكتاب الله، ثم جلس مستوفزاً فقال: الله أعلم، هذا الجواب. قال: أجيبكم بكتاب الله، ثم قال: الله أعلم، قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] لا أعلم فيها عن الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيء، وكلام الناس لا أضعه في ذمتي، فلما ألحوا عليه، قالوا: فلان قال كذا -أي من العلماء- قال: وأنا لا أقول شيئاً.
زهد الشنقيطي في الدنيا:
وكذلك فإنه كان زاهداً في الدنيا عفيفاً عنها، وقال: الذي يُفرحنا أنه لو كانت الدنيا ميتة، لأباح الله لنا منها سد الخُلة، وكان يأخذ من راتبه مصروف الشهر ويوزع الباقي، قال ابنه: كنت أتولى التوزيع على ضعاف طلبة العلم والعجائز الأرامل من القريبات، وكان يقول: والله لو عندي قوت يومي ما أخذت راتباً من الجامعة، ولكنني مضطر لا أعرف أشتغل بيدي، وكان يحذر ولده كثيراً من الدنيا، ويقول: الكفاف منها يكفي، وإن الشيطان ربما سول للإنسان جمعها ليتصدق بها وهو تلبيس، أي: الشيطان يقول: تاجر واربح لأجل أن تتصدق، ثم ينشغل الإنسان بالدنيا ولا يتصدق إلا بالنـزر اليسير، وكان لا يُقرض الناس. يقول: إن كنت محتاجاً إلى ما عندي فلا أعطيه؛ لأني محتاج إليه، وإن كنت غير محتاج فأعطيه من غير قرض، هبة، أو صدقة، أو هدية، أما قرض لا يمكن. أصلاً ما عنده شيء يقرضه، يأخذ حاجته ويتصدق بالباقي، وكان لا يبعثر النقود بل يعطيهم شيئاً قليلاً تربية لهم، وقال مرة: أنا مختار وعبد الله لا أعطيهم مالاً؛ لأن الأموال تخرب الرجال، وبعض الناس قد يوزع على أولاده بالآلاف، ثم الولد يفسق ويفجر بها، ويرحل ويسافر بالحرام. وكان الريال والألف عنده سواء، قال: الريال الواحد والألف سواء، المهم أن يكون صرفها سليماً، وأهدي له بيت في الطائف فرده ولم يقبله، وقال: الذي بناه يحتاجه لنفسه أما أنا فلم أبنه ولا أحتاجه، وعندي بيت في المدينة يكفيني، وبيته بناء شعبي سقفها من خشب، وليس من حديد فيه دوران الأول أربع غرف فوق وتحت أربع غرف للطلبة، ويغص بالمغتربين، وكان يشرب من ماء الزير، ويجلس على الحصير، ويكتب في الدهليز ويطالع. ولم تبع كتبه في حياته، وقال: علم نتعب عليه ويباع وأنا حي، لا يمكن هذا، ولكن أنا أدفع وآخر يدفع المال، يقول: يأتي تاجر يطبع لي كتبي يوزعها وأنا مستعد، أما أن أبيع كتبي فلا، ويوزع للناس مجاناً وقال: أنا أعلم أنه سيصل إلى من لا يستحقه لكن سيصل أيضاً إلى من لا يستطيع الحصول عليه بالمال، أي: قيل له: اطبعها وضعها في المكتبات، فكان يرفض أن تباع كتبه، وكان لا يلتفت إلى المظهر حتى أن نعله ربما تكون ذات لونين، مرة يغلط يلبس نعالاً أخضر وآخر أحمر، ما كان يبالي بالدنيا إطلاقاً، ولا ينظر في نعال ولا في لباس رحمه الله تعالى. وقال لبعض طلابه: إني لا أعرف فئات العملة الورقية. لا يعرف أن يميز الخمسين من المائة من العشرة من عزوفه عن الدنيا واشتغاله بالعلم، وقال: جئت من شنقيط ، جئت من البلاد ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، فإني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية. ولما حاول بعض طلابه أن يثنيه عن الحج؛ لأن صحته كان سقيمة في آخر عمره، قال: دع عنك المحاولة إن سفري إلى لندن أريد الشفاء بها، لا بد أن أكفر عنه بحج، قال لهم: أني سافرت إلى
لندن للعلاج، هذه لا بد لها من تكفير، مع أنه سفر علاج، قال: تكفير لذلك الحج، ولا طالب بمرتب ولا بترفيع، ولا بمكافأة، ولا بعلاوة، ما جاءه من غير سؤال أخذه، ويوزع ما زاد عن حاجته ولم يخلف ديناراً ولا درهماً إطلاقاً. اتهموه منذ القديم أن رجلاً هجا رجلاً فأعطى المهجو أبيات يرد فيها على الهاجي، فقال: أنا أدخل بين رجلين نزغ الشيطان بينهما لا يمكن أن يكون، ودافع عن نفسه بقصيدة، قال فيها:
وتمنعني من ذاك نفـس عزيـزة *** غلا سعرها في السوق يوم كساده
تهاب الخنا والنقـص فـي كـل *** موطن وقلب يقويـها بشـدة آبـه
ولست بمن يغريه من جاء مغرياً *** ولا من يعادي الدهر من لم يعـاده
وإني لأكسو الخل حـلة سـندسٍ*** إذا ما كسانـي من ثيـاب حـداده
وكائن يغيظ المرء ظـن حبيـبه*** به السوء بعض الظـن إثـم فعـاده
وكائن أي: وكأين وكم عَادِ ظن السوء وإياك وظن السوء. وكانت المروءة شعاره، وكان يذهب مع ولد له إلى الحرم المدني في صلاة الظهر في حر الصيف في السيارة، يرجع وقد امتلأت السيارة طلبة وجيرانا، فيقول لولده: عيب أن تنزل أحداً قد ركب، اذهب أنت ماشياً، وبعض زوجاته تبكي عليه، لأنه كان في غاية المراعاة للزوجة، وكان يقول: هذه ضيفة، كلمة تخرجها من البيت (أنت طالق) ولذلك ما زال يبكي عليه أهله بعد وفاته رحمه الله.
الشنقيطي كان رامياً بارعاً:
وكان من نوادره أيضاً: من الأشياء العجيبة أنه كان يحرص على الرماية، كان قناصاً لا يخطئ في الرمي، وتُوفي وعنده بندقية شوزن وساكتون، بندقيتان، وكان يصيد خارج حرم المدينة ، لا يصيد في حرمها، وكأنه يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) أثنى عليه العلماء، كالشيخ عبد العزيز بن باز ، وحضر مجالسه وتتلمذ عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، وقال عنه في سعة علومه مدحاً كثيراً، وغيره من أهل العلم، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يقوم له، وما قام لأحد من الباب ليودعه ويرجع، هذه كانت نبذة من سيرة الإمام العلم الكبير فقيد العلم بهذا الزمان، الذي لا يعرف الأكثرون اسمه فضلاً عن أن يقرءوا في كتبه. هذا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.