أهمِّية الشِّعر وبيانُ حكْمه وفضله وتَعَـدُّدُ فنونه وأغْراضه

المقال
أهمِّية الشِّعر وبيانُ حكْمه وفضله وتَعَـدُّدُ فنونه وأغْراضه
2215 زائر
28/07/2011
غير معروف
الشاعر أبو رواحة الموري

بسم الله الرحمن الرحيم
أهمِّية الشِّعر

وبيانُ حكْمه وفضله وتَعَـدُّدُ فنونه وأغْراضه
وقوَّةُ تأثيره علَى الآخَريْن
الحمد الله الذي أنزل القرآن, فأعجز به البلغاءَ والشعراءَ في كل زمان ومكان .., والصلاة والسلام على صاحبِ الفصاحةِ والبيان .., محمدِ بنِ عبد الله سيِّدِ ولدِ عدنان .., وعلى خلفائه الراشدين الأربعةِ ذوي الحجةِ والبرهان.., وعلى باقي الصحابة أولي الانقيادِ والإذعان .., ومن تبِعَهم وتابَعهم بإحسان .., وسلَّم تسليماً كثيراً , أما بعد :
فالشِّعر ديوانُ العرَب , ويُمكنُ القولُ بأنه سجلُّهم النفيسُ الذي حفِظَ تراثهم وتاريخَهم وآدابَهم وأخلاقَهم , وإنه مُتحَفُهم الناطقُ الذي دوَّنوا فيه أخبارَ أبطالهم ووقائعَ بطولاتهم وما تفرَّدت به قرائحُ حكَمائهم وفُضَلائهم من حِكَمٍ بليغة وأمثالٍ بديعة.وفي قصيدتي "رياض الشعر" قلتُ :
لكنَّ شعرَ العُرْبِ ديوانٌ به *** آثارُهم تسمو ومعنىً فائِضُ
صاروا به بين البرية ساسةً *** إذا كلُّهم نحْو المعالي ناهِضُ
فلولا الشعر العربيُّ لما عُرِفت الآدابُ العربيةُ ولما شُهِرت القبائلُ وأخبارُها في مخالفاتِها وتناقضاتِها وفي تحاربِها وتسالُمِها.
ولولا الشعر لما عُرِفت الجغرفيا العربيةُ , ومواقعُ الصحراء ومرابعُها وواحاتُها , وجبالُها ووديانُها, فإن كل ذلك مدوَّن في أشعار الشعراء مخلَّد فيها .
ولولا الشعر لما اغْتنتْ خزانةُ العلوم العربية بكل ما تحفل به الآن من مواضيع البلاغة والبيان والنحو واللغة , فضلاً عن مواضيع العلوم الإسلامية .
وباختصار .. دراسة الشعر في العربية وخصوصاً الجاهلي منه وفي صدر الإسلام هي دراسة خصائص العرب .
وقد قال يونس : لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس اهـ كما في البيان والتبيين للجاحظ (1 / 170) .
قال عمرو بن العلاء : كان الشاعر في الجاهلية يُقَدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيِّد مآثرهم ويفخِّم شأنهم ...إلخ كما في المصدر السابق (1/166) .
قلت : لأنهم يوثِّقون بالشعر ويؤرِّخون من خلال الشعر ويتعاملون بالشعر ، حتى أضحى الشعرُ أروجَ بضائعهم وأنفسَ منتجات قَرائحهم ) ...
فالشعر وروايته وتعاطيه شأن النُّخبة من الرجال والعلماء ، وتعلُّمه وإتقانُه والاستشهاد به من متطلبات ولوازم الطلب للعلوم الأخرى من فقْه وتفسير وحديث ونحو وبلاغة ...
وإذا قيل إن الشعرَ هو رأسُ الآداب عند العرب فليس في القول شَطَطٌ ولا تزيُّد ، وإذا قيل إنه متحف فنون العرب فليس في القول مبالغة ولا تكلُّف ، وإذا قيل إنه خزانة لغة العرب ، فليس في القول مجاز ولا هو من باب التقوُّل، إنما هي الحقيقة بعينها .
