الدرس الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه :
أما بعد :
أحييكم بتحية الإسلام الخالدة ,
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته .
في بداية هذه المقدمة أحمد الله جل وعلا الذي وفقنا لهذا المجلس المبارك مع إخواننا الأفاضل الذين يسمعون هذا الدرس أو من يسمعه فيما بعد , فهذا منة من الله و فضْل , فله الشكر و الثناء الحسَن.
ألا و إنه يسعدني والله أن ألتقي إخواناً أتعاون معهم على البر والتقوى حتى نكون تحت مضَلة قوله تعالى: {و تعاونوا على البر و التقوى}، و إن من أعظم البر وأجَلِّه عند الله طلبَ العلم النافع , فإن هذه المجالس من المجالس التي نرجو أن تكون محطَّ أجر وثواب عند الله عز وجل و أن نجد بها الفوز و الظفر في يوم القيامة.
أيها الإخوة الكرام ،لم يكن حديثي عن طلب العلم فلنا بكم لقاء حول هذا الموضوع بإذن الله ، ولكن سيكون حديثي كمقدمة لكتابنا الذي نحن بصدده وهو: التحفة السنية شرح المقدِّمة الآجرُّومية و أحببت قبل الشروع في مقدمة هذا الكتاب في هذه الليلة أن أتحدث عن النحو و أهميته و الحذر من اللَّحن في الكلام العربي
و قبل هذا بعد شكر الله عز و جل لا أنسى أن أشكر إخواننا المنظِّمين لهذا اللقاء الذين أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا و إياهم الإخلاص في القول و العمل , وأن يقبل منا وأن يأجرهم على ما قاموا به من جهود يجدون ثوابها بإذن الله في جنات عدن.
و أما الموضوع الذي أريد أن أتحدث عنه كما تقدَّم فهي قطوف من كلام السلف
و أبيات الشعراء كلها تدل على أهمية تعلم النحو والحذر من اللحن في الكلام العربي ,
و ذلك أن النحو هو أحد علوم العربية الاثني عشر كما سيأتي معنا إن شاء الله ذكر ذلك فيما بعد.
فهو علم واحد من اثني عشر علماً، و يجب العناية به ونحمد الله جل وعلا أن عُقر دار شيخنا العلامة الإمام المجدد مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله دار الحديث بدماج تعتني بهذا الفن وهذا العلم اعتناء عظيما , حتى كنا نسمع شيخنا عليه رحمة الله و هو يحفِّز طلبة العلم على تعلُّم هذا الفن حتى للإخوة الأعاجم بل و يؤكِّد عليهم.
عندما يأتي الطالب من بلاده إلى هناك فإنه يدعوه إلى أن يتعلم العربية أولا , لأنها هي المفتاح كما سيأتي معنا أيضا.
و بتعلُّم العربية تقوى ملكتُك و يحسُن فهمُك و يعلو شأنُك وكما قال الإمام الشافعي : ويرق طبعك , فتجد في متعلِّمي العربية سهولةً و لطافةً , ولكن إذا تعلم مع علم العربية علم الحديث قويت حُجَّتُه كما يقول الشافعي رحمه الله , و الأمران مطلوبان.
و من أقوال السلف في أهمية النحو أيها الإخوة الكرام , وأتمنى قبل البداية و قد نسيت أن كل أخ يحرص كل الحرص على أن يحضر بكلِّيته يعني لا يتخلَّف عقله و لا قلبه و لا أذنه و لا كراسته و لا قلمه و لا كتابه بل يكتب الفائدة إن وجِدت فائدة.
العلم صيد و الكتابة قيده * * * قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة * * * وتتركها بين الخلائق طالقة
و كما جاء في الأثر: ( قيِّدوا العلم بالكتابة) فيقيَّد العلم و لا يستغني الإخوة بما يسجل من هذه المواد الصوتية، نعم تفيدك فيما بعد لكن الآن احرص على الكتابة بيدك لأنها تكون سبباً في ارتسام الفائدة في رأسك أو في عقلك .
فالكتابة لا بد منها مع الانتباه و الاستحضار و السؤال فيما بعد بقدر الحاجة .
من أقوال السلف في أهمية النحو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( تعلموا النحو كما تعلمون السنن و الفرائض ) انظروا إلى هذا الأثر من فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما يقرن في التعلم بين النحو و الفرائض و إنما يحمل الكلام على أهمية النحو و جلالة هذا الفن .
و كتب رحمه الله أيضا إلى أبي موسى فكان من ضمن كتابه ( أما بعد فتفقهوا في السنة و تعلموا العربية ) و العربية إذا أفردت يقول أهل العلم المراد بها القواعد أو المراد بها النحو و اللغة المراد بها مفردات اللغة .
و روي عنه رضي الله عنه أنه قال ( رحم الله امرءاً أصلح من لسانه ) يعني إذا رأى في لسانه لُكنة و عُجمة , فإنه يحرص على أن يصلح لسانه بتعلم النحو و بالقراءة الصحيحة و هذه الآثار تراها في بهجة المجالس لابن عبد البر و غيره .
و قال أيوب – و هو ابن أبي تميمة السختياني –الإمام رحمه الله ( تعلموا النحو فإنه جمال للوضيع و تركُه هُجنة للشريف ) فقوله ( فإنه ) أي النحو ( جمال للوضيع ) للذي مثلا نزل به نسبه أو قلت به رتبته أو ضعف في الناس قدره , فإن النحو يكون سببا في علو شأنه أي في مصطلحات الناس و في مرئياتهم و ليس المراد في الأمور الشرعية فإن المرء يزكو عند الله بدينه , ولعل كلامهم و الله أعلم يُحمل على الصورة السائدة عند الناس أن الإنسان إذا لم يكن ذا جاه و شرف فإن النحو و تعلم النحو يرفع من منزلته , قال ( و تركه هجنة للشريف ) فالشريف وهو ذو الجاه العالي و النسب الرفيع إذا ترك النحو كان في حقه منقصة أكثر من غيره لأنه يشار إليه بالبنان , فإذا كان فقيراً من هذا الفن ضعفت منزلته و هذا الأثر رأيته في البيان و التبيين للجاحظ على ما عند الجاحظ من الاعتزاليات لكن هذا الأثر في كتابه البيان و التبيين .
و قال شعبة – و هو ابن الحجاج– الإمام الحجة شيخ الإسلام شعبة الخير أبو بسطام رحمه الله قال ( تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل ) و أثره هذا موجود في تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر .
و معناه ( تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل ) أي تتسع بمعرفة العربية المداركُ, تتسع المدارك بمعرفة العربية و النحو , وتفهُّم هذا الفن يؤدي إلى النظر الثاقب وبُعْد الإدراك .
و قال محمد بن سلام الإمام ( ما أحدث الناسُ مروءةً أفضلَ من طلب النحو ) كما في بهجة المجالس لابن عبد البر .
( ما أحدث الناس مروءة أفضل من طلب النحو ), إذاً فطلب النحو من المروءة و مما يجمُل به الشخصُ و يعظُم و يرتفع .
و جاء عن الشعبي أنه قال ( النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغنى عنه ) و أنتم تعلمون أن طعاما نقص منه ملحُه أو لم يكن فيه ملح فإنه يُرغَب عنه , فكذلك العلم إذا لم يكن من غير نحو فإنه تنزل مرتبته , وهذا الأثر في الجامع لأخلاق الراوي برقم 1080.
( النحو في العلم كالملح في الطعام لا يستغنى عنه ) فإن قال قائل البعض بمرضهم يستغنون عنه ! قلنا الحكم للعموم لا للمستثنيات و الحكم للأصحاء لا للمرضى.
فالنحو إذن منزلته عالية و رفيعة و لا يستغنى عنه بل يجب أن يُطلب , لهذا فقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحرصون كلَّ الحرص على تعلُّمه وتعلُّم أبنائهم هذا الفنَّ
و كانوا يحذِّرون كلَّ الحذر من اللحن بل يضربون أبنائهم حين يلحنون, و سأسوق بعض الأمثلة في ذلك :
مرَّ الشعبيُّ بناسٍ من الموالي يتذاكرون في النحو فقال مبكِّتاً لهم : ( لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده ) و هذا الأثر في الكامل في اللغة وفي البيان و التبيين أيضا.
( لئن أصلحتموه ) يعني رآهم يعتنون بالنحو و يتدارسونه فيما بينهم هذا أمر حسن لكن هؤلاء معروفون أن أصولهم أعجمية أو أنهم كانوا من المولَّدين بين المسلمين فلهذا لا بد أن تدخل عليهم العجمة من أصولهم فقال لهم ( لئن أصلحتموه – أي الآن - إنكم لأول من أفسده ) يقصد أنه ما حصلت العجمة و ما حصل اللحن و فشا اللحن بين أبناء المسلمين أو بين العرب إلا بعد أن دخل من دخل ممن هو خارج العرب فتفشى اللحن.
و جاء هذا الأثر أيضا بمعناه عن خالد بن صفوان كما في بهجة المجالس : أنه مر بقوم من الموالي يتكلمون في العربية فقال ( لئن تكلمتم فيها لأنتم أول من أفسدها ) .
و قال شعبة ( إذا كان المحدث لا يعرف النحو فهو كالحمار يكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير ) و كلام شعبة هذا في شعب الإيمان للبيهقي و قد جاء عن غيره كما سيأتي , ويُحمل كلامه رحمه الله تعالى على التنفير من المتعلم أو للمتعلم الذي يتعلم علوم الشرع كالحديث و غيره و لا يتعلم النحو فكأن شعبة يراه ناقصاً ( إذا كان المحدث لا يعرف النحو فهو كالحمار يكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير ) إناء معلق به و هذا الإناء ليس به شعير أينتفع ذلك الحمار به ؟! الإجابة : لا , فكذلك من يطلب العلم و لا يطلب النحو فقد فاته خير كثير .
و هذا الأثر أيضا جاء عند الخطيب عن حماد بن سلمة قال : ( مثل الذي يطلب الحديث ولا يطلب النحو مثل الحمار عليه مخلاة و لا شعير فيها ) .
و في توضيح الأفكار للصنعاني رحمه الله تعالى ذكر هذا الأثر ثم قال :
و نظمه من قال :
مثَّلوا طالب الحديث و لا …… يحسن نحواً و لا له آلات
كحمار قد عُلِّقت ليس فيها …… من شعير برأسه مخلاة
فالمقصد من هذا أنه على طالب العلم أن يتعلم النحو حتى لا يكون كصاحب هذا المثل الذي ضربه الإمام شعبة و الإمام حماد بن سلمة رحمهما الله .
و جاء عن عبد الملك بن مروان قال ( النحو في الرجل السوي كالجدري في الوجه ) السوي : الشريف فاللحن أو الخطأ عنده عند هذا الشريف رفيع القدر كالجدري في الوجه معناه أن هذا الوجه لم تبق محاسنه و لا جماله بل أصبح مبقعاً و أصبح في صورة مزرية فكذلك من يطلب العلم و لا يطلب معه النحو أو قبله النحو .
و أثر عبد الملك : ( النحو في الرجل السري كالجدري في الوجه ) في الجامع لأخلاق الراوي و السامع .
و قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى – وهو الإمام التابعي الثقة – قال ( اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه ) كما في بهجة المجالس و تقدم معناه .
و في الجامع أيضا لأخلاق الراوي جاءت عدة آثار عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب و ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أنهم كانوا يضربون أبناءهم على اللحن يعني على الخطأ في العربية .
إيش اللحن ؟! الخطأ في العربية أن ترفع المنصوبَ و تنصب المرفوع فتجعل الفاعل منصوبا و المفعول به مرفوعا و هكذا كمثال , بل جاء أنهم كانوا يضربون أبناءهم على اللحن ما لا يضربونهم على الخطأ في غير اللحن أو في غير العربية . سبحان الله !!
فإذاً على الإنسان أن يحرص على تعلم العربية حرصا عظيما و حقيقة الأمر والله لقد عشنا و لا يزال هناك من يعيش تلك العيشة الرضية في دار الحديث بدماج أياما جميلة ترى فيها الجميع يحاول أن يتحدث اللغة العربية الفصحى صغاراً و كباراً ذكوراً و إناثا و البيئة تعين على ذلك . سبحان الله
و من الطرائف أن بعض الإخوة من تهامة ( يقال : تُهامة و تِهامة أيضا ) أنهم أتوا إلى دماج فكان هذا الأخ يعلم أبناءه العربية فحفَّظ ابنه وكان صغيرا أن يقول : " يا أبت " فكان يقول : " يا أبتِ " فكلما رأى منظراً في المسجد أو في خارج المسجد أو في المزرعة فيقول " يا أبت كذا و كذا " ففي يوم من الأيام مرَّ بأطفال آخرين يتضاربون فيما بينهم فقال هذا الطفل بلهجته التي أخذها من هناك قال " يا أبت ما لهم ذي لا ؟ " يعني أخذ الكلمة الأولى التي حفظها و بقيت البقايا و الرواسب التي كانت هناك في غير طلب العلم فيقول " ما لهم هؤلاء ؟ " فالمقصد من هذا أن للبيئة تأثيراً كبيراً على الشخص في تعلُّم الفصحى إذا كنت في مكان لا يعين فو الله إنك تتعب و لو كنت ممن كان يحسن التحدث بها.
نحن أصبحنا الآن خاصة في أرض الغربة هنا في المملكة أو في جدة بالذات ترى العجائب من أناس تعاشرهم سواء كانوا من بعض الدول الخارجية أو كذا , ترى بعض العبارات سبحان الله، يعني ما يكاد يفهم عنك مثلاً الباكستاني أو الهندي أو كذا، ما يفهم عنك إلا (إنت روح إنت ييجي)، فأشياء فِعلاً تهدم رونق الفصحى و جمالها و حسنها.
وياأيها الإخوة، إن اللحن الذي نتحدث عنه و الخطأ لم يسلم منه حتى بعض المتقدمين فقد كان يقع منهم , لكنهم قد كانوا يحرصون على تعلم لغتهم وأنهم لا يفرِّطون فيها أبداً و إلا فقد وقع حتى لبعض المحدثين بعض اللحن و من غير المحدثين , و سأسوق إن شاء الله جملة من الذين وقع لهم اللحن و الخطأ في حديثهم أو في تحديثهم.
فمن ذلك ما جاء عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: سئل سؤالاً: ما تقول في رجل أخذ صخرة و ضرب بها رأس رجل فقتله أتقيده به ؟ - يعني هل يقتص منه ؟ - قال : ( لا
ولو ضرب رأسه بأبا قبيس ) .
يعني شيء لا يتوقع، أي شيء كبير عندما يقول بأبا قبيس، أبو قبيس جبل في مكة فالباء على حد قولهم : تجر السماوات و الأرض ثم لا تجر أبا قبيس. فقال بأبا قبيس , وهذا في البيان و التبيين.
و في الأماني الشجرية لابن الشجَري ساق بإسناده إلى إبراهيم الحربي اللغوي قال: كان أبو حنيفة طلب النحو في أول أمره فذهب يَقيس فلم يُحسن فأراد أن يكون فيه أستاذا أي في النحو فقال قلب قلوب وكلب كلوب , فقيل له : كلب و كلاب.
يعني معروف أن جمع كلب كلاب فهو يجمع على كلاب و على كُلُب و على أكْلُب أما أن يُجمع على كلوب فلا , فأراد أن يقيس فوقع في الخطأ فتركه وأقبل على الفقه.
و في الجامع لأخلاق الراوي ساق بإسناده من طريق المازني قال: سمع أبو عمر بن العلاء أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن فأعجبه كلامه واستقبح لحنه ، أبو عمر هذا ابن العلاء اللغوي الشهير فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب ، يعني كلام أبي حنيفة في الفقه جميل لكن لو ساعده صواب يعني في النحو ثم قال لأبي حنيفة: ( إنك لأحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس ) .
وهنا أقول: إنه على العالم و على المحدث و على طالب العلم و القاضي والخطيب و غيرهم يعني الأمر في حقهم آكد من غيرهم في أن يتعلموا النحو و أن يحرصوا عليه.
و فيه أي في الجامع لأخلاق الراوي قال عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه: قال: جاء الدراوردي يعني عبد العزيز بن محمد الدراوردي المعروف إلى أبي يعرض عليه الحديث فجعل يقرأ و يلحن ، لحناً منكراً ، فقال له أبي ويحك يا دراوردي أنت كنتَ بإقامة لسانك قبل هذا الشأن أحرى. يعني قبل أن تطلب الحديث، قوم لسانك .
و فيه أيضا قال حاجب بن سليمان : سمعت وكيعا يقول: أتيت الأعمش و كنت أسمع الحديث و كنت ربما لحنت و وكيع معروف إمام فقال لي: يا أبا سفيان، تركتَ ما هو أَوْلَى بكَ من الحديث فقلتُ يا أبا محمد، وأي شيء أَوْلَى منَ الحديث؟ قال: النَّحو. فأَمْلَى عليَّ الأعمشُ النَّحوَ، ثُمَّ أملى عليَّ الحديث .
فمن هذه الآثار تعرف أخي المبارك أنه لا بد للإنسان أن يتعلم النحو فإنه رفعة في الدنيا و الآخرة إن احتسب به الأجر والمثوبة في تفهُّم كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم، كيف و قد قال الأصمعي عبد الملك بن قريب اللغوي السني رحمه الله تعالى كما في ترجمته من تهذيب الكمال و سير أعلام النبلاء قال: ( إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله عليه الصلاة والسلام: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) سبحان الله!!!
انظر إلى هذا الكلام الجميل من الأصمعي رحمه الله: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله عليه الصلاة و السلام: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
معناه أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يلحن وأنت إذا كنت تلحن في حديثه أو في آية من كتاب الله أو تلحن في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فربما كان بلحنك فسادُ المعنى، فربما كان بهذا الخطأ في النحو فساد في المعنى، و من هنا تقع الكارثة كما يقال.
إذن فعلم النحو يجب على طالب العلم أن يتعلمه وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه : اقتضاء الصراط المستقيم : (فإن نفس اللغة العربية من الدين) افهم هذا، (فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب , فإن فهم الكتاب و السنة فرض و لا يفهم إلا بفهم اللغة العربية و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، منها ما هو واجب على الأعيان و منها ما هو واجب على الكفاية ) هذا في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم المجلد الأول 469
إذن معنى ذلك إذا كان شيخ الإسلام يرى أن تعلم النحو واجبا أو فرض عين لفهم الكتاب و السنة لأنه إذا كان لا يمكن أن تفهم الكتاب و السنة إلا بفهم اللغة العربية بفهم النحو فإذن وجب عليك تعلم العربية وتعلم النحو .
و أسوق شيئا من الأبيات التي تحث على تعلم هذا الفن، قال إسحاق بن خلف البهراني كما في زهر الآداب و ثمر الألباب لأبي إسحاق القيرواني قال:
النحو يصلح من لسان الألكن * * * و المرء تُكرمه إذا لم يلحنِ
فإذا طلبت من العلوم أجلها * * * فأجلها منها مقيم الألسنِ
إيش الذي يقيم لسانك؟! النحو , هل سيقيم لسانَك علمٌ آخر، النحو يصلح من لسان الألكن ، الألكن: صاحب العجمة، (و المرء تكرمه إذا لم يلحن) ألا ترون أن بعض أشياخنا إذا جئت تقرأ عليه الحديث و أنت لا تلحن، عظمت في عينه و علوت، أما إذا كان طالب العلم أو طالب الحديث يقرأ و يخطئ عدة أخطاء، بل و الله أعلم عن بعض أهل العلم أنك لو قرأت عليه و تعدد خطؤك في النحو أوقف قراءتك، تأديباً لك.
و في بهجة المجالس و كذلك في زهر الآداب قال الشاعر:
رأيتُ لسانَ المرء رائدَ عقله * * * و عنوانه فانظر بماذا تعنْوِن
ولا تعْدُ إصلاحَ اللسان فإنه * * * يخـبِّر عما عنـده ويبيِّنُ
ويعجبني زيُّ الفتى وجمالُه * * * فيسقط من عينيَّ ساعةَ يلحنُ
متى يسقط من عينيك؟! ساعة يلحن، عندما يلحن سقط من عينك بسبب لحنه , وقال آخر:
لو تعلم الطيرُ ما في النحو من شرَفٍ * * * حنَّتْ و أنَّتْ إلـيه بالمنـاقـير
إن الكلام بـلا نحـوٍ يمـاثلُـه * * * نبْحُ الكلاب و أصـواتُ السنانير
يا الله سلِّم، الإنسان الذي لا يحسن النحو يصبح كلامه في رتبة نباح الكلاب وأصوات السنانير , ويحمل كلام الشاعر هذا أو تحمل أبياته على التنفير لذلك الذي لا يتعلم النحو ، تحمل على هذا و السنانير: المراد بالسنور هو الهر، و جمعه سنانير.
و في معجم الأُدباء لياقوت الحموي وكذلك في الجامع لأخلاق الراوي و السامع ، قال الشاعر:
اقتبسِ النحوَ و نعمَ المقتبسْ * * * و النحوُ زينٌ و جمالُ الملتمسْ
صاحبُه مكرَّم حيث جلسْ * * * من فاته فقد تعمَّى و انتكسْ
كأنما فيه من العِيِّ خَرَسْ * * * شتانَ ما بين الحمار و الفرسْ
هذه بعض الأبيات التي قدَّمتها التي تبين أهمية تعلم النحو , و اعلموا يا إخوة أن في تعلم النحو ملكةً ورفعة , وبتعلم النحو تدرك العلوم أيضا، علم النحو أنفع العلوم إذ به تُدرك العلومُ جميعها و من ثم قال السيوطي: (إن العلوم مفتقرةٌ إليه) انتبه إلى قول السيوطي: (إن العلوم مفتقرة إليه).
الآن أضربُ لكم مثالا أو مثالين على افتقار العلوم الأخرى إلى النحو ، هناك من ربما يتبجَّح بمعرفته في الحساب و الرياضيات فإذا جئت تقول له : أنت يا أيها المدرس للرياضيات و أنت تدرس طلابك وأردت أن تبين لهم أن هنالك خطَّين إذا كانا متجهين في جهة واحدة هل تقول عنهما هذان خطان متوازيان أو تقول هذين خطين متوازيين؟؟ هل يحتاج أن يكون هذا الرياضيُّ أو المدرس للرياضيات عارفاً بالنحو و إلا لا يحتاج؟! يحتاج و إلا لوقع في الخطأ و غيره الكثير .
الذي يدرس كذلك علم الأرض أو هيئة الأرض ما يسمى ب(الجغرافيا) و هي كلمة أعجمية فإذا ذكر المناخ و ما شابه ذلك فإنه يذكر الجبال فيحتاج أن يقول هل هذان جبلان مرتفعان أو محيطان بمكة أو يقول هذين جبلين محيطين.
إذن يحتاج إلى تعلم النحو فالجميع يحتاجون إليه و آكد في حق من تقدم ذكرهم من أهل العلم، من المفسرين , المفسر لا بد أن يكون ضليعاً باللغة العربية , من صاحب القراءات و تعلم القراءات كذلك المؤلف الذي يكتب رسائل و يكتب الكتب و المؤلفات كذلك الخطيب ، و الله يقبُح و الله إن الخطأ النحوي في لسان الخطيب و لو كان مصقعاً فإنه يشين به و يستقبح منه ، عندما ترى رجلاً ربما عنده من حفظ السنة و العلم شيء عظيم و لكنه إذا تحدث فإنه يقضي على رونق و جمال تلك الخطبة، سبحان الله!!!! هذه من الأمور المشينة.
و الحق يا إخوة أن هذا الخطأ أعني في النحو أصبح و الله أعلم لم يكن مخصوصاً به الذين ليسوا على دراية بالعلم لا، بل الأمر أعظم من ذلك هناك من هو منشغل بالعربية ويقع منه اللحن .
ألا تسمع لبعض مقدِّمي الأخبار و هو يقول مثلاً: و لقاء القمة هذه السنة في أبو ظبي، هذا موجود.
فإذن إذا كانت العربية تؤتى من أهلها أو المحسوبين عليها فكيف من غيرهم , فالله الله
يا طالب العلم، يا طالب الحديث، يا طالب السنة بتعلم العلم و خاصة علم النحو، احرص على تعلمه و أخذه عن أهله فإن في ذلك سعة في الإدراك و عِظَماً في الفهم و توسُّعاً في المدارك، و أعطيكم مثالا أو أمثلة لأناس من الأعراب ما تعلموا و إنما بقوا على السليقة و على الطبيعة و على سجيتهم الأصيلة كما قال أبو الأسود الدؤلي قال:
و لست بنحويٍّ يلوك لسانَه * * * و لكن سليقيٌّ أقول فأعرِبُ
يعني أنا باق على السليقة ، بمعنى أني أكبر من النحو لأن النحو و قواعده جاءت بعد كما قيل لأبي العتاهية، قيل له يزعمون أنك تخطئ في العروض فقال ما علموا أني أكبر من العروض يعني أنا قبل الخليل بن أحمد وإنشائه لها سبحان الله!!!
فالمقصد بارك الله فيكم أن بعض الأعراب سمعوا بعض المقرئين فنفروا من ذلك بفطرتهم بسجيتهم بطبيعتهم فقد جاء في تخريج الأحاديث و الآثار الواقعة في تفسير الكشاف لجمال الدين الزيلعي، جاءت قصة في أن أعرابيا قدم في زمن عمر فقال: من يقرئني القرآن فأقرأه رجل فلما بلغ سورة براءة قرأ: {إن الله بريء من المشركين و رسولِهِ} بالجر فقال الأعرابي: أوَ قد برئ اللهُ من رسوله؟؟!! ربما ما سمع هذه الآيات من قبل و لكن بفهمه في لغته وقف عند المعنى , لأن المعنى يقتضي براءة الله عز و جل من المشركين و من الرسول إذا كانت القراءة بكسر أو بجر }ورسوله}. فهذه القصة وصلت إلى أمير المؤمنين عمر فدعاه فقال له عمر فقال ليس هكذا يا أعرابي فقال فكيف إذن يا أمير المؤمنين قال: {إن الله بريء من المشركين و رسولُهُ} بضم اللام فقال الأعرابي إذا كان كذلك وأنا والله أبرأ مما برئ منه الله ورسوله. و حينها أمر عمر أن لا يُقرئ الناسَ إلا عالمٌ بالعربية.
سبحان الله انظروا إلى هذه القصة، كسْر في كلمة ورسوله {إن الله بريء من المشركين و رسولِه} فلو كسرت اللام لأصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم متبَرَّأً منه كتبرُّؤ الله من المشركين نعوذ بالله!! أرأيتم كسرة ماذا فعلت؟؟ فعندما يقول: {و رسولُه} أي أن الله بريء من المشركين و رسول الله أيضا بريءٌ من المشركين.
و لهذا فقد جاء عن بعض الأعراب بفطرتهم أنهم لا يحبون الخطأ أو مخالفة الشرع ، أتى أعرابي إلى حلقة يتعلم فيها النحو فسمع الأستاذ يقول: ضربَ زيد عمراً فقال الأعرابي لفطرته : لم ضربه؟ فقال الأستاذ إنما هذا من ضرب المثل في النحو لتقريبه للطلاب فقال
ذلك الأعرابي: لا حاجة لي في علم أولُه كذب ثم أنشد من حينه يقول وقد انصرف عنهم:
لا إلى النحـو جئتكم * * * لا و لا فيـه أرغبُ
خلِّ زيـداً و شأنـه * * * أينما شـاء يذهبُ
و استمع قول عاشق * * * قد شجـاه التطربُ
همُّـه اليومَ طَفلـةٌ * * * فهـو فيهـا يشببُ
يعني أنه مشغول بشيء آخر, طبعا نحن لا نعوِّل على كلام الأعرابي لكن المقصد من هذا أن الأعراب كانوا ينكرون الخطأ الذي يخالف سجيتهم وطبيعتهم.
و نحن لا ندعوكم لأن تفعلوا فِعْل الأعرابي فتقولون : لا إلى النحو جئتكم فما بُحَّ الصوت بهذه المقدمة إلا لتقولوا إلى النحو جئتكم , يعني جئتم إليه وحرصتم عليه .
فلهذا فإني أدعو نفسي و إخواني من يسمعني في هذه الساعة أن يحرصوا على تعلم النحو , والله إن في تعلم النحو نجاة من بعض المقالات الشركية .
* و هنا أسائلكم اللهَ معاشر الإخوة وفقكم الله هل يرضيكم أن تجدوا من يأمر الناس بالشِّرك بسبب خطئه النحوي حينما يقول لهم { و اتبِعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } بكسر الباء في قوله { و اتبِعوا } هل الآية كذلك ؟ أم الآية { و اتبَعوا} فيمقام الإخبارواتبع فعل ماضي في مقام الإخبار و ليس { اتبعِوا } في مقام الأمر .
فبارك الله فيكم على الإنسان أن يحرص على أن يتعلم النحو حتى لا يقع في مثل هذا, *أسائلكم بالله هل يُعقل أن بعض الناس لا يدرك بسبب الخطأ النحوي أنه يطلب من الله أن لا يدخل الجنة ؟! وهو لا يدري ؟! فيقول { قل أعوذ برب الناس } أي ألتجئ وأعتصم { برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس } ثم يقول متبرئا – انتبه - مستعيذا { من الجَنة و الناس } بفتح الجيم , فإذا قال بفتح الجيم فقد استعاذ بالله من أن يدخل الجنة – نعوذ بالله - , فتح الجيم والآية بالكسر { من الجِنة } و هي الجن ما استتر عن الأعين , و هذا إذا فتحها وقع في هذا الخطأ أو في هذا الأمر .
إذن فنناشد أنفسنا و إخواننا إلى أن نحرص على طلب العلم و نجتهد فيه ونتعلم النحو فإن في ذلك حصانةً لنا في أن لا نقع في مسائلَ شركيةٍ فضلا عن غيرها, إي والله لقد وُجِد من بعض المدرسين الآن في عصرنا من يعرض عليه الطالب قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله } فيقول يا أستاذ { آمنوا آمنوا } مكررة ما رأيك ؟ فيقول له الأستاذ : لا هذا خطأ , خطأ مطبعي اضربوا على الأولى , هذا في المقرر الدراسي, فضائح يا إخوة والله كم من شخص تجده متحرِّقاً للدعوة السلفية محباً لها لكنك إذا أتيت لبعض مسائل النحو حكَّ رأسه و قال : هذا أنا ما فتح الله علي في هذا , أنا انشغلت بأشياء أخرى, لا , انظر إلى الآثار التي قدمناها و غيرها كثير من التي تنصح بتعلم النحو أولا مع الحفظ طبعاً الأمران مع بعض حفظ السنة و الحرص على الحديث لكن على الإنسان أن يتعلم النحو حتى يكون له الرفعة في القول و في العمل .
أعلمُ أني أطلت إنما هذه كانت مقدمة و إن أطلنا فيها , وإن استعجلت أيضا في الكلام فهذه كلها ليست إلا مقدمة في أهمية النحو , وإذا أتى وقت التدريس أعني في صلب الكتاب فبإذن الله يكون الأمر أخف من هذا و أقل بقدر الاستطاعة , ولا تغتروا بكثرة هذا الكلام فإن أهم شيء عندي في دراسة الكتاب إذا دخلنا في صلبه أنه بإذن الله عز
وجل نحرص على فكِّ رموزه و على تحقيق نصوصه , فنقف مع كل كلمة نحاول أن نفهم ما أراد بها المؤلف أو الشارح , هذا أهم شيء عندي, فاحرص على هذا, الفوائد التي تقال - من الفوائد الجانبية التي تقال – هذه هي من أجل أن نخاطب جميع الطبقات الذي في بداية الأمر و الذي أرفع منه من أجل أن الجميع يستفيد, فالذي لا يعي عنا مثل هذه الفوائد أو بعض الفوائد التي تكون فيها شيء من الصعوبة مثلا فليكتبها عنده ليفهمها في يوم من الأيام , كما جاء عن أبي حاتم الرازي و غيره أنه قال : (للفوائد قمِّش و عن الرجال فتِّش ) الآن أنت في طور تقميش الفوائد و احرص على تحقيق القواعد و الوقوف مع النصوص التي ستمر بنا في الكتاب .
و أما هذه فمقدمة لا تشغل بالك كثيرا بها إلا أني أحفِّزك إلى أن تتعلم هذا العلم المبارك وفقكم الله و بإذن الله عز و جل سيكون لنا بكم لقاء في الثلاثاء القادم في مقدمة الكتاب – هذه المقدمة لي أنا – أما مقدمة الكتاب أعني مقدمة الشارح – فستكون في لقاء آخر بإذن الله عز و جل .
هذا و الله أعلم و هو أعز و أكرم وصلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله
وسلم تسليما كثيرا . |