القُدُراتُ المُهْدَرة

المقال
القُدُراتُ المُهْدَرة
1956 زائر
28/07/2011
غير معروف
الشاعر أبو رواحة الموري

بسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ

القُدُراتُ المُهْدَرة

بعد حمدك اللهم حمداً يليق بجلالك وعظمتك , وشُكْرِك على جزيل فضلك وعظيم كرمك, أُعْقِبُ ذلك بالصلاة والسلام على سيِّد خلقك وأفضل رسلك , محمد بن عبد الله , حامي حِمى دينك وناصر شرعك, مثلِّثاً بالصلاة على أصحاب نبيك , الباذلين الغالي والرخيص من أجلك,ومَن تبِعهم بإحسان ممن سلكوا ذلك المسْلَك , وسلَّم تسليماً كثيراً :
إن الناس يتفاوتون في هممهم وطموحاتهم كما قال الله تعالى (إن سعيكم لشتى) سورة الليل آية ( 4)
ويُذكر أن الإمام الشافعيَّ رحمه الله كان يرى أن السنة لاتنسخ القرآن , فقال الهراسي الشافعي :
هفوات الكبار على أقدارهم ومن عظُم قدَْرُه عظُمَ خطؤه اهـ قال المتنبي:

على قدْر أهل العزم تأتي العزائمُ ::: وتأتي على قدْر الكريم المكارمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ::: وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
كما أنهم يتباينون في مداركهم وقدراتهم , وقد أخرج البخاري برقم 127 بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: (حدِّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله) , وأخرج مسلم في المقدمة بإسناده إلى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:(ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغُه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنةً) دلَّ ذلك على أن هناك بوناً شاسعاً وفرقاً عظيماً في مدارك الناس وقدراتهم ,
قال حسان رضي الله عنه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
له هممٌ لامنتهى لكبارها ::: وهمَّتُة الصغرى أجلُّ من الدهر
وهذه هي الكفة العليا الموسومة بالأسوة والقدوة والموصوفة بالهمة والقدرة , بينما هنالك فئة أخرى على النقيض تماماً ترضى بسفاسف الأمور وضحالة المعرفة , وفيهم يتـنـزَّل قول ابن الجوزي في صيد الخاطر ص 231 : ولو أمكنك عبورَ كل أحد من العلماء والزهاد فافعل ، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل ، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها . اهـ . قال الشاعر :

بعضُ الرِّجال كبير في تعامله :::وبعضُهم مثْل أطفالِ الأنابيبِ

فإذا هم فريقان:

1- فريق واسع الادراك..عظيم المعرفة..ثاقب الفهم ..بعيد النظر..عالي الهمة..
سامي الهدف , استطاع أن يوظِّف كل ذلك في الاستفادة من قدراته وفي إفادتها الآخرين , يعيش بذلك في طبقات الكبار من أمثال سلمان الفارسي الباحث عن الدين الحق الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم (لوكان الإيمان عند الثريا لتناوله رجالٌ من هؤلاء) يعني من فارس متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
قال الشاعر:
فكنْ رجُلاً رجْلُه في الثَّرى ::: وهامَـةُ همَّتـِه في الثُّريـَّا
وهذا الفريق له القدَحُ المعلَّى وأخْذُ الصَّدارة فهنيئاً له , قال أبو فراس الحمداني:
ونحن أُناسٌ لا توسُّطَ عندنا ::: لنا الصدْرُ دون العالمين أو القبرُ

2- وفريق آخر ضعُف إدراكُه..وقلَّتْ معرفتُه..وتضاءلتْ همتُه..وقَصُرَ رأْيـُه..ولم يستفد من قدراته,وأنَّى له ذلك وفاقِدُ الشئ لايُعطيه ؟ فتراه يعيش في أبناء جنسه(كلٌ يعملُ على شَاكلته) في حيِّز "الموقوذة والمتردية والنطحية وما أكل السبُع" فكان حاله كما جاء في المثل:"مُثقَل استعان بذَقَنه"ومعناه :ذو حِمل استنجد بضعيف , فهذا الفريق له النظرة الدُّون والمثَل السَّوء , فوا أسفى عليه .
وثمةَ قسيم ثالث لهؤلاء : عنده الحظ الوافر من القدُرات.. والشئ الكثير من الطموحات, فهو ذو سعة في الإدراك وصاحب مخزون ثقافي , غير أنه تأخر عن الرَّكْب الأول لأنه لم يستغل قدراتِه ولم يوظِّف طاقاتـِه في نفع نفسه أو نفع الآخرين, أو أنه لم يجد من يأخذ بيده إلى أن يستفيد من قدراته ويفيد الآخرين فكان حاله كما قال الله(وإذا الموءودةُ سُئِلتْ بأي ذَنْبٍ قُتِلتْ) التكوير (8-9) كان يمكنها أن تستفيد ويُستفادَ من حواسِّها الخمس ولكن وُئِدتْ فأنَّى لها العطاء؟.قال الشاعر :

ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له ::: إياك إياك أن تبتلَّ بالماء
فهذا الفريق هو المَعني بهذه الإشارة التذكيرية.. واللفتة الأدبية..والإلماحة التطويرية ,

وما قدَّمتُه من الحديث عن الفريقين الأوَّلَين كان كالمقدِّمة للحديث عن هذا الفريق , وقد قسَّمته إلى قسمين فأقول مستعيناً بالله :