وكل أغراض الحياة عندهم ميدان مباح للشعر , والشعراء يخوضون فيها ,كيف لا ؟! وقد قال الله عنهم ]أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [[الشعراء : 225 ، 226]
فهم يتفنَّنون في تعاطيها وفي التعامل معها كلٌ على طريقته وأسلوبه :
- فبعضُهم يقرض الشعرَ ويبدو كمن ينحتُ الصخر .
- وبعضُهم يتعانى صناعته كما يتعانى الجواهريُّ صناعته.
- وبعضُهم ينْفَحُ لسانُه به كالعطر , وينثره من حوله كالزَّهر أو كفرائد الدُّر .
- وبعضُهم يرويه فيبكيك ، ويستمطر الدمع من مآقيك , أو ينشده فينشيك , ويسحرك من غير أن يسقيك , أو يقوله فيبعث نار الحماسة فيك .
ويحوِّلك بكلماته الحرَّى وألفاظه الملتهبة إلى بركان في إنسان يفور بالنجدة , ويمور بالمروءة , ويستعذب الموت .
- وبعضُهم يَحكيه بألفاظ عِذاب ، وعبارات كأنها العسل المذاب .., وبعضهم , وبعضهم الخ .
إن أغراض الشعر في العربية تكاد تدخل في كل شأن من شؤون الحياة العربية..وفي "رياض الشعر" قلت:
الشِّعـر يلهج بالحقيقـة واقعـاً *** مُـرَّاً وحلـواً بالمعـاني فائض
الشِّعـر ديــوانُ الحياة ورسْمُها *** يحكي صداها بالمعـاني نـابِضُ
ولا يخفى على ذوي البصر أن أشعار العرب هي مجامعُ الاحتجاجات بفصاحة الكلام ودلالته وحسْن تركيبه , وفي قصيدتي "الواجهة السوداء" قلتُ :
فحروفُ شِعْري أَحْرُفٌ سلفيةٌ *** كجواهر الدُّرِّ الثَّمِين تُرَصَّـعُ
وحروفُ شِعْري أَحرُفٌ عربيةٌ *** طبْلُ البلاغةِ صار فيها يُقْـرَعُ
وهي المدخل إلى حَيازة علوم القرآن والحديث النبوي الشريف وناهيك بذلك من أهمية
[1] .
* ففي كتاب "زهر الأكَم في الأمثال والحكَم لليوسي باب"(فضل الشعر)1/19يقول :
كان ابن عباس يقول :إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب , فإن الشعر ديوان العرب . وقال أيضا ً: إذا أعْيَتْكُم العربيةُ في القرآن فالتمسوها في الشعر فإنه ديوان العرب .
قلتُ: وبعد هذه الإشارات إلى مجالات الشعر وقوالبه وآليَّاته وساحاته المجملة فسأشرع في ذكْر جُملة من النصوص الشرعية ..، والآثار السلفية..، والمُلَح الأدبية..، والقصص التربوية..، التي تدل على أهميةِ الشعر وعِظَم نفعِه..،وشدةِ أثره وبالغِ وقْعِه، في جميع مجالات الحياة .
وهنا لقد آن الدخولُ إلى الذي *** أَسْمو إليه وفي البيان سأشْرَعُ
فأقول مستعيناً بالله :
إن الشريعة الإسلامية قد حثَّت على قول الشعر وإنشاده ما دام في نصرة الحق وأهله :
* فهذا حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له النبيr :
( أهجُهم أو هاجِهم وجبريلُ معك ) أخرجه البخاري برقم (5801) ومسلم برقم (2486) من حديث البراء بن عازب .
* ومرَّ عمر بن الخطاب بحسان وهو يُنشد الشعر في المسجد فلَحَظ إليه فقال : كنت أُنشِد وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة وقال : أَنشُدُك الله أسمعتَ رسول الله r يقول : أجبْ عني "اللهم أيِّده بروح القدس" قال : اللهم نعم . أخرجه مسلم برقم (2485 ) من حديث أبي هريرة .
* ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الحرَم وبين يديه عبدُ الله بن رواحة ينشده :
خلُّو ا بني الكفار عن سبيلِه *** اليوم نضربُكم على تنزيلِه
ضرباً يُزيل الهامَ عن مقيلِه *** ويُذهل الخليلَ عن خليلِه
فقال عمر : وفي حرم الله وبين يدَي رسول الله تقولُ الشعر ، فقال النبي r : " خلِّ عنه يا عمر
فو الذي نفسي بيده لهو أشدُّ عليهم من نضْح النبل" . أخرجه النسائي في كتاب الحج ( 2873) والترمذي في الأدب برقم (2847) وهو في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين لشيخنا الوادعي (1/81) .
* بل يقول النبيr :( جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم ) أخرجه النسائي برقم (3096) وأبو داود برقم (3501) إلا أنه قال (وأنفسكم ) بدلاً من قوله ( وأيديكم ) كلا هما من حديث أنس كما في صحيح الجامع برقم (3090)
* وفي صحيح مسلم برقم (670) من طريق سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة أكنتَ تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمسُ فإذا طلعت الشمسُ قام , وكانوا يتحدَّثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسَّم .
* وفي الدر المنثور (1 / 528) للسيوطي قال:
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي العالية قال : كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم يرتجز بالإبل ويقول :
وهـنَّ يمشـيْنَ بِنـا هميسـا *** إنْ تصْـدُقِ الطير نَنِك لميسـا
فقلت : أترفث وأنت محرِم ؟ قال : إنما الرفثُ ما روجع به النساءُ .
* وفي كتاب "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" لابن رشيق القيرواني (1/4) قال :
- وسئل ابن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان وقد قال قوم :إنها تنقض الوضوء فقال:
نبِّئتُ أن فتاةً كنتُ أخطبُها *** عرقوبها مثلُ شهر الصَّوم في الطول
ثم قام فأمَّ الناسَ ، وقيل بل أنشد:
لقد أصبحت عُرْسُ الفرزدقِ ناشزاً *** ولو رضيتْ رمْحَ اسْتِه لاستقرَّتِ
قلت :وكلمةُ الفصْل في ذلك قولُ النبيr في حكْم الشعر : (والشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام
وقبيحه كقبيح الكلام) وهو في الصحيحة للألباني برقم (447).
* وفي فتح الباري قال الحافظ [3 / 50 -51 ] معلقاً على حديث أبي هريرة رقم (1155 ) :
قال ابن بطال :إن قوله r (إن أخاً لكم لا يقول الرَّفَث ): فيه أن حسَن الشعر محمودٌ كحسَن الكلام اهـ
* وفي كتاب العمدة أيضاً :
- قال ابن سيرين: الشعر كلام عُقِدَ بالقوافي فما حسُن في الكلام حسُن في الشعر وكذلك ما قبُحَ منه .
- وقيل لسعيد بن المسيب : إن قوماً بالعراق يكرهون الشعر فقال : نسَكوا نُسُكاً أعجمياً.
وكان أبو السائب المخزومي على شرفه وجلالته وفضله في الدين والعلم يقول : أما والله لو كان الشعر محرَّماً لوردْنا الرَّحَبَة كلَّ يوم مراراً ، والرَّحَبةُ : الموضع التي تقام فيه الحدود ، يريد أنه لا يستطيع الصبر عنه فيُحَدُّ في كل يوم مراراً ولا يترُكه اهـ.
قلت : ولا عجَب فقد قال الأول:
سَقَوني وقالوا :لا تُغنِّ ولو سَقَوا *** جبال سُليمى ما سُقيتُ لغنَّتِ

وجاء في البيان والتبيين للجاحظ 2/62 قيل لعبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أتقول الشعر مع النسك والفضل والفقه ؟ فقال لا بد للمصدور أن ينفث .
* وفي كتاب "زَهْر الأَكَم في الأمثال والحِكَم " لليوسي تحت باب (فضل الشعر)1/19 قال :
- وقال بعضهم :كنا عند عمار بصفين وعنده شاعر ينشده فقال : أيقال فيكم الشعرُ وأنتم أصحاب محمد وأصحاب بدر ؟ فقال له عمار :إن شئتَ فأسمع وإن شئت فاذهبْ .إنَّا لما هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا لهم كما قال لكم , فكنا نعلِّمه الإماءَ بالمدينة .
