|
كاتب الموضوع | أبو عبد الرحمن محمد العكرمي | مشاركات | 10 | المشاهدات | 12173 | | | | انشر الموضوع |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
#11
|
|||
|
|||
إصلاح الأغلاط الشائعة في اللغة العربية (5)(*)
نعود الليلة إلى ما بدأنا من الحديث في العربية الشريفة لغة الدين و القرآن و جامعة أشتات الأمم العربية على اختلاف آفاقها و تباين لهجاتها.فهي لغتها القائمة وصلتها الدائمة فكم نزلنا بلاداً عربية النبعة و التاريخ و الأدب و العادات و الدين فعجزنا فيها عن مشافهة كثير من عوامها و قلّت حيلتنا في تفهم لهجاتهم لما اعتورها من التحريف و التغيير و المسخ ولما تفشّاها من مولّد و دخيل , كما هو الشأن في عاميتنا المصرية (1) فلم ينقذنا بينهم إلا مخاطبتهم بالعربية السهلة الصحيحة و حملهم على محادثنا بها . هنالك اجتمع المتنائيان و تعانق الأخوان و رأيا أنهما و إن تباعدت بينهما الديار و شط المزار من أورمة واحدة تجمعهما أواصر تاريخ مجيد و تلتقي فروعها عند أصل واحد كريم هو العربية و العرب بكل ما في الكلمتين من معنى سام و ذكريات غالية. فالعربية هي رباط القلوب و نسب الأرواح و هي أخوة في الدم و التاريخ دائمة وآصرة في المجد و النسب قائمة.أليس من الواجب علينا بعد هذا أن نعمل على هدم العامية في كل قطر عربيّ و أن نحيي فيه العربية الصحيحة حتّى تزيد هذه الصلة قوة و هذه الآصرة متانة و إحكاماً؟ والقضاء على العامية لا يكون أولا إلا باستنكارها و الاشمئزاز منها , و أنها تجر في أذيالها بقايا من عصور الظلم و الإظلام , و أنه لا يحسن بمتعلم أو بشبه متعلم أن ينطق بها أو يلقنها أطفاله الصغار. ثم بانتشار التعليم الأوليّ و عمومه , ثم بحرص الجرائد و المجلات كيفما كانت نواحيها على العربية الصميمة , و ألا ينفذ إليها أسلوب عامي أو كلمة سقيمة.ثم بهجر التمثيل العامي هزليا كان أو غير هزليّ , ثم بعناية كل خطيب أو مدرس أن يكون سليم التعبير صحيح الأسلوب .و المعلمون , المعلمون هم موطن الأمل و محط الرجاء و هم الملحُ المصلحُ و ما يصلحُ الملحَ إذا الملحُ فَسُدَ؟ فإذا التزموا العربية السهلة السائغة نفذت إلى نفوس تلاميذهم و رسخت أساليبها في حوافظهم فانطلقوا يتحدثون في يسر بعبارة صحيحة و نسق مستقيم. لذلك أيها السادة وقفنا هذا الموقف و سنقفه ما تنفس بنا العمر نرفع الصوت لنصرة العربية و سنجد بحول الله من غيرة إخواننا و أبنائنا ما يشد أزرنا و يقوي زندنا. وقد كنا نتحدث في محاضراتنا السابقة في كلمات و أساليب ادعى بعض المتعجلين خطأها و أذاعوا ذلك في الجرائد و نشروه بين الناس و بين الناشئة المتعلمة , فكان ضرر ذلك جسيما وشره مستطيراً , فإن فيه تضييقاً للعربية و هي فسيحة الصدر فياحة الرحاب , وقد وصل هؤلاء إذا حاولوا الكتابة إلى شبه شلل أدبي , فتشككوا في كل كلمة و رجعوا إلى حروف المعجمات إذا هموا بأي تعبير. و سنواصل البحث الليلة في تصحيح كلمات أخرى أبعدوها عن حظيرة العربية , حكموا عليها بالخطأ.و محاها المعلمون بالقلم الأحمر من كراسات التلاميذ. من هذه الكلمات كلمة : عديدة, بمعنى كثيرة, فإذا قال قائل : زرتك مرات عديدة, أو : عندي كتب عديدة خطئوه , لأن المعجمات لم تذكر , في رأيهم , عديدة بهذا المعنى, و إذا وردت في المعجمات فيجب في مذهبهم أن ترد ظاهرة جلية لا تحتاج إلى إعمال فكر , و إلى تخريج على قواعد الاشتقاق. فقد رأوا في المعجمات مما يدور حول هذه الكلمة أن العديد : العدد , والكثرة , و النظير, و رنين القوس , و أن العديدة: النصيب, تقول : خذ عديدتك أي حصّتك و نصيبك.رأوا هذا , و لم يروا فيها أن العديدة تأتي بمعنى الكثيرة , فجهروا بأن استعمالها في هذا المعنى خطأ, و راحوا يتعالمون بذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة , و الفلك يدور و الليل يعقبه النهار , و كلمة عديدة بمعنى كثيرة على الرغم من ذلك تملأ الصحف و الكتب , و تطّرد في عبارات الأدباء المبرزين , و يظهر أن ثبات الكلمة طوال هذا الزمن على كثرة ما كان يصيبها من الزجر و الطرد دليل على حقّها في البقاء و دليل على أنها العربية تضن ببناتها أن تزال .تعالوا نفهم معاً أيها السادة: استعملت اللغة العديد بمعنى الكثرة باتفاق منا و منكم , و نزيد هنا –إذا أنتم- أنها استعملت العديد بمعنى الكثير .قال الراغب في مفرداته : و يقال : جيش عديد أي كثير , فالعديد إذاً تستعمله العرب بمعنى الكثير.قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً : فأقسم لو بقيت لكنت فينا *** عديداً لا يكاثر بالعديد أي لا يغالب بالكثير من الرجال . و إذا كان العديد بمعنى الكثير فهو إذا مشتق من عد الشيء يعده , و إذا كان مشتقا فهو بلا شك صيغة مبالغة كـ : رحيم و سميع , لأن فعله متعد فالعديد الكثير العدد , كما أن الرحيم كثير الرحمة , السميع : شديد السمع , و لاشك أن صيغة المبالغة تؤنث بالتاء , فقل إذاً:كتب عديدة و مرات عديدة.كما تقول : امرأة رحيمة و سميعة . و من هذا يظهر أن كلمة عديدة بمعنى كثيرة صحيحة في اللغة والقياس, لا يصيبها رشاش من شك.ثم إننا نستطيع من ناحية أخرى أن نستخرجها بالنص من عبارة اللغويين. قالوا العديدة النصيب.أتدرون لم سمّوا النصيب في الميراث عديدة ؟ لأنه سهام و أجزاء من التركة معدودة فعديدة الوارث ما أثابه من المال المعدود .و إذا استعملت العرب العديدة بمعنى المعدودة فلم لا نستعملها نحن؟و لا يقال هنا : إن كلمة معدودة تفيد القلة , لأن الزّجاج يقول : كل عدد قلّ أو كثر فهو معدود. و من الكلمات التي خطئوا فيها الناس كلمة(استغرب)فلا تقل : استغربت هذا الأمر , أي : عددته غريباً , لأنهم يرون أن هذا الفعل (استغرب) لم يأت في المعجمات إلا لازما بمعنى المبالغة في الضحك.قال في اللسان : و استغرب عليه الضحك: اشتدّ ضحكه و لجّ فيه . ونحن لا ننكر عليهم ذلك و لكننا نستغرب ما يقولون , لأن هذا الفعل استعمل كثيراً في القديم و الحديث و أقيسة اللغة لا تأباه (2). و أصله من غَرَبَ الشيء يغرُب أو غَرُبَ يغرب غرابة , بمعنى بعد , فهو غريب أي : بعيد عن المعروف المألوف . فإذا أدخلنا عليه السين و التاء للاعتداد و الإصابة قلنا: استغربت الشيء , أي عددته غريباً , كما نقول : استحسنت الشيء , أي أصبته حسناً , و استقبحته , أي وجدته قبيحاً , والسين و التاء للطلب أو الإصابة قياسية. قال سيبويه: الباب في استفعل أن يكون للطلب أو الإصابة , و إذا قالوا: الباب , فهذا معناه القياس . و قال ابن يعيش : و الغالب في هذا البناء (استفعل) الطلب و الإصابة , و ما عدا ذينك فإنه يحفظ حفظا و لايقاس عليه . و مما زعموا أن الفعل صارح لا يكون إلا لازماً , و أن الكتّاب يخطئون حين يقولون : صارحت فلانا برأيي و دليلهم على ذلك أن المعجمات التي يعول عليها لم تأت بهذا الفعل إلا لازما , و لكن أبا طالب عمّ الني صلى الله عليه و سلم يقول: و قد صارحونا بالعداوة و الأذى *** و قد طاوعوا أمر العدو المزايل فاستعمل صارح متعدياً . و هذا دليل يساق إلى أدلة كثيرة ذكرتها على أنه المعجمات لم تحصر كل كلام العرب , و أنه يجب التريث و البحث قبل البت بنفي كلمة من ساحة اللغة الصحيحة. هدانا الله إلى طريق السداد و وفقنا لخدمة دينة و لغة كتابه الكريم و السلام عليكم و رحمة الله . انتهى من جارميات ص ( 241 – 243 ) ــــــــــــــــــــــــــ (*)أذيع هذا الحديث من إذاعة القاهرة 08 / 07 / 1938م. (1) و كما هو حاصل في عاميتنا الجزائرية و باقي الدول العربية . العكرمي. (2) بل لعلكم تلاحظون مع ما سيذكره العلامة علي الجارم رحمه الله من معنى" غَرَبَ "أنها لِمَا بَعُدَ عن المألوف , و قول العرب : (استغرب عليه الضحك ) مأخوذ من أصل المعنى في البعد عن المألوف لا ريب في ذلك , فكأنهم قالوا : بعد عليه الضحك حين اشتد ففارق المألوف المعهود , فكان غريباً مستغرباً . العكرمي. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
.: عدد زوار المنتدى:.