الصنف الأول :
إنه ثمة صنف من الناس: عنده شئ من الطاقات قدر لابأس به من القدرات غير أنه لم يحرص على توظيفها فيما ينفعه أوينفع غيره فهو لايبالي بذلك لأنه لم يستشعر أهمية استغلال وقته , وقد جاء في البخاري تعليقاً عن ربيعة الرأي أنه قال: ( لاينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيِّع نفسه), ورحم الله ابنَ عقيل الحنبليَّ صاحبَ كتاب "الفنون "الذي ألَّفه في ثمانمائة مجلد فقد كان يقول-كما في ذيل طبقات الحنابلة ( 1/146)-: إني لا يحل لي أن أضيِّع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملتُ فكري في حال راحتي وأنا مُسْتطْرِح ، فلا أقوم إلا وقد خطَر لي كلُّ ما أريد أن أسطِّره.ا.هـ.
فمثل هذا الصنف- أعني صنْفَ الكسولِ الخامل المتواكلِ العاطل- يحتاج أولاً إلى أن يعيد النظر في داخلة نفسه وقرارة قلبه, مستشعراً المهمة العظمى التي خلقه لها ربُّه القائلُ :( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لاترجعون ) ؟!. سورة المؤمنون آية (115)
فإذا حصل منه هذا الاستشعار وتقررت عنده إجابة (وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون) الذاريات آية (56) , حينها ننتقل إلى المرحلة الثانية وهي السعي إلى إيجاد من يأخذ بيده إلى شاطئ الأمان .

الصنف الثاني :
غير أن هنالك صنفاً من الناس عنده من الطاقات الهائلة والقدرات الواسعة , وقَفتْ أمامهم العراقيلُ والحواجز ,ولم تُسلَّط على أمثالهم الأضواءُ , فلم يجدوا من يستغل طاقاتهم أو يستفيد من قدُراتهم , مع حرصهم على ذلك وتطلُّعِهم إلى المستقبل المنشود , في حين أنهم لم يؤْبَهْ بهم , فهذا الصنف من الناس يرى أن كل مَن حوله مشغول بنفسه , إنْ علِم بما عنده من المهارات لايساعدُه, وإن لم يعلم فهو في المجالس يبتذله , وفي اللقاءات يزدريه ويحتقره , مما يجعله يعيش في حيِّز من الوحدة القاتلة , فتراه على ما عنده من الفصاحة والبيان لايسْطيع أنْ ينْبِس ببنْتِ شفَة , وتراه على ما عنده من سعة الادراك ومعرفة الحياة لايقْدر أن يحُل أصغر قضيةٍ تواجهُه , وهو مع ذلك كلِّه يلوذ بالصمت ويعود على نفسه باللائمة, فيرجع القهقرى يوماً بعد يوم , حتى تُهدر طاقاتُه وتضْمحلَّ قدراتُـه .

فكم من فلَّاحٍ بارعٍ ذَوَتْ أغصانُ مزرعته وبارتْ أرضُه .., وكم من طبيبٍ حاذقٍ يخدِمُ الإنسانيةَ ما زال به زملاؤه حتى باع ذمتَه .., وكم من صاحبِ خيال واسع ٍوحِسٍّ مُرْهَفٍ جرَّتـْه تصوُّراتـُه الخاطئةُ في غياب التوجيه إلى حتْفه.., وكم من طالب علمٍ مجتهدٍ كانت أسرته سبباً في فشَله وإحباطه.., وكم من خطيبٍ مِصْقَعٍ يخْلُبُ الألبابَ تلعْثمتْ كلماتُه في حلقه.., وكم من شاعر مُفْلِقٍ ذي قريحةٍ فيـاضةٍ باءتْ قريحتُه بالفشل ومات بشاعريته.., وكم في أوساط مجتمعنا من ضحايا هذا الصنف؟! , وذلك كله في غياب الرِّعاية والتأهيل , فمثل هؤلاء يجب أن يُشَجَّعوا ويؤخذَ بأيديهم ويُمَدَّ لهم جسْرُ التعاون حتى يقفوا على سُوقهم فإن الضعيفَ أميرُ الركب .

ولا إخال أن ذوي البصائر هم الذين يلمسون أهمِّية تسليط الضَّوء على مثل هؤلاء لما عندهم من الأهلية فيخرجونهم من بؤرة الفراغ القاتل , ودائرة الصَّمْت المُطْبِق, إلى الفضاء الرَّحْب, والخيال الواسع , حيث البذلُ والعطاءُ فإن في نفعهم نفعاً للإسلام والمسلمين .

وكتبه أبو رواحة الشاعر
عبدالله بن عيسى بن أبكر الموري
يوم السبت 28/من شهر الله المحرم/1430هـ

http://www.salafi-poetry.com/vb/showthread.php?t=32

   طباعة 
0 صوت
التعليقات : تعليق
« إضافة تعليق »
01-01-1970 12:00 (غير مسجل)

[ 1 ]
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
9 + 1 = أدخل الكود
روابط ذات صلة
روابط ذات صلة
المقال السابق
المقالات المتشابهة المقال التالي

RSS

Twitter

Facebook

Youtube

تسجيل الدخول للموقع
البحث في الموقع
البحث في
خدمات الموقع
 

Warning: Unknown: write failed: Disk quota exceeded (122) in Unknown on line 0

Warning: Unknown: Failed to write session data (files). Please verify that the current setting of session.save_path is correct (/var/cpanel/php/sessions/ea-php54) in Unknown on line 0