وقال: وكانت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وعمر رضي الله عنهم أجمعين من رواة الشعر بالمحل الذي لا يُدرك ، حتى حُكي عن عائشة أنها قالت :رَويتُ للبيد اثنى عشر ألف بيت خلاف ما رويتُ لغيره .
وكذا غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم .
قلت : وما ذاك إلا أن للشعر والقصائد تأثيراً في تحصيل الغايات والمقاصد : -
* فقد قال النبي r (إن من الشعر حكمة وإن من البيان لسحرا ) أخرجه البخاري كتاب الأدب رقم (6145) من حديث أبيِّ بن كعب .
* وعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال :ردفتُ رسولَ الله r يوماً فقال : هل معك من شعر أميةَ بنِ أبي الصلت قلتُ : نعم , قال هيه ’ فأنشدته بيتاً فقال : هيه , ثم أنشدته بيتاً فقال هيه , حتى أنشدته مائة بيت ) أخرجه مسلم برقم ( 2255) .
قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي :
وطلعةُ الشِّعرِ أقْلى في عيونهم *** وفي صدورهم من طَلعة الأسَدِ .
قلت : فمن تأثير الشعر البالغ ما يكون في الاستجداء وطلب الإعانات عند الحاجة :
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : خير صناعات العرب أبيات يقدِّمها الرجلُ بين يدَي حاجته , يستميل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم . اهـ من البيان والتبيين -للجاحظ (1 / 264)
* فهذا أعرابي يسأل عمر: كما في الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي للمعافي بن زكريا قال :
حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل الخطِّي، قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عُتبة، قال: حدثني أبي، عن المسيب بن شريك بن عبد الوهاب بن عبد الله بن أبي بكرة، عن أبيه، عن أبي بكرة، قال: جاء أعرابي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
يا عمرَ الخير جُزيت الجنَّـهْ *** أُكْسُ بنيَّاتي وأمهنَّـهْ
أقسِـم بالله لتفعلنَّـهْ
فقال له عمر: فإن لم أفعلْ يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفصٍ لأذهبنّـَهْ
قال: فإذا ذهبتَ يكون ماذا ؟ قال:
تكونُ عن حالي لتسألنَّـهْ *** يوم تكونُ الأُعطياتُ منّـَهْ
والواقفُ المسئول بينهنَّـهْ *** إمَّا إلى نارٍ وإمَّـا جنَّـهْ
قال: فبكى عمر حتى اخضلَّت لحيتُه، ثم قال: يا غلام أَعطِه قميصي هذا لذلك اليوم لا
لشعره، أما والله ما أملك غيره.
*وجاء في كتاب العمدة : أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك فإن أنت قضيتها حمدتُ الله تعالى وشكرتُك , وإن لم تَقْضها حمدتُ اللهَ تعالى وعذرتُك, فقال له : خطَّ حاجتَك على الأرض ، فإني أرى الضُّرَّ عليك ، فكتب الأعرابي على الأرض : إني فقير, فقال له علي : يا قنبر ادفعْ إليه حلتي الفلانيةَ فلما أخذها بين يديه قال :
كسوتَني حُـلـةً تبلى محاسنُها *** لأكسونَّك من حُسْن الثنا حُلَلا
إن الثناء ليحيى ذِكْـرَ صاحبه *** كالغيث يحي نداهُ السهلَ والجبَلا
لا تزهدِ الدهرَ في عُرْفٍ بدأتَ به ***فكل عبدٍ سيُجزى بالذي فعَلا
فقال علي : ياقنبر أعطِه خمسين ديناراً , أما الحلة فلمسألتك , وأما الدنانير فلأدبك .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون حاملاً لصاحبه على التنافس وعُلوِّ الهمة ومن ذلك :
* ما في المعجم الكبير للطبراني - (18 / 474) قال:
196 - حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادِ بن عَبْدِ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي، وَكَانَ أَحَدُ بني مُرَّةَ بن عَوْفٍ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ، لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى جَعْفَرٍ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، ثُمَّ عَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ، أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بن رَوَاحَةَ الرَّايَةَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ، وَيَتَرَدَّدُ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ:
أَقْسَـمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلنَّهْ *** لَتَنْزِلنَّهْ طَـائِعَةً أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ
مَالِي أَرَاكِ تَـكْرَهِينَ الْجَنَّهْ *** إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشدُّوُا الرَّنَّهْ
لَطَالَمَـا قَـدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ *** هَلْ أَنْتَ إِلا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن رَوَاحَةَ:
يَا نَفْسُ إِنْ لَمْ تُقْتَلِي تَمُوتِي *** هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ *** إنْ تَفْعَلِي فِعْـلَهُمَا هُدِيتِ
* وجاء في كشف الأستار للهيثمي من أن النابغة الجعديَّ أنشد النبيَّ r أبياتاً منها :
تذكَّرتُ والذكْرى تهيْجُ على الفتى *** ومـن عادة المحـزون أن يتـذكَّرا
فلمَّا كسرْنا النـبْعَ بالنبْعِ لم تكنْ *** على البُعْد فـي عيدانه أن تَكسـَّرا
سقيناهمُ كـأسـاً سقَونا بمثلـه *** ولكننا كنا عـلى المـوت أصـْبرا
ونُنـْكِرُ يـومَ الرَّوع ألوانَ خيلنا *** من الضرْب حتى نحسبُ الشُّقرَ أحمرا
إلى أن قال :
بلغنا السما جوداً ومجداً وسؤدداً *** وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهراً
فقال النبي r( أين المظهر يا أبا ليلى ؟) قال : الجنة فقال : ( فلا فُضَّ فوك) .
* و ذكر صاحب كتاب الأغاني (3 / 172) خبر بشار بن بُرْد مع أبي جعفر المنصور فقال :
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي قال حدثني زُحَر بن حصْن قال :
حج المنصور فاستقبلناه بالرَّضَم الذي بين زبالة والشُّقوق , فلما رحل من الشقوق رحل في وقت الهاجرة , فلم يركب القبة وركب نجيباً فسار بيننا , فجعَلتِ الشمسُ تضحك بين عينيه فقال : إني قائلٌ بيتاً فمن أجازه وهبتُ له جبتي هذه , فقلنا يقول أمير المؤمنين , فقال :
( وهاجرةٍ نَصبْتُ لها جَبِينِي ... يُقطِّعُ ظهرُها ظَهْرَ العظايهْ )
فبدَرَ بشارُ الأعمى فقال :
( وقَفتُ بها القُلوصَ ففاضَ دمعي ... على خدِّي وأَقْصَرَ واعِِظايَهْ )
فنزع الجبة وهو راكب فدفعها إليه , فقلت لبشار بعد ذلك ما فعلْتَ بالجبة ؟ فقال بشار : بعتُها والله بأربعمائة دينار .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في حلِّ القضايا وزوال المعضلات :
* ففي مجالس ثعلب (1 / 78) وجمهرة الأمثال للعسكري (1 / 152) قال:
أخبرنا أبو أحمد عن الجوهري عن أبي زيد عن ابن عائشة قال سمعت بعض أصحابنا يذكر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما تشاغل بأهل الردة واستبطأته الأنصار, فقال : كلَّفتموني أخلاق رسول الله,فوالله ما ذلك عندي ولا عند أحد , ولكني والله ما أوتي من مودة لكم ولا حسْن رأي فيكم,وكيف لا نحبكم ؟ فوالله ما وجدتُ لنا ولكم مثَلاً إلا ما قال الطفيل الغنوي لبني جعفر :
جزى الله عنا جعفراً حيث أشْرفتْ *** بنا نعلُنا في الشارفين فزلَّتِ
همُ خلطونا بالنفوس وألجـأوا *** إلى غرُفات أدفأَتْ وأظلَّت
أَبَـوا أن يملوُّنا ولو أن أمَّنـا *** تُلاقي الذي يلقَون منا لملَّتِ
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في حصول المذمَّة والملامة :
فقد روى أهل التفسير قصة في ذلك :
* قال ابن كثير / دار الفكر - (3 / 430) ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات, والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة, أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمانَ بنَ عدي بنِ نضلةَ على ميسانَ من أرض البصرة , وكان يقول الشعر, فقال:
ألا هـل أتـى الحسناءَ أن خليلها ... بميسان يُسقى في زجاجٍ وحـنتمِ
إذا شـئتُ غنَّتْـني دهاقينُ قـريةٍ ... ورقَّاصةٌ تجذو على كل مـنسمِ
فإن كنتَ نـدماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسْقني بالأصغـر المـتثلِّمِ
لـعلَّ أميرَ المؤمـنين يسـوؤه ... تنـادمُنا بالجـوسق المتَـهدِّمِ
فلما بلغ ذلك أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك , ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ..., فلما قدِم على عمرَ بكَّتَهُ بهذا الشعر, فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتُها قط, وما ذاك الشعر إلا شيءٌ طفح على لساني , فقال عمر: أظنُّ ذلك, ولكن والله لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلتَ ما قلتَ, فلم يذكر أنه حدَّه على الشَّرَاب, وقد ضمنه شعره, لأنهم يقولون ما لا يفعلون , ولكنه ذمَّه عمرُ رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون فيالاستعطاف والاسترحام :
* فقد جاء في البداية والنهاية أن الحطيئة كان هجَّاءً وكان فيمن هجاهم الزبرقانَ بن بدر فشكاه إلى عمر بن الخطاب فسجنه فأنشد الحطيئة :
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ *** زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجَرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قَعْر مظْلِمةٍ *** فارحم هداك مليكُ الناس يا عمرُ
فرقَّ له عمر وعفا عنه , وأخرجه من السجن واشترى منه أعراض المسلمين .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في حصول الندم بعد الفَوات :
* فقد جاء في "الإصابة" للحافظ ابن حجر, و"العمدة في محاسن الشعر وآدابه" لابن رشيق القيرواني في ترجمة قتيلة بنت النظر بن الحارث : أنه لما قتل النبيr أباها يوم بدر قالت أبياتاً منها :
يا راكباً إن الأثيل مظنةٌ *** من صُبح خامسةٍ وأنت موفَّقُ
أَبلِغ به ميتاً فإن تحيةً *** ما إن تزال بها النجائب تخفِقُ
إلى أن قالت :
أمحمّدٌ ولدتْك خيرُ نجيبةٍ *** في قومها والفحْلُ فحلٌ مُعرِقُ
ما كان ضرَّك لو مننتَ وربما *** منَّ الفتى وهو المَغِيْظ المحْنَقُ
فلمَّا بلغت النبيَّ r بكى حتى اخضلت لحيتُه وقال: ( لو بلغني شعرُها قبل أن أقتله ما قتلته ) .
* وفي كتاب الأصمعيات وكتاب الأمالي لأبي علي القالي ذكَرا : أن الحجاج استدعى شاعراً من اليمامة ليقتله , فلما علم بذلك وقد رأى شجرتين إحداهما من الغَرَب والأخرى من البان قال :
ومما شاقَني فازددتُ شوقـاً *** بكاءُ حمـامتين تجـاوَباني
تجـاوبتا بصوتٍ أعجمـيٍّ *** على غصنَين من غَرَب وبانِ
فكان البانُ أنْ بانتْ سُليمى *** وفي الغَرَب اغترابٌ غير دانِ
وبعد أن قتله الحجاج علم بهذه الأبيات فقال : لو كنتُ أعلمُ ما قتلتُه .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في الإقناع مع قلب الحقيقة :
* فقد أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق " قصة عبد الله بن رواحة مع جاريته , وقد قال عنها ابن عبد البر: إنها ثبتت لنا من طرق صحاح اهـ والقصة أنه كان لعبد الله بن رواحة جاريةٌ يستسرُّها عن أهله فبَصُرتْ به امرأتُه يوماً قد خَلِي بها , فقالت : لقد اخترتَ أمتَك على حُرَّتِك فجاحدَها ذلك , فقالت : إن كنتَ صادقاً فاقرأ آيةً من القرآن فقال:
شهدتُ بأن وعد الله حق ُّ *** وأنَّ النار مثوى الكافرينا
فقالت : زدني آية ؟ فقال :
وأنَّ العرش فوق الماء طافٍ *** وفوق العرش ربُّ العالمينا
وتحملُـه ملائكـةٌ كرامٌ *** ملائكةُ الإله مقرَّبينـا
فقالت :آمنت بالله وكذَّبتُ البصر ، فأتى رسول الله r فحدَّثه فضحِك ولم يغيِّر عليه .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في رفع بعض القبائل ووضْع البعض الآخر :
* ففي كتاب العمدة لابن رشيق (1 / 11) والمحاضرات في اللغة والأدب لليوسي(1 / 16) :
بنو أنف الناقة : كانوا يفْرَقُون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم يُسأل: ممن هو ؟ فيقول : من بني قُريع، فيتجاوز جعفراً أنفَ الناقة بن قريع بن عوف بن مالك , ويلغي ذكْره فراراً من هذا اللقب، إلى أن نقل الحطيئة واسمه جرول بن أوس جدهم وهو بغيض بن عامر بن لؤي بن شماس بن جعفر أنف الناقة من ضيافة الزبرقان بن بدر إلى ضيافته وأحسن إليه فقال:
سِيري أمامُ فإن الأكثرين حصاً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أباً
قوم هم الأنف، والأذناب غيرُهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنَباً؟
فصاروا يتطاولون بهذا النسب , ويمدُّون به أصواتهم في جَهارة.
وإنما سمي جعفر أنفَ الناقة لأن أباه قسَّم ناقة جزوراً ونسيه، فبعثتْه أمُّه ولم يبق إلا رأس الناقة، فقال له أبوه: شأنك بهذا، فأدخل أصابعه في أنف الناقة وأقبل يجره، فسمِّي بذلك.
* وفي العمدة في محاسن الشعر وآدابه (1 / 11) والمحاضرات في اللغة والأدب (1 / 16) :
بنو نُمير: كانوا من جمَرات العرب , المستغنين بقوتهم وعددهم عن طلب حِلْف، وكانوا يفتخرون بهذا الاسم ويمدُّون به أصواتهم إذا سئلوا ، إلى أن هجا جريرٌ عبيدَ بنَ حصين الراعي منهم بقصيدته التي يقول فيها مخاطباً له :
فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا
ولو وُضِعتْ شيوخُ بني نمير ... على الميزان ما عدلَتْ ذُبابا
فسقطوا ولم يرفعوا بعد ذلك رأساً ، حتى كانوا لا يتسمَّون بهذا الاسم، فإذا قيل للواحد منهم من أنت ؟ قال: عامريّ.
ومن أظرف ما وقع في ذلك أن امرأةً مرَّت بقوم منهم , فجعلوا ينظرون إليها ويتواصفونها، فالتفتتْ إليهم وقالتْ: قبَّحكم اللهُ بني نمير، ما امتثلْتم أمرَ الله إذ يقول: )قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا منْ أبْصَارِهِمْ ( ولا قولَ جرير إذ يقول: فغضَّ الطرف إنك من نمير .
وفي هذا يقول آخر يهجو قوماً معرِّضاً ببني نمير كما في البيان والتبيين 4/22:
وسوف يزيدُكم ضَعَةً هجائي *** كما وضع الهجاءُ بني نمير
قال الجاحظ في البيان والتبيين ( 4/23) : وهل أهْلَك عَنَزة وجَرماً وعُكلاً وسَلولَ وباهلةَ وغنياً إلا الهجاء ؟!
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في حصول الغنى وجلْب البركات :
* ففي العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق القيرواني (1 / 11) والمحاضرات في اللغة و الأدب لليوسي (1 / 16) والأغاني - (9 / 133) قال صاحب الأغاني :
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي مما أجازه له عن العتبي عن رجل من قيس عيلان قال:
كان الأعشى يوافي سوقَ عكاظ في كل سنة , وكان المحلَّق الكلابي مِِئناثا مُمْلقاً , فقالت له امرأتُه :
يا أبا كلاب ما يمنعك من التعرُّض لهذا الشاعر؟ فما رأيتُ أحداً اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبَه خيرا ,
قال ويحكِ ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل , قالتِ اللهُ يخلفها عليك , قال فهل له بُدٌ من الشراب والمسوح ؟ قالت إن عندي ذخيرةً لي ولعلي أن أجمعها , قال فتلقَّاه قبل أن يسبِق إليه أحدٌ , وابنه يقوده فأخذ الخطام , فقال الأعشى : من هذا الذي غلبنا على خطامنا ؟ قال المحلَّق, قال شريف كريم ثم سلَّمه إليه , فأناخه فنحرَ له ناقتَه وكشَطَ له عن سنامها وكبدها ثم سقاه , وأحاطت بناتُه به يغمِزنه ويمسحْنه , فقال ما هذه الجواري حولي ؟ قال بناتُ أخيك وهنَّ ثمان شريدتُهن قليلة , قال : وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئاً , فلما وافى سوقَ عكاظ إذا هو بسَرْحةٍ قد اجتمع الناسُ عليها وإذا الأعشى ينشدهم :
لعمري لقد لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضَوء نار باليَفَاع تَحَرَّقُ
تُشَبُّ لمقرورَيْن يصطليانها ... وبات على النار النَّدَى والمُحَلَّقُ
فسلم عليه المحلَّق فقال له : مرحبا يا سيدي بسيد قومه , ونادى يا معاشر العرَب هل فيكم مِِذكار يزوِّج ابنَه إلى الشريف الكريم , قالفما قام من مقْعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوَّجها .
قلت : و من تأثيره البالغ ما يكون سبباً في تثبيت القلوب والأقدام في المعارك :
* ففي كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني والتذكرة الحمدونية لابن حمدون : قال معاوية : اجعلوا الشِّعر أكبرَ همِّكم وأكثرَ دأْبكم ، فلقد رأيتُني ليلةَ الهرير بصفين وقد أُتيت بفرس أغرَّ محجَّلٍ بعيدِ البطن من الأرض، وأنا أُريد الهربَ لشدة البلوى فما حملني على الإقامة إلا أبياتُ عمرو بن الإطنابة:
أبتْ لي عفتي وأبى بلائي ** وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ
وإقدامي على المكروه نفسي ** وضرْبي هامةَ البطل المشيح
وقولي كلَّما جشَأَتْ وجاشَتْ ** مكانك تُحمدي أو تستريح
لأدفعَ عن مآثرَ صالحاتٍ ** وأحمي بَعْدُ عن عرْضٍ صحيحِ
قلت : و من تأثيره البالغ مايدلُّ على عُمْق الأثَر النفسي على الآباء من جرَّاء عقوق الأبناء:
* فقد جاء في المعجم الأوسط - (6 / 339) والمعجم الصغير للطبراني - (2 / 152) قال :
947- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَرْذَعِيُّ ، بِمِصْرَ ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ بِمَعْرَةِ النُّعْمَانِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ ، عَنِ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ :
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبِيكَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ ، وَيَقُولُ : إِذَا جَاءَكَ الشَّيْخُ ، فَسَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَا بَالُ ابْنِكَ يَشْكُوكَ ، أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ ؟ فَقَالَ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ أَنْفَقْتُهُ إِلَّاعَلَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِيهِ ، دَعْنَا مِنْ هَذَا أَخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ قُلْتَهُ فِي نَفْسِكَ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاكَ
فَقَالَ الشَّيْخُ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا يَزَالُ اللهُ يَزِيدُنَا بِكَ يَقِينًا ، لَقَدْ قُلْتُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، فَقَالَ : قُلْ : وَأَنَا أَسْمَعُ ، قَالَ : قُلْتُ :
غَذَوْتُكَ مَوْلُـودًا وَمُنْتُـكَ يَافِعًا ** تُعَلُّ بِمَـا أَجْنِـي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْـكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ ** لِسُّقْمِـكَ إِلَّا سـَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمْطَرُوقُ دُونَـكَ بِالَّذِي ** طُرِقْتَ بِـهِ دُونِي فَـعَيْنَايَ تَهْمُلُ
َتخَافُ الرَّدَى نَفْسـِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا ** لَتَعْلَـمُ أَنَّ الْـمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّـنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِـي ** إِلَيْهَا مَـدَى مَا فِـيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِـلْظَةً وَفَظـَاظَةً ** كَـأَنَّكَ أَنْتَ الْـمُنْعِمُ الْمُتَفـَضِّلُ
فَلَيْتَـكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَـقَّ أُبