|
كاتب الموضوع | أم جمانة السلفية | مشاركات | 0 | المشاهدات | 1059 | | | | انشر الموضوع |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة
التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فهذا منسك مختصر يشتمل على إيضاح وتحقيق كثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، جمعته لنفسي ولمن شاء الله من المسلمين، واجتهدت في تحرير مسائله على ضوء الدليل. وقد طُبِعَ للمرة الأولى في عام 1363 هـ على نفقة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، قدس الله روحه وأكرم مثواه. ثم إني بسطت مسائله بعض البسط وزدت فيه من التحقيقات ما تدعو له الحاجة ورأيت إعادة طبعه؛ لينتفع به من شاء الله من العباد، وسميته التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة، ثم أدخلت فيه زيادات أخرى مهمة وتنبيهات مفيدة تكميلا للفائدة، وقد طبع غير مرة. وأسأل الله أن يعمم النفع به وأن يجعل السعي خالصا لوجهه الكريم، وسببا للفوز لديه في جنات النعيم، فإنه حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. المؤلف/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في الحج وبيان فضله وآدابه، وما ينبغي لمن أراد السفر لأدائه وبيان مسائل كثيرة مهمة من مسائل الحج والعمرة والزيارة على سبيل الاختصار والإيضاح، قد تحريت فيها ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعتها نصيحة للمسلمين وعملا بقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[1] ، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}[2] الآية، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[3] . وكما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدين النصيحة)) ثلاثا قيل لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وروى الطبراني عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم)). والله المسئول أن ينفعني بها والمسلمين، وأن يجعل السعي فيها خالصا لوجهه الكريم، وسببا للفوز لديه في جنات النعيم إنه سميع مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فصل في أدلة وجوب الحج والعمرة والمبادرة إلى أدائهما إذا عرف هذا فاعلموا وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق واتباعه، أن الله عز وجل قد أوجب على عباده حج بيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[4] وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)). وروى سعيد في سننه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)، وروي عن علي أنه قال: (من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا). ويجب على من لم يحج وهو يستطيع الحج أن يبادر إليه، لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد. ولأن أداء الحج واجب على الفور في حق من استطاع السبيل إليه لظاهر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[5] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)) أخرجه مسلم. وقد وردت أحاديث تدل على وجوب العمرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لجبرائيل لما سأله عن الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان)) أخرجه ابن خزيمة والدارقطني من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الدارقطني: هذا إسناد ثابت صحيح. ومنها حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: ((عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح. ولا يجب الحج والعمرة في العمر إلا مرة واحدة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)). ويسن الإكثار من الحج والعمرة تطوعاً لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). فصل في وجوب التوبة من المعاصي والخروج من المظالم إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج، أو العمرة: استحب له أن يوصي أهله، وأصحابه بتقوى الله عز وجل وهي فعل أوامره، واجتناب نواهيه. وينبغي أن يكتب ما له، وما عليه من الدين، ويشهد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب، لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[6] . وحقيقة التوبة: الإقلاع من الذنوب، وتركها، والندم على ما مضى منها، والعزيمة على عدم العود فيها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس، أو مال أو عرض ردها إليهم، أو تحلل منها قبل سفره لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). وينبغي أن ينتخب لحجه وعمرته نفقة طيبة من مال حلال لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا))، وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور)). وينبغي للحاج الاستغناء عما في أيدي الناس والتعفف عن سؤالهم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم))، ويجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة، والتقرب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال في تلك المواضع الشريفة، ويحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك، فإن ذلك من أقبح المقاصد وسبب لحبوط العمل، وعدم قبوله كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[7] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[8] . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)). وينبغي له أيضا أن يصحب في سفره الأخيار من أهل الطاعة، والتقوى، والفقه في الدين ويحذر من صحبة السفهاء والفساق. وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته، ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة، فإذا ركب دابته أو سيارته أو طائرته أو غيرها من المركوبات استحب له أن يسمي الله سبحانه ويحمده، ثم يكبر ثلاثا ويقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}[9] ، اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل)). لصحة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ويكثر في سفره من الذكر والاستغفار ودعاء الله سبحانه والتضرع إليه وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، ويحافظ على الصلوات في الجماعة ويحفظ لسانه من كثرة القيل والقال، والخوض فيما لا يعنيه، والإفراط في المزاح ويصون لسانه أيضا من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بأصحابه وغيرهم من إخوانه المسلمين. وينبغي له بذل البر في أصحابه وكف أذاه عنهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة على حسب الطاقة. فصل فيما يفعله الحاج عند وصوله إلى الميقات فإذا وصل إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتطيب، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد من المخيط عند الإحرام، واغتسل، ولما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت). وأمر عائشة لما حاضت وقد أحرمت بالعمرة أن تغتسل وتحرم بالحج. وأمر صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس لما ولدت بذي الحليفة أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم، فدل ذلك على أن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو نفساء تغتسل وتحرم مع الناس، وتفعل ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأسماء بذلك. ويستحب لمن أراد الإحرام أن يتعاهد شاربه وأظفاره وعانته وإبطيه، فيأخذ ما تدعو الحاجة إلى أخذه لئلا يحتاج إلى أخذ ذلك بعد الإحرام وهو محرم عليه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للمسلمين تعاهد هذه الأشياء كل وقت كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الأظفار، ونتف الآباط))، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (وقت لنا في قص الشارب وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك ذلك أكثر من أربعين ليلة)، وأخرجه النسائي بلفظ: (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بلفظ النسائي، وأما الرأس فلا يشرع أخذ شيء منه عند الإحرام لا في حق الرجال ولا في حق النساء. وأما اللحية فيحرم حلقها أو أخذ شيء منها في جميع الأوقات، بل يجب إعفاؤها وتوفيرها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين، وفروا اللحى واحفوا الشوارب))، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)). وقد عظمت المصيبة في هذا العصر بمخالفة كثير من الناس هذه السنة، ومحاربتهم للحى، ورضاهم بمشابهة الكفار والنساء، ولا سيما من ينتسب إلى العلم والتعليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يهدينا وسائر المسلمين لموافقة السنة والتمسك بها، والدعوة إليها، وإن رغب عنها الأكثرون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم يلبس الذكر إزارا ورداء، ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين، ويستحب أن يحرم في نعلين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله. وأما المرأة فيجوز لها أن تحرم فيما شاءت من أسود أو أخضر أو غيرهما مع الحذر من التشبه بالرجال في لباسهم، لكن ليس لها أن تلبس النقاب والقفازين حال إحرامها، ولكن تغطي وجهها وكفيها بغير النقاب والقفازين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحرمة عن لبس النقاب والقفازين. وأما تخصيص بعض العامة إحرام المرأة في الأخضر أو الأسود دون غيرهما فلا أصل له. ثم بعد الفراغ من الغسل والتنظيف ولبس ثياب الإحرام، ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده من حج أو عمرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، ويشرع له التلفظ بما نوى، فإن كانت نيته العمرة قال: ((لبيك عمرة)) أو ((اللهم لبيك عمرة)). وإن كانت نيته الحج قال: ((لبيك حجا)) أو: ((اللهم لبيك حجا))؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك والأفضل أن يكون التلفظ بذلك بعد استوائه على مركوبه من دابة أو سيارة أو غيرهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أهل بعد ما استوى على راحلته وانبعثت به من الميقات للسير، هذا هو الأصح من أقوال أهل العلم. ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الصلاة والطواف وغيرهما فينبغي له ألا يتلفظ في شيء منها بالنية، فلا يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة والجهر بذلك أقبح وأشد إثما، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح. فلما لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم علم أنه بدعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته، وفي لفظ لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)). فصل في المواقيت المكانية وتحديدها المواقيت خمسة: (الأول) ذو الحليفة وهو ميقات أهل المدينة وهو المسمى عند الناس اليوم أبيار علي. (الثاني): الجحفة وهي ميقات أهل الشام وهي قرية خراب تلي رابغ، والناس اليوم يحرمون من رابغ، ومن أحرم من رابغ فقد أحرم من الميقات، لأن رابغ قبلها بيسير. (الثالث): قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد وهو المسمى اليوم السيل. (الرابع): يلملم وهو ميقات أهل اليمن. (الخامس): ذات عرق وهي ميقات أهل العراق. وهذه المواقيت قد وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لمن ذكرنا ومن مر عليها من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة. والواجب على من مر عليها أن يحرم منها. ويحرم عليه أن يتجاوزها بدون إحرام إذا كان قاصدا مكة يريد حجا أو عمرة سواء كان مروره عليها من طريق الأرض أو من طريق الجو؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت هذه المواقيت: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)). والمشروع لمن توجه إلى مكة من طريق الجو بقصد الحج أو العمرة أن يتأهب لذلك بالغسل ونحوه قبل الركوب في الطائرة، فإذا دنا من الميقات لبس إزاره ورداءه ثم لبى بالعمرة إن كان الوقت متسعا، وإن كان الوقت ضيقا لبى بالحج، وإن لبس إزاره ورداءه قبل الركوب أو قبل الدنو من الميقات، فلا بأس، ولكن لا ينوي الدخول في النسك ولا يلبي بذلك إلا إذا حاذى الميقات أو دنا منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم إلا من الميقات، والواجب على الأمة التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك كغيره من شئون الدين؛ لقول الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[10] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((خذوا عني مناسككم)). وأما من توجه إلى مكة ولم يرد حجا ولا عمرة كالتاجر والحطاب والبريد ونحو ذلك فليس عليه إحرام إلا أن يرغب في ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم لما ذكر المواقيت: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة))، فمفهومه أن من مر على المواقيت ولم يرد حجا ولا عمرة فلا إحرام عليه. وهذا من رحمة الله بعباده وتسهيله عليهم فله الحمد والشكر على ذلك، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى مكة عام الفتح لم يحرم بل دخلها وعلى رأسه المغفر لكونه لم يرد حينذاك حجا ولا عمرة وإنما أراد افتتاحها وإزالة ما فيها من الشرك. وأما من كان مسكنه دون المواقيت كسكان جدة وأم السلم وبحرة والشرائع وبدر ومستورة وأشباهها فليس عليه أن يذهب إلى شيء من المواقيت الخمسة المتقدمة بل مسكنه هو ميقاته فيحرم منه بما أراد من حج أو عمرة، وإذا كان له مسكن آخر خارج الميقات فهو بالخيار إن شاء أحرم من الميقات وإن شاء أحرم من مسكنه الذي هو أقرب من الميقات إلى مكة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس لما ذكر المواقيت قال: ((ومن كان دون ذلك فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة)) أخرجه البخاري ومسلم. لكن من أراد العمرة وهو في الحرم فعليه أنه يخرج إلى الحل ويحرم بالعمرة منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلبت منه عائشة العمرة أمر أخاها عبد الرحمن أن يخرج بها إلى الحل فتحرم منه فدل ذلك على أن المعتمر لا يحرم بالعمرة من الحرم وإنما يحرم بها من الحل، وهذا الحديث يخص حديث ابن عباس المتقدم، ويدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((حتى أهل مكة يهلون من مكة)) هو الإهلال بالحج لا العمرة، إذ لو كان الإهلال بالعمرة جائزا من الحرم لأذن لعائشة رضي الله عنها في ذلك، ولم يكلفها بالخروج إلى الحل، وهذا أمر واضح وهو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وهو أحوط للمؤمن؛ لأن فيه العمل بالحديثين جميعا والله الموفق. وأما ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم أو الجعرانة أو غيرهما وقد سبق أن اعتمر قبل الحج فلا دليل على شرعيته بل الأدلة تدل على أن الأفضل تركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج، وإنما اعتمرت عائشة من التنعيم لكونها لم تعتمر مع الناس حين دخول مكة بسبب الحيض، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتمر بدلا من عمرتها التي أحرمت بها من الميقات، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وقد حصلت لها العمرتان، العمرة التي مع حجها وهذه العمرة المفردة، فمن كان مثل عائشة فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج عملا بالأدلة كلها وتوسيعا على المسلمين ولا شك أن اشتغال الحجاج بعمرة أخرى بعد فراغهم من الحج سوى العمرة التي دخلوا بها مكة يشق على الجميع، ويسبب كثرة الزحام والحوادث مع ما فيه من المخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته. والله الموفق. فصل في حكم من وصل إلى الميقات في غير أشهر الحج اعلم أن الواصل إلى الميقات له حالان: إحداهما: أن يصل إليه في غير أشهر الحج كرمضان وشعبان فالسنة في حق هذا أن يحرم بالعمرة فينويها بقلبه، ويتلفظ بلسانه قائلا: "لبيك عمرة" أو "اللهم لبيك عمرة"، ثم يلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وهي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، ويكثر من هذه التلبية ومن ذكر الله سبحانه حتى يصل إلى البيت، فإذا وصل إلى البيت قطع التلبية وطاف بالبيت سبعة أشواط، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم خرج إلى الصفا وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم حلق شعر رأسه أو قصره وبذلك تمت عمرته، وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام. الثانية: أن يصل إلى الميقات في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فمثل هذا يخير بين ثلاثة أشياء، وهي: الحج وحده، والعمرة وحدها، والجمع بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الميقات في ذي القعدة في حجة الوداع خير أصحابه بين هذه الأنساك الثلاثة، لكن السنة في حق هذا أيضا إذا لم يكن معه هدي أن يحرم بالعمرة، ويفعل ما ذكرناه في حق من وصل إلى الميقات في غير أشهر الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما قربوا من مكة أن يجعلوا إحرامهم عمرة، وأكد عليهم في ذلك بمكة فطافوا وسعوا وقصروا وحلوا امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم إلا من كان معه الهدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبقى على إحرامه حتى يحل يوم النحر، والسنة في حق من ساق الهدي أن يحرم بالحج والعمرة جميعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وكان قد ساق الهدي وأمر من ساق الهدي من أصحابه وقد أهل بعمرة أن يلبي بحج مع عمرته، وألا يحل حتى يحل منهما جميعا يوم النحر، وإن كان الذي ساق الهدي قد أحرم بالحج وحده بقي على إحرامه أيضا حتى يحل يوم النحر كالقارن بينهما. وعلم بهذا: أن من أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة وليس معه هدي لا ينبغي له أن يبقى على إحرامه بل السنة في حقه أن يجعل إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويحل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي من أصحابه بذلك، إلا أن يخشى هذا فوات الحج لكونه قدم متأخرا فلا بأس أن يبقى على إحرامه. والله أعلم. وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نسكه لكونه مريضا أو خائفا من عدو ونحوه استحب له أن يقول عند إحرامه: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" لحديث ضباعة بنت الزبير أنها قالت: ((يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي إن محلي حيث حبستني)) متفق عليه. وفائدة هذا الشرط أن المحرم إذا عرض له ما يمنعه من تمام نسكه من مرض أو صد عدو جاز له التحلل ولا شيء عليه. فصل في حكم حج الصبي الصغير هل يجزئه عن حجة الإسلام؟ يصح حج الصبي الصغير والجارية الصغيرة لما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال: ((نعم ولك أجر))، وفي صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: (حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين). لكن لا يجزئهما هذا الحج عن حجة الإسلام. وهكذا العبد المملوك والجارية المملوكة يصح منهما الحج ولا يجزئهما عن حجة الإسلام لما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى)) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بإسناد حسن. ثم إن كان الصبي دون التمييز نوى عنه الإحرام وليه فيجرده من المخيط ويلبي عنه، ويصير الصبي محرما بذلك، فيمنع ما يمنع عنه المحرم الكبير، وهكذا الجارية التي دون التمييز ينوي عنها الإحرام وليها ويلبي عنها وتصير محرمة بذلك، وتمنع مما تمنع منه المحرمة الكبيرة، وينبغي أن يكونا طاهري الثياب والأبدان حال الطواف؛ لأن الطواف يشبه الصلاة، والطهارة شرط لصحتها. وإن كان الصبي والجارية مميزين أحرما بإذن وليهما وفعلا عند الإحرام ما يفعله الكبير من الغسل والطيب ونحوهما، ووليهما هو المتولي لشئونهما القائم بمصالحهما، سواء كان أباهما أو أمهما أو غيرهما، ويفعل الولي عنهما ما عجزا عنه كالرمي ونحوه، ويلزمهما فعل ما سوى ذلك من المناسك كالوقوف بعرفة والمبيت بمنى ومزدلفة والطواف والسعي، فإن عجزا عن الطواف والسعي طِيفَ بهما وسعي بهما محمولين، والأفضل لحاملهما ألا يجعل الطواف والسعي مشتركين بينه وبينهما، بل ينوي الطواف والسعي لهما ويطوف لنفسه طوافا مستقلا، ويسعى لنفسه سعيا مستقلا احتياطا للعبادة، وعملا بالحديث الشريف: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، فإن نوى الحامل الطواف عنه وعن المحمول أجزأه ذلك في أصح القولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر التي سألته عن حج الصبي أن تطوف له وحده، ولو كان ذلك واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم. والله الموفق. ويؤمر الصبي المميز والجارية المميزة بالطهارة من الحدث والنجس قبل الشروع في الطواف كالمحرم الكبير، وليس الإحرام عن الصبي الصغير والجارية الصغيرة بواجب على وليهما بل هو نفل، فإن فعل ذلك فله أجر وإن ترك ذلك فلا حرج عليه. والله أعلم. فصل في بيان محظورات الإحرام وما يباح فعله للمحرم لا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام سواء كان ذكرا أو أنثى أن يأخذ شيئا من شعره أو أظفاره أو يتطيب. ولا يجوز للذكر خاصة أن يلبس مخيطا على جملته -يعني على هيئته التي فصل وخيط عليها- كالقميص أو على بعضه كالفانلة والسراويل والخفين والجوربين إلا إذا لم يجد إزارا جاز له لبس السراويل، وكذا من لم يجد نعلين جاز له لبس الخفين من غير قطع لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل)). وأما ما ورد في حديث ابن عمر من الأمر بقطع الخفين إذا احتاج إلى لبسهما لفقد النعلين فهو منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في المدينة لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب، ثم لما خطب الناس بعرفات أذن في لبس الخفين عند فقد النعلين ولم يأمر بقطعهما، وقد حضر هذه الخطبة من لم يسمع جوابه في المدينة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز كما قد علم في علمي أصول الحديث والفقه، فثبت بذلك نسخ الأمر بالقطع، ولو كان ذلك واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. ويجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها دون الكعبين لكونها من جنس النعلين. ويجوز له عقد الإزار وربطه بخيط ونحوه لعدم الدليل المقتضي للمنع. ويجوز للمحرم أن يغتسل ويغسل رأسه ويحكه إذا احتاج إلى ذلك برفق وسهولة، فإن سقط من رأسه شيء بسبب ذلك فلا حرج عليه. ويحرم على المرأة المحرمة أن تلبس مخيطا لوجهها كالبرقع والنقاب، أو ليديها كالقفازين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)) رواه البخاري. والقفازان: ما يخاط أو ينسج من الصوف أو القطن أو غيرهما على قدر اليدين. ويباح لها من المخيط ما سوى ذلك كالقميص والسراويل والخفين والجوارب ونحو ذلك، وكذلك يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) أخرجه أبو داود وابن ماجه. وأخرج الدارقطني من حديث أم سلمة مثله. كذلك لا بأس أن تغطي يديها بثوبها أو غيره ويجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب؛ لأنها عورة، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}[11] الآية، ولا ريب أن الوجه والكفين من أعظم الزينة. والوجه في ذلك أشد وأعظم وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[12] الآية. وأما ما اعتادته الكثيرات من النساء من جعل العصابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها فلا أصل له في الشرع فيما نعلم، ولو كان ذلك مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ولم يجز له السكوت عنه. ويجوز للمحرم من الرجال والنساء غسل ثيابه التي أحرم فيها من وسخ أو نحوه، ويجوز له إبدالها بغيرها ولا يجوز له لبس شيء من الثياب مسه الزعفران أو الورس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك في حديث ابن عمر. ويجب على المحرم أن يترك الرفث والفسوق والجدال لقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[13] . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) والرفث: يطلق على الجماع وعلى الفحش من القول والفعل. والفسوق: المعاصي. والجدال: المخاصمة في الباطل أو فيما لا فائدة فيه. فأما الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الباطل فلا بأس به، بل هو مأمور به؛ لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[14] . ويحرم على المحرم الذكر تغطية رأسه بملاصق كالطاقية والغترة والعمامة أو نحو ذلك، وهكذا وجهه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي سقط عن راحلته يوم عرفة ومات: ((اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ووجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)) متفق عليه. وهذا لفظ مسلم. وأما استظلاله بسقف السيارة أو الشمسية أو نحوهما فلا بأس به كالاستظلال بالخيمة والشجرة لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلل عليه بثوب حين رمى جمرة العقبة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضربت له قبة بنمرة فنزل تحتها حتى زالت الشمس يوم عرفة. ويحرم على المحرم من الرجال والنساء قتل الصيد البري والمعاونة في ذلك وتنفيره من مكانه، وعقد النكاح والجماع وخطبة النساء ومباشرتهن بشهوة لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)) رواه مسلم. وإن لبس المحرم مخيطا أو غطى رأسه أو تطيب ناسيا أو جاهلا فلا فدية عليه، ويزيل ذلك متى ذكر أو علم، وهكذا من حلق رأسه أو أخذ من شعره شيئا أو قلم أظافره ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه على الصحيح، ويحرم على المسلم محرما كان أو غير محرم ذكرا كان أو أنثى قتل صيد الحرم والمعاونة في قتله بآلة أو إشارة أو نحو ذلك. ويحرم تنفيره من مكانه، ويحرم قطع شجر الحرم ونباته الأخضر ولقطته إلا لمن يعرفها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا البلد- يعني مكة- حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد)) متفق عليه. والمنشد هو الْمُعَرِّف، والخلا هو الحشيش الرطب، ومنى ومزدلفة من الحرم، وأما عرفة فمن الحل. فصل فيما يفعله الحاج عند دخول مكة وبيان ما يفعله بعد دخول المسجد الحرام من الطواف وصفته فإذا وصل المحرم إلى مكة استحب له أن يغتسل قبل دخولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ فإذا وصل إلى المسجد الحرام سن له تقديم رجله اليمنى ويقول: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك)) ويقول ذلك عند دخول سائر المساجد وليس لدخول المسجد الحرام ذكر يخصه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم. فإذا وصل إلى الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف إن كان متمتعا أو معتمرا، ثم قصد الحجر الأسود واستقبله، ثم يستلمه بيمينه ويقبله إن تيسر ذلك ولا يؤذي الناس بالمزاحمة، ويقول عند استلامه: "بسم الله والله أكبر". فإن شق التقبيل استلمه بيده أو عصا، وَقَبَّلَ ما استلمه به، فإن شق استلامه أشار إليه، وقال: "الله أكبر". ولا يقبل ما يشير به، ويجعل البيت عن يساره حال الطواف، وإن قال في ابتداء طوافه: ((اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم)) فهو حسن لأن ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطوف سبعة أشواط ويرمل في جميع الثلاثة الأول من الطواف الأول وهو الطواف الذي يأتي به أول ما يقدم مكة، أي طواف القدوم سواء كان معتمرا أو متمتعا أو محرما بالحج وحده، أو قارنا بينه وبين العمرة، ويمشي في الأربعة الباقية، يبتدئ كل شوط بالحجر الأسود ويختم به، والرمل هو الإسراع في المشي مع مقاربة الخطى. ويستحب له أن يضطبع في جميع هذا الطواف دون غيره، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإن شك في عدد الأشواط بنى على اليقين وهو الأقل، فإذا شك هل طاف ثلاثة أشواط أو أربعة جعلها ثلاثة، وهكذا يفعل في السعي. وبعد فراغه من هذا الطواف يرتدي بردائه فيجعله على كتفيه وطرفيه على صدره قبل أن يصلي ركعتي الطواف. ومما ينبغي إنكاره على النساء وتحذيرهن منه: طوافهن بالزينة والروائح الطيبة وعدم التستر وهن عورة، فيجب عليهن التستر وترك الزينة حال الطواف وغيرها من الحالات التي يختلط فيها النساء مع الرجال؛ لأنهن عورة وفتنة، ووجه المرأة هو أظهر زينتها، فلا يجوز لها إبداؤه إلا لمحارمها لقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}[15] الآية، فلا يجوز لهن كشف الوجه عند تقبيل الحجر الأسود إذا كان يراهن أحد من الرجال، وإذا لم يتيسر لهن فسحة لاستلام الحجر وتقبيله فلا يجوز لهن مزاحمة الرجال، بل يطفن من ورائهم وذلك خير لهن وأعظم أجرا من الطواف قرب الكعبة حال مزاحمتهن الرجال، ولا يشرع الرمل والاضطباع في غير هذا الطواف ولا في السعي ولا للنساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل الرمل والاضطباع إلا في طوافه الأول الذي أتى به حين قدم مكة، ويكون حال الطواف متطهرا من الأحداث والأخباث، خاضعا لربه متواضعا له. ويستحب له أن يكثر في طوافه من ذكر الله والدعاء، وإن قرأ فيه شيئا من القرآن فحسن، ولا يجب في هذا الطواف ولا غيره من الأطوفة. ولا في السعي ذكر مخصوص ولا دعاء مخصوص. وأما ما أحدثه بعض الناس من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة أو أدعية مخصوصة فلا أصل له، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كفى فإذا حاذى الركن اليماني استلمه بيمينه وقال: "بسم الله والله أكبر" ولا يقبله، فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في طوافه، ولا يشير إليه ولا يكبر عند محاذاته؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، ويستحب له أن يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[16] ، وكلما حاذى الحجر الأسود استلمه وقبله وقال: "الله أكبر". فإن لم يتيسر استلامه وتقبيله أشار إليه كلما حاذاه وكبر. ولا بأس بالطواف من وراء زمزم والمقام ولا سيما عند الزحام والمسجد كله محل للطواف ولو طاف في أروقة المسجد أجزأه ذلك، ولكن طوافه قرب الكعبة أفضل إذا تيسر ذلك. فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف المقام إذا تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له ذلك لزحام ونحوه صلاهما في أي موضع من المسجد، ويسن أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[17] و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[18] ، ثم يقصد الحجر الأسود فيستلمه بيمينه إن تيسر له ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه أو يقف عنده والرقي على الصفا أفضل إن تيسر، ويقرأ عند ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللَّهِ}[19] الآية. ويستحب أن يستقبل القبلة ويحمد الله ويكبره ويقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم يدعو بما تيسر رافعا يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلى العلم الثاني، وأما المرأة فلا يشرع لها الإسراع بين العلمين لأنها عورة، وإنما المشروع لها المشي في السعي كله، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها والرقي عليها أفضل إن تيسر ذلك، ويقول ويفعل على المروة كما قال وفعل على الصفا. ما عدا قراءة الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللَّهِ}[20] ، فهذا إنما يشرع عند الصعود إلى الصفا في الشوط الأول فقط؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسرع في موضع الإسراع حتى يصل إلى الصفا، يفعل ذلك سبع مرات ذهابه شوط، ورجوعه شوط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما ذكر، وقال: ((خذوا عني مناسككم))، ويستحب أن يكثر في سعيه من الذكر والدعاء بما تيسر، وأن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر، ولو سعى على غير طهارة أجزأه ذلك، وهكذا لو حاضت المرأة أو نفست بعد الطواف سعت وأجزأها ذلك؛ لأن الطهارة ليست شرطا في السعي، وإنما هي مستحبة كما تقدم. فإذا كمل السعي حلق رأسه أو قصره، والحلق للرجل أفضل فإن قصر وترك الحلق للحج فحسن، وإذا كان قدومه مكة قريبا من وقت الحج فالتقصير في حقه أفضل ليحلق بقية رأسه في الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم هو وأصحابه مكة في رابع ذي الحجة أمر من لم يسق الهدي أن يحل ويقصر، ولم يأمرهم بالحلق، ولا بد في التقصير من تعميم الرأس، ولا يكفي تقصير بعضه، كما أن حلق بعضه لا يكفي، والمرأة لا يشرع لها إلا التقصير، والمشروع لها أن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل، والأنملة هي رأس الإصبع، ولا تأخذ المرأة زيادة على ذلك. فإذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، إلا أن يكون قد ساق الهدي من الحل فإنه يبقى على إحرامه حتى يحل من الحج والعمرة جميعا. وأما من أحرم بالحج مفردا أو بالحج والعمرة جميعا فيسن له أن يفسخ إحرامه إلى العمرة ويفعل ما يفعله المتمتع إلا أن يكون قد ساق الهدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك وقال: ((لولا أني سقت الهدي لأحللت معكم)). وإذا حاضت المرأة أو نفست بعد إحرامها بالعمرة لم تطف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر، فإذا طهرت طافت وسعت وقصرت من رأسها، وتمت عمرتها بذلك، فإن لم تطهر قبل يوم التروية أحرمت بالحج من مكانها الذي هي مقيمة فيه، وخرجت مع الناس إلى منى، وتصير بذلك قارنة بين الحج والعمرة، وتفعل ما يفعله الحاج من الوقوف بعرفة وعند المشعر ورمي الجمار والمبيت بمزدلفة ومنى ونحر الهدي والتقصير، فإذا طهرت طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة طوافا واحدا وسعيا واحدا، وأجزأها ذلك عن حجها وعمرتها جميعا؛ لحديث عائشة أنها حاضت بعد إحرامها بالعمرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) متفق عليه. وإذا رمت الحائض والنفساء الجمرة يوم النحر وقصرت من شعرها حل لها كل شيء حرم عليها بالإحرام كالطيب ونحوه إلا الزوج حتى تكمل حجها كغيرها من النساء الطاهرات، فإذا طافت وسعت بعد الطهر حل لها زوجها. فصل في حكم الإحرام بالحج يوم الثامن من ذي الحجة والخروج إلى منى فإذا كان يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة استحب للمحلين بمكة ومن أراد الحج من أهلها الإحرام بالحج من مساكنهم، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا بالأبطح وأحرموا بالحج منه يوم التروية عن أمره صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى البيت فيحرموا عنده، أو عند الميزاب، وكذا لم يأمرهم بطواف الوداع عند خروجهم إلى منى، ولو كان ذلك مشروعا لعلمهم إياه، والخير كله في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. ويستحب أن يغتسل ويتنظف ويتطيب عند إحرامه بالحج كما يفعل ذلك عند إحرامه من الميقات، وبعد إحرامهم بالحج يسن لهم التوجه إلى منى قبل الزوال أو بعده من يوم التروية، ويكثروا من التلبية إلى أن يرموا جمرة العقبة، ويصلون بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، والسنة أن يصلوا كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع إلا المغرب والفجر فلا يقصران. ولا فرق بين أهل مكة وغيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة قصرا، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولو كان واجبا عليهم لبينه لهم. ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج من منى إلى عرفة، ويسن أن ينزلوا بنمرة إلى الزوال، إن تيسر ذلك لفعله صلى الله عليه وسلم. فإذا زالت الشمس يسن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال يبين فيها ما يشرع للحاج في هذا اليوم وبعده، ويأمرهم فيها بتقوى الله وتوحيده والإخلاص له في كل الأعمال، ويحذرهم من محارمه، ويوصيهم فيها بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحكم بهما والتحاكم إليهما في كل الأمور اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، وبعدها يصلون الظهر والعصر قصرا وجمعا في وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين لفعله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم من حديث جابر. ثم يقف الناس بعرفة، وكلها موقف إلا بطن عرنة، ويستحب استقبال القبلة وجبل الرحمة إن تيسر ذلك، فإن لم يتيسر استقبالهما استقبل القبلة وإن لم يستقبل الجبل، ويستحب للحاج في هذا الموقف أن يجتهد في ذكر الله سبحانه ودعائه والتضرع إليه، ويرفع يديه حال الدعاء، وإن لبى أو قرأ شيئا من القرآن فحسن، ويسن أن يكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير))، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)). فينبغي الإكثار من هذا الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب وينبغي الإكثار أيضا من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت ولا سيما في هذا الموضع في هذا اليوم العظيم، ويختار جوامع الذكر والدعاء، ومن ذلك "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[21] . ((لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون))، ((لا حول ولا قوة إلا بالله)). {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[22] . ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)). ((أعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)). ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن المأثم والمغرم، ومن غلبة الدين وقهر الرجال))، ((أعوذ بك اللهم من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام)). ((اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي، اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني)). ((اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)). ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم إنك علام الغيوب)). ((اللهم رب النبي محمد عليه الصلاة والسلام اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأعذني من مضلات الفتن ما أبقيتني)). ((اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر، اللهم أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، أعوذ بعزتك أن تضلني لا إله إلا أنت، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها. اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء. اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي. اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك)). ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم إني أسألك الهدى والسداد)). ((اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم)). ((اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)). ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[23] . ويستحب في هذا الموقف العظيم أن يكرر الحاج ما تقدم من الأذكار والأدعية وما كان في معناها من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويلح في الدعاء. ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا كرر الدعاء ثلاثا فينبغي التأسي به في ذلك عليه الصلاة والسلام. ويكون المسلم في هذا الموقف مخبتا لربه سبحانه متواضعا له خاضعا لجنابه منكسرا بين يديه، يرجو رحمته ومغفرته، ويخاف عذابه ومقته، ويحاسب نفسه ويجدد توبة نصوحا؛ لأن هذا يوم عظيم، ومجمع كبير، يجود الله فيه على عباده، ويباهي بهم ملائكته، ويكثر فيه العتق من النار، وما رئي الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أصغر ولا أحقر منه في يوم عرفة، إلا ما رئي يوم بدر، وذلك لما يرى من جود الله على عباده وإحسانه إليهم وكثرة إعتاقه ومغفرته. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟)). فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيرا وأن يهينوا عدوهم الشيطان ويحزنوه بكثرة الذكر والدعاء وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا، ولا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر والدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت انصرفوا إلى مزدلفة بسكينة ووقار، وأكثروا من التلبية وأسرعوا في المتسع؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الانصراف قبل الغروب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس وقال: ((خذوا عني مناسككم)). فإذا وصلوا إلى مزدلفة صلوا بها المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين جمعا بأذان وإقامتين من حين وصولهم إليها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، سواء وصلوا إلى مزدلفة في وقت المغرب أو بعد دخول وقت العشاء. وما يفعله بعض العامة من لقط حصى الجمار من حين وصوله إلى مزدلفة قبل الصلاة واعتقاد كثير منهم أن ذلك مشروع فهو غلط لا أصل له، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن يلتقط له الحصى إلا بعد انصرافه من المشعر إلى منى، ومن أي موضع لقط الحصى أجزأه ذلك، ولا يتعين لقطه من مزدلفة بل يجوز لقطه من منى، والسنة التقاط سبع في هذا اليوم يرمي بها جمرة العقبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما في الأيام الثلاثة فيلتقط من منى كل يوم إحدى وعشرين حصاة، يرمي بها الجمار الثلاث. ولا يستحب غسل الحصى بل يرمي به من غير غسل؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يرمي بحصى قد رمي به. ويبيت الحاج في هذه الليلة بمزدلفة ويجوز للضعفاء من النساء والصبيان ونحوهم أن يدفعوا إلى منى آخر الليل. لحديث عائشة وأم سلمة وغيرهما. وأما غيرهم من الحجاج فيتأكد في حقهم أن يقيموا بها إلى أن يصلوا الفجر ثم يقفوا عند المشعر الحرام فيستقبلوا القبلة ويكثروا من ذكر الله وتكبيره والدعاء إلى أن يسفروا جدا، ويستحب رفع اليدين هنا حال الدعاء وحيثما وقفوا من مزدلفة أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم القرب من المشعر ولا صعوده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقمت ههنا - يعني على المشعر - وجمع كلها موقف)). رواه مسلم في صحيحه، وجمع هي مزدلفة. فإذا أسفروا جدا انصرفوا إلى منى قبل طلوع الشمس وأكثروا من التلبية في سيرهم فإذا وصلوا إلى محسر استحب الإسراع قليلا. فإذا وصلوا إلى منى قطعوا التلبية عند جمرة العقبة ثم رموها من حين وصولهم بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده عند رمي كل حصاة ويكبر، ويستحب أن يرميها من بطن الوادي ويجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه ؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن رماها من الجوانب الأخرى أجزأه إذا وقع الحصى في المرمى، ولا يشترط بقاء الحصى في المرمى وإنما المشترط وقوعه فيه فلو وقعت الحصاة في المرمى ثم خرجت منه أجزأت في ظاهر كلام أهل العلم. وممن صرح بذلك النووي رحمه الله في شرح المهذب، ويكون حصى الجمار مثل حصى الخذف، وهو أكبر من الحمص قليلا. ثم بعد الرمي ينحر هديه ويستحب أن يقول عند نحره أو ذبحه: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك". ويوجه إلى القبلة، والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر، ولو ذبح إلى غير القبلة ترك السنة وأجزأته ذبيحته؛ لأن التوجيه إلى القبلة عند الذبح سنة وليس بواجب، ويستحب أن يأكل من هديه ويهدي ويتصدق لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[24] ، ويمتد وقت الذبح إلى غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق في أصح أقوال أهل العلم، فتكون مدة الذبح يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ثم بعد نحر الهدي أو ذبحه يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة والمغفرة للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين واحدة، ولا يكفي تقصير بعض الرأس بل لا بد من تقصيره كله كالحلق، والمرأة تقصر من كل ضفيرة قدر أنملة فأقل. وبعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ويسمى هذا التحلل: التحلل الأول، ويسن له بعد هذا التحلل التطيب والتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت) أخرجه البخاري ومسلم. ويسمى هذا الطواف طواف الإفاضة وطواف الزيارة وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، وهو المراد في قوله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[25] . ثم بعد الطواف وصلاة الركعتين خلف المقام يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا، وهذا السعي لحجه والسعي الأول لعمرته. ولا يكفي سعي واحد في أصح قول العلماء لحديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث وفيه فقال: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا)) إلى أن قالت: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) رواه البخاري ومسلم. وقولها رضي الله عنها عن الذين أهلوا بالعمرة ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، تعني به الطواف بين الصفا والمروة على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث، وأما قول من قال: أرادت بذلك طواف الإفاضة، فليس بصحيح، لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه، وإنما المراد بذلك ما يخص المتمتع، وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى لتكميل حجه، وذلك واضح بحمد الله، وهو قول أكثر أهل العلم ويدل على صحة ذلك أيضا ما رواه البخاري في الصحيح تعليقا مجزوما به عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن متعة الحج فقال. (أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي))، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة). انتهى المقصود منه وهو صريح في سعي المتمتع مرتين. والله أعلم. وأما ما رواه مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا. طوافهم الأول فهو محمول على من ساق الهدي من الصحابة؛ لأنهم بقوا على إحرامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى حلوا من الحج والعمرة جميعا. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أهل بالحج والعمرة وأمر من ساق الهدي أن يهل بالحج مع العمرة وألا يحل حتى يحل منهما جميعا، والقارن بين الحج والعمرة ليس عليه إلا سعي واحد كما دل عليه حديث جابر المذكور، وغيره من الأحاديث الصحيحة. وهكذا من أفرد الحج وبقي على إحرامه إلى يوم النحر ليس عليه إلا سعي واحد، فإذا سعى القارن والمفرد بعد طواف القدوم كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة، وهذا هو الجمع بين حديثي عائشة وابن عباس وبين حديث جابر المذكور وبذلك يزول التعارض ويحصل العمل بالأحاديث كلها. ومما يؤيد هذا الجمع أن حديثي عائشة وابن عباس حديثان صحيحان وقد أثبتا السعي الثاني في حق المتمتع، وظاهر حديث جابر ينفي ذلك، والمثبت مقدم على النافي كما هو مقرر في علمي الأصول ومصطلح الحديث، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فصل في بيان أفضلية ما يفعله الحاج يوم النحر والأفضل للحاج أن يرتب هذه الأمور الأربعة يوم النحر كما ذكر فيبدأ أولا برمي جمرة العقبة، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف بالبيت والسعي بعده للمتمتع، وكذلك للمفرد والقارن إذا لم يسعيا مع طواف القدوم، فإن قدم بعض هذه الأمور على بعض أجزأه ذلك لثبوت الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويدخل في ذلك تقديم السعي على الطواف؛ لأنه من الأمور التي تفعل يوم النحر فدخل في قول الصحابي. فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج))، ولأن ذلك مما يقع في النسيان والجهل فوجب دخوله في هذا العموم لما في ذلك من التيسير والتسهيل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن سعى قبل أن يطوف فقال: ((لا حرج)) أخرجه أبو داود من حديث أسامة بن شريك بإسناد صحيح. فاتضح بذلك دخوله في العموم من غير شك. والله الموفق. والأمور التي يحصل للحاج بها التحلل التام ثلاثة وهي رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة مع السعي بعده لما ذكر آنفا، فإذا فعل هذه الثلاثة حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من النساء والطيب وغير ذلك، ومن فعل اثنين منها حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ويسمى هذا بالتحلل الأول. ويستحب للحاج الشرب من ماء زمزم والتضلع منه، والدعاء بما تيسر من الدعاء النافع، وماء زمزم لما شرب له كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: ((إنه طعام طعم)) زاد أبو داود: ((وشفاء سقم)). وبعد طواف الإفاضة والسعي ممن عليه سعي يرجع الحجاج إلى منى فيقيمون بها ثلاثة أيام بلياليها ويرمون الجمار الثلاث في كل يوم من الأيام الثلاثة بعد زوال الشمس ويجب الترتيب في رميها. فيبدأ بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات متعاقبات يرفع يده عند كل حصاة، ويسن أن يتأخر عنها ويجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويكثر من الدعاء والتضرع. ثم يرمي الجمرة الثانية كالأولى، ويسن أن يتقدم قليلا بعد رميها ويجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة ويرفع يديه فيدعو كثيرا. ثم يرمي الجمرة الثالثة ولا يقف عندها. ثم يرمي الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال كما رماها في اليوم الأول، ويفعل عند الأولى والثانية كما فعل في اليوم الأول اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. والرمي في اليومين الأولين من أيام التشريق واجب من واجبات الحج، وكذا المبيت بمنى في الليلة الأولى والثانية واجب إلا على السقاة والرعاة ونحوهم فلا يجب. ثم بعد الرمي في اليومين المذكورين من أحب أن يتعجل من منى جاز له ذلك، ويخرج قبل غروب الشمس، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجرا كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}[26] (الآية؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للناس في التعجل ولم يتعجل هو بل أقام بمنى حتى رمى الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، ثم ارتحل قبل أن يصلي الظهر. ويجوز لولي الصبي العاجز عن مباشرة الرمي أن يرمي عنه جمرة العقبة وسائر الجمار بعد أن يرمي عن نفسه، وهكذا البنت الصغيرة العاجزة عن الرمي يرمي عنها وليها؛ لحديث جابر قال: (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) أخرجه ابن ماجه. ويجوز للعاجز عن الرمي لمرض أو كبر سن أو حمل أن يوكل من يرمي عنه لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[27] ، وهؤلاء لا يستطيعون مزاحمة الناس عند الجمرات وزمن الرمي يفوت، ولا يشرع قضاؤه لهم فجاز لهم أن يوكلوا بخلاف غيره من المناسك فلا ينبغي للمحرم أن يستنيب من يؤديه عنه، ولو كان حجه نافلة؛ لأن من أحرم بالحج أو العمرة ولو كانا نفلين لزمه إتمامهما لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[28] ، وزمن الطواف والسعي لا يفوت بخلاف زمن الرمي. وأما الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى فلا شك أن زمنها يفوت، ولكن حصول العاجز في هذه المواضع ممكن ولو مع المشقة بخلاف مباشرته للرمي، ولأن الرمي قد وردت الاستنابة فيه عن السلف الصالح في حق المعذور بخلاف غيره. والعبادات توقيفية ليس لأحد أن يشرع منها شيئا إلا بحجة، ويجوز للنائب أن يرمي عن نفسه ثم عن مستنيبه كل جمرة من الجمار الثلاث، وهو في موقف واحد، ولا يجب عليه أن يكمل رمي الجمار الثلاث عن نفسه، ثم يرجع فيرمي عن مستنيبه في أصح قولي العلماء لعدم الدليل الموجب لذلك ولما في ذلك من المشقة والحرج والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا))، ولأن ذلك لم ينقل عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رموا عن صبيانهم والعاجز منهم، ولو فعلوا ذلك لنقل؛ لأنه مما تتوافر الهمم على نقله. والله أعلم. فصل في وجوب الدم على المتمتع والقارن ويجب على الحاج إذا كان متمتعا أو قارنا ولم يكن من حاضري المسجد الحرام دم، وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة. ويجب أن يكون ذلك من مال حلال وكسب طيب؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وينبغي للمسلم التعفف عن سؤال الناس هديا أو غيره، سواء كانوا ملوكا أو غيرهم، إذا يسر الله له من ماله ما يهديه عن نفسه ويغنيه عما في أيدي الناس لما جاء في الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم السؤال وعيبه، ومدح من تركه. فإن عجز المتمتع والقارن عن الهدي وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وهو مخير في صيام الثلاثة إن شاء صامها قبل يوم النحر وإن شاء صامها في أيام التشريق الثلاثة. قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[30] الآية. وفي صحيح البخاري عن عائشة وابن عمر قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي)، وهذا في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والأفضل أن يقدم صوم الأيام الثلاثة على يوم عرفة ليكون في يوم عرفة مفطرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوم عرفة مفطرا ونهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، ولأن الفطر في هذا اليوم أنشط له على الذكر والدعاء، ويجوز صوم الثلاثة الأيام المذكورة متتابعة ومتفرقة، وكذا صوم السبعة لا يجب عليه التتابع فيها بل يجوز صومها مجتمعة ومتفرقة؛ لأن الله سبحانه لم يشرط التتابع فيها وكذا رسوله عليه الصلاة والسلام، والأفضل تأخير صوم السبعة إلى أن يرجع إلى أهله، لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}. والصوم للعاجز عن الهدي أفضل من سؤال الملوك وغيرهم هديا يذبحه عن نفسه، ومن أعطي هديا أو غيره من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا بأس به، ولو كان حاجا عن غيره أي إذا لم يشترط عليه أهل النيابة شراء الهدي من المال المدفوع له، وأما ما يفعله بعض الناس من سؤال الحكومة أو غيرها شيئا من الهدي باسم أشخاص يذكرهم وهو كاذب فهذا لا شك في تحريمه؛ لأنه من التأكل بالكذب، عافانا الله والمسلمين من ذلك. فصل في وجوب الأمر بالمعروف على الحجاج وغيرهم ومن أعظم ما يجب على الحجاج وغيرهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على الصلوات الخمس في الجماعة كما أمر الله بذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما ما يفعله الكثير من الناس من سكان مكة وغيرها من الصلاة في البيوت وتعطيل المساجد فهو خطأ مخالف للشرع فيجب النهي عنه، وأمر الناس بالمحافظة على الصلاة في المساجد؛ لما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن أم مكتوم لما استأذنه أن يصلي في بيته لكونه أعمى بعيد الدار عن المسجد: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب)) وفي رواية: ((لا أجد لك رخصة))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) وفي سنن ابن ماجه وغيره بإسناد حسن عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر))، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدي، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه الله بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). ويجب على الحجاج وغيرهم اجتناب محارم الله تعالى. والحذر من ارتكابها كالزنا واللواط والسرقة وأكل الربا وأكل مال اليتيم والغش في المعاملات، والخيانة في الأمانات وشرب المسكرات والدخان، وإسبال الثياب والكبر والحسد والرياء والغيبة والنميمة والسخرية بالمسلمين واستعمال آلات الملاهي، كالاسطوانات والعود والرباب والمزامير وأشباهها، واستماع الأغاني وآلات الطرب من الراديو وغيره، واللعب بالنرد والشطرنج والمعاملة بالميسر وهو القمار، وتصوير ذات الأرواح من الآدميين وغيرهم، والرضا بذلك، فإن هذه كلها من المنكرات التي حرمها الله على عباده في كل زمان ومكان، فيجب أن يحذرها الحجاج وسكان بيت الله الحرام أكثر من غيرهم؛ لأن المعاصي في هذا البلد الأمين إثمها أشد وعقوبتها أعظم. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[31] ، فإذا كان الله قد توعد من أراد أن يلحد في الحرم بظلم فكيف تكون عقوبة من فعل؟ لا شك أنها أعظم وأشد فيجب الحذر من ذلك، ومن سائر المعاصي. ولا يحصل للحجاج بر الحج وغفران الذنوب إلا بالحذر من هذه المعاصي، وغيرها مما حرم الله عليهم كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). وأشد من هذه المنكرات وأعظم منها دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم رجاء أن يشفعوا لداعيهم عند الله، أو يشفوا مريضه، أو يردوا غائبه ونحو ذلك. وهذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله وهو دين مشركي الجاهلية، وقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب لإنكاره والنهي عنه. فيجب على كل فرد من الحجاج وغيرهم أن يحذره، وأن يتوب إلى الله مما سلف من ذلك إن كان قد سلف منه شيء، وأن يستأنف حجة جديدة بعد التوبة منه، لأن الشرك الأكبر يحبط الأعمال كلها كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[32] . ومن أنواع الشرك الأصغر الحلف بغير الله، كالحلف بالنبي والكعبة والأمانة ونحو ذلك، ومن ذلك الرياء والسمعة، وقول: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وأشباه ذلك. فيجب الحذر من هذه المنكرات الشركية والتواصي بتركها لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح. وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت))، وقال أيضا: ((من حلف بالأمانة فليس منا)) أخرجه أبو داود وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان))، وأخرج النسائي عن ابن عباس: (أن رجلا قال: يا رسول الله ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده)). وهذه الأحاديث تدل على حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وتحذيره لأمته من الشرك الأكبر والأصغر، وحرصه على سلامة إيمانهم ونجاتهم من عذاب الله وأسباب غضبه، فجزاه الله عن ذلك أفضل الجزاء، فقد أبلغ وأنذر ونصح لله ولعباده صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين. والواجب على أهل العلم من الحجاج والمقيمين في بلد الله الأمين ومدينة رسوله الكريم عليه الصلاة والتسليم أن يعلموا الناس ما شرع الله لهم ويحذروهم ما حرم الله عليهم من أنواع الشرك والمعاصي، وأن يبسطوا ذلك بأدلته، ويبينوه بيانا شافيا ليخرجوا الناس بذلك من الظلمات إلى النور، وليؤدوا بذلك ما أوجب الله عليهم من البلاغ والبيان، قال الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}[33] الآية. والمقصود من ذلك تحذير علماء هذه الأمة من سلوك مسلك الظالمين من أهل الكتاب في كتمان الحق إيثارا للعاجلة على الآجلة. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[34] . وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن الدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد العباد إلى ما خلقوا له من أفضل القربات وأهم الواجبات، وأنها هي سبيل الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة؛ كما قال الله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[35] ، وقال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[36] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) أخرجه مسلم في صحيحه. وقال لعلي رضي الله عنه: ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) متفق على صحته والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فحقيق بأهل العلم والإيمان أن يضاعفوا جهودهم في الدعوة إلى الله سبحانه، وإرشاد العباد إلى أسباب النجاة وتحذيرهم من أسباب الهلاك، ولا سيما في هذا العصر الذي غلبت فيه الأهواء، وانتشرت فيه المبادئ الهدامة، والشعارات المضللة، وقل فيه دعاة الهدى وكثر فيه دعاة الإلحاد والإباحية، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فصل في استحباب التزود من الطاعات ويستحب للحجاج أن يلازموا ذكر الله وطاعته، والعمل لصالح مدة إقامتهم بمكة، ويكثروا من الصلاة والطواف بالبيت، لأن الحسنات في الحرم مضاعفة والسيئات فيه عظيمة شديدة، كما يستحب لهم الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا أراد الحجاج الخروج من مكة وجب عليهم أن يطوفوا بالبيت طواف الوداع ليكون آخر عهدهم بالبيت، إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما، لحديث ابن عباس قال: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)) متفق على صحته. فإذا فرغ من توديع البيت وأراد الخروج من المسجد مضى على وجهه حتى يخرج ولا ينبغي له أن يمشي القهقرى؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، بل هو من البدع المحدثة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)). نسأل الله الثبات على دينه والسلامة مما خالفه إنه جواد كريم. فصل في أحكام الزيارة وآدابها وتسن زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج أو بعده لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) رواه مسلم. وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا)) أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) أخرجه أحمد وابن ماجه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فإذا وصل الزائر إلى المسجد استحب له أن يقدم رجله اليمنى عند دخوله ويقول: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)). كما يقول ذلك عند دخول سائر المساجد، وليس لدخول مسجده صلى الله عليه وسلم ذكر مخصوص ثم يصلي ركعتين فيدعو الله فيهما بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وإن صلاهما في الروضة الشريفة فهو أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة))، ثم بعد الصلاة يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيقف تجاه قبر النبي صلى الله عليه وسلم بأدب وخفض صوت ثم يسلم عليه، عليه الصلاة والسلام قائلا: "السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته" لما في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام))، وإن قال الزائر في سلامه: "السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وإمام المتقين، أشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده". فلا بأس بذلك؛ لأن هذا كله من أوصافه صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه، عليه الصلاة والسلام ويدعو له لما قد تقرر في الشريعة من شرعية الجمع بين الصلاة والسلام عليه عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[37] ، ثم يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويدعو لهما ويرضى عنهما. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لا يزيد غالبا على قوله: (السلام عليك يا رسول الله)، (السلام عليك يا أبا بكر)، (السلام عليك يا أبتاه)، ثم ينصرف وهذه الزيارة إنما تشرع في حق الرجال خاصة، أما النساء فليس لهن زيارة شيء من القبور كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه لعن زوارات القبور من النساء، والمتخذين عليها المساجد والسرج)). وأما قصد المدينة للصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والدعاء فيه ونحو ذلك مما يشرع في سائر المساجد فهو مشروع في حق الجميع لما تقدم من الأحاديث في ذلك. وأن يكثر فيه من الذكر والدعاء وصلاة النافلة اغتناما لما في ذلك من الأجر الجزيل. ويستحب أن يكثر من صلاة النافلة في الروضة الشريفة لما سبق من الحديث الصحيح في فضلها، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)). أما صلاة الفريضة فينبغي للزائر وغيره أن يتقدم إليها ويحافظ على الصف الأول بما استطاع، وإن كان في الزيادة القبلية لما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحث والترغيب في الصف الأول مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) متفق عليه ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال الرجل يتأخر عن الصلاة حتى يؤخره الله)) أخرجه مسلم وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الرجل يتأخر عن الصف المقدم حتى يؤخره الله في النار))، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف)) رواه مسلم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تعم مسجده صلى الله عليه وسلم وغيره قبل الزيادة وبعدها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحث أصحابه على ميامن الصفوف، ومعلوم أن يمين الصف في مسجده الأول خارج عن الروضة، فعلم بذلك أن العناية بالصفوف الأول وميامن الصفوف مقدمة على العناية بالروضة الشريفة، وأن المحافظة عليهما أولى من المحافظة على الصلاة في الروضة، وهذا بين واضح لمن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب والله الموفق. ولا يجوز لأحد أن يتمسح بالحجرة أو يقبلها أو يطوف بها؛ لأن ذلك لم ينقل عن السلف الصالح بل هو بدعة منكرة. ولا يجوز لأحد أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم قضاء حاجة أو تفريج كربة أو شفاء مريض أو نحو ذلك، لأن ذلك كله لا يطلب إلا من الله سبحانه، وطلبه من الأموات شرك بالله وعبادة لغيره. ودين الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: ألا يعبد إلا الله وحده. والثاني: ألا يعبد إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهكذا لا يجوز لأحد أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة؛ لأنها ملك الله سبحانه، فلا تطلب إلا منه كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[38] ، فتقول: (اللهم شفع في نبيك، اللهم شفع في ملائكتك وعبادك المؤمنين، اللهم شفع في أفراطي) ونحو ذلك. وأما الأموات فلا يطلب منهم شيء لا الشفاعة ولا غيرها سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء؛ لأن ذلك لم يشرع ولأن الميت قد انقطع عمله إلا مما استثناه الشارع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)). وإنما جاز طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ويوم القيامة لقدرته على ذلك، فإنه يستطيع أن يتقدم فيسأل ربه للطالب، أما في الدنيا فمعلوم وليس ذلك خاصا به، بل هو عام له ولغيره، فيجوز للمسلم أن يقول لأخيه: اشفع لي إلى ربي في كذا وكذا بمعنى ادع الله لي، ويجوز للمقول له ذلك أن يسأل الله ويشفع لأخيه إذا كان ذلك المطلوب مما أباح الله طلبه، وأما يوم القيامة فليس لأحد أن يشفع إلا بعد إذن الله سبحانه، كما قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}[39] . وأما حالة الموت فهي حالة خاصة لا يجوز إلحاقها بحال الإنسان قبل الموت، ولا بحاله بعد البعث والنشور؛ لانقطاع عمل الميت وارتهانه بكسبه، إلا ما استثناه الشارع، وليس طلب الشفاعة من الأموات مما استثناه الشارع، فلا يجوز إلحاقه بذلك، لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته حي حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، ولكنها ليست من جنس حياته قبل الموت، ولا من جنس حياته يوم القيامة، بل حياة لا يعلم حقيقتها وكيفيتها إلا الله سبحانه، ولهذا تقدم في الحديث الشريف قوله عليه السلام: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)). فدل ذلك على أنه ميت وعلى أن روحه قد فارقت جسده لكنها ترد عليه عند السلام. والنصوص الدالة على موته صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة معلومة، وهو أمر متفق عليه بين أهل العلم، ولكن ذلك لا يمنع حياته البرزخية، كما أن موت الشهداء لم يمنع حياتهم البرزخية المذكورة في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[40]. وإنما بسطنا الكلام في هذه المسألة لدعاء الحاجة إليه بسبب كثرة من يشبه في هذا الباب ويدعو إلى الشرك وعبادة الأموات من دون الله. فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين السلامة من كل ما يخالف شرعه. والله أعلم. وأما ما يفعله بعض الزوار من رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم وطول القيام هناك فهو خلاف المشروع؛ لأن الله سبحانه نهى الأمة عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وحثهم على غض الصوت عنده في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}[41] ولأن طول القيام عند قبره صلى الله عليه وسلم والإكثار من تكرار السلام يفضي إلى الزحام وكثرة الضجيج وارتفاع الأصوات عند قبره صلى الله عليه وسلم، وذلك يخالف ما شرعه الله للمسلمين في هذه الآيات المحكمات، وهو صلى الله عليه وسلم محترم حيا وميتا، فلا ينبغي للمؤمن أن يفعل عند قبره ما يخالف الأدب الشرعي، وهكذا ما يفعله بعض الزوار وغيرهم من تحري الدعاء عند قبره مستقبلا للقبر رافعا يديه يدعو، فهذا كله خلاف ما عليه السلف الصالح من أصحاب رسول الله وأتباعهم بإحسان، بل هو من البدع المحدثات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أخرجه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)). ورأى علي بن الحسين (زين العابدين) رضي الله عنهما رجلا يدعو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك وقال: ألا أحدثك حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) أخرجه الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه الأحاديث المختارة. وهكذا ما يفعله بعض الزوار عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم من وضع يمينه على شماله فوق صدره أو تحته كهيئة المصلي، فهذه الهيئة لا تجوز عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا عند السلام على غيره من الملوك والزعماء وغيرهم؛ لأنها هيئة ذل وخضوع وعبادة لا تصلح إلا لله كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح عن العلماء، والأمر في ذلك جلي واضح لمن تأمل المقام وكان هدفه اتباع هدي السلف الصالح. وأما من غلب عليه التعصب والهوى والتقليد الأعمى وسوء الظن بالدعاة إلى هدي السلف الصالح فأمره إلى الله، ونسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق لإيثار الحق على ما سواه، إنه سبحانه خير مسئول. وكذا ما يفعله بعض الناس من استقبال القبر الشريف من بعيد، وتحريك شفتيه بالسلام أو الدعاء، فكل هذا من جنس ما قبله من المحدثات، ولا ينبغي للمسلم أن يحدث في دينه ما لم يأذن به الله، وهو بهذا العمل أقرب إلى الجفاء منه إلى الموالاة والصفاء، وقد أنكر الإمام مالك رحمه الله هذا العمل وأشباهه، وقال: ((لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)). ومعلوم أن الذي أصلح أول هذه الأمة هو السير على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وصحابته المرضيين وأتباعهم بإحسان، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا تمسكهم بذلك، وسيرهم عليه، وفق الله المسلمين لما فيه نجاتهم وسعادتهم وعزهم في الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم. تنبيه [حكم زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام] ليست زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم واجبة ولا شرطا في الحج كما يظنه بعض العامة وأشباههم، بل هي مستحبة في حق من زار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كان قريبا منه. أما البعيد عن المدينة فليس له شد الرحل لقصد زيارة القبر، ولكن يسن له شد الرحل لقصد المسجد الشريف، فإذا وصله زار القبر الشريف وقبر الصاحبين، ودخلت الزيارة لقبره عليه السلام وقبر صاحبيه تبعا لزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم، وذلك لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)). ولو كان شد الرحال لقصد قبره عليه الصلاة والسلام أو قبر غيره مشروعا لدل الأمة عليه وأرشدهم إلى فضله، لأنه أنصح الناس وأعلمهم بالله وأشدهم له خشية، وقد بلغ البلاغ المبين، ودل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر، كيف وقد حذر من شد الرحل لغير المساجد الثلاثة، وقال: ((لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))، والقول بشرعية شد الرحال لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم يفضي إلى اتخاذه عيدا، ووقوع المحذور الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو والإطراء كما قد وقع الكثير من الناس في ذلك بسبب اعتقادهم شرعية شد الرحال لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام. وأما ما يروى في هذا الباب من الأحاديث التي يحتج بها من قال بشرعية شد الرحال إلى قبره عليه الصلاة والسلام، فهي أحاديث ضعيفة الأسانيد بل موضوعة كما قد نبه على ضعفها الحفاظ كالدارقطني، والبيهقي، والحافظ ابن حجر، وغيرهم فلا يجوز أن يعارض بها الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم شد الرحال لغير المساجد الثلاثة. وإليك أيها القارئ شيئا من الأحاديث الموضوعة في هذا الباب لتعرفها وتحذر الاغترار بها: الأول: من حج ولم يزرني فقد جفاني. والثاني: من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي. والثالث: من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة. والرابع: من زار قبري وجبت له شفاعتي. فهذه الأحاديث وأشباهها لم يثبت منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص:- بعد ما ذكر أكثر هذه الروايات- طرق هذا الحديث كلها ضعيفة. وقال الحافظ العقيلي: لا يصح في هذا الباب شيء. وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن هذه الأحاديث كلها موضوعة، وحسبك به علما وحفظا واطلاعا. ولو كان شيء منها ثابتا لكان الصحابة رضي الله عنهم أسبق الناس إلى العمل به، وبيان ذلك للأمة ودعوتهم إليه؛ لأنهم خير الناس بعد الأنبياء وأعلمهم بحدود الله وبما شرعه لعباده، وأنصحهم لله ولخلقه، فلما لم ينقل عنهم شيء من ذلك دل ذلك على أنه غير مشروع، ولو صح منها شيء لوجب حمل ذلك على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شد الرحال لقصد القبر وحده؛ جمعا بين الأحاديث، والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل في استحباب زيارة مسجد قباء والبقيع ويستحب لزائر المدينة أن يزور مسجد قباء، ويصلي فيه لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مسجد قباء راكبا وماشيا ويصلي فيه ركعتين)، وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، واللفظ له، والحاكم. ويسن له زيارة قبور البقيع وقبور الشهداء وقبر حمزة رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورهم، ويدعو لهم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) أخرجه مسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه. وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر)). ومن هذه الأحاديث يعلم أن الزيارة الشرعية للقبور يقصد منها تذكر الآخرة والإحسان إلى الموتى والدعاء لهم والترحم عليهم. فأما زيارتهم لقصد الدعاء عند قبورهم أو العكوف عندها أو سؤالهم قضاء الحاجات أو شفاء المرضى أو سؤال الله بهم أو بجاههم ونحو ذلك، فهذه زيارة بدعية منكرة لم يشرعها الله ولا رسوله ولا فعلها السلف الصالح رضي الله عنهم، بل هي من الهجر الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((زوروا القبور ولا تقولوا هجرا)). وهذه الأمور المذكورة تجتمع في كونها بدعة، ولكنها مختلفة المراتب فبعضها بدعة وليس بشرك كدعاء الله سبحانه عند القبور، وسؤاله بحق الميت وجاهه ونحو ذلك، وبعضها من الشرك الأكبر كدعاء الموتى والاستعانة بهم ونحو ذلك. وقد سبق بيان هذا مفصلا فيما تقدم، فتنبه واحذر واسأل ربك التوفيق والهداية للحق فهو سبحانه الموفق والهادي لا إله غيره، ولا رب سواه. هذا آخر ما أردنا إملاءه والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين [1] سورة الذاريات الآية 5. [2] سورة آل عمران الآية 187. [3] سورة المائدة الآية 2. [4] سورة آل عمران الآية 97. [5] سورة آل عمران الآية 97. [6] سورة النور الآية 31. [7] سورة هود الآية 15-16. [8] سورة الإسراء الآيتان 18- 19. [9] سورة الزخرف الآيتان 13-14. [10] سورة الأحزاب الآية 21. [11] سورة النور الآية 31. [12] سورة الأحزاب الآية 53. [13] سورة البقرة الآية 197. [14] سورة النحل الآية 125. [15] سورة النور الآية 31. [16 سورة البقرة الآية 201. [17] سورة الكافرون الآية 1. [18] سورة الإخلاص الآية 1. [19] سورة البقرة الآية 158. [20] سورة البقرة الآية 158. [21] سورة الأنبياء الآية 87. [22] سورة البقرة الآية 201. [23] سورة البقرة الآية 201. [24] سورة الحج الآية 28. [25] سورة الحج الآية 29. [26] سورة البقرة الآية 203. [27 سورة التغابن الآية 16. [28] سورة البقرة الآية 196. [29] سورة الحج الآية 78. [30] سورة البقرة الآية 196. [31] سورة الحج الآية 25. [32] سورة الأنعام الآية 88. [33] سورة آل عمران الآية 187. [34] سورة البقرة الآيتان 159 – 160. [35] سورة فصلت الآية 33. [36] سورة يوسف الآية 108. [37] سورة الأحزاب الآية 56. [38] الزمر الآية 44. [39] سورة البقرة الآية 255. [40] سورة آل عمران الآية 169. [41] سورة الحجرات الآيتان 2 – 3. م ن ق و ل من http://aloloom.net/vb/archive/index.php/t-6789.html
الموضوع الأصلي :
التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة
-||-
المصدر :
منتديات الشعر السلفي
-||-
الكاتب :
أم جمانة السلفية
التعديل الأخير تم بواسطة أم جمانة السلفية ; 06-12-2012 الساعة 03:39 PM. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
.: عدد زوار المنتدى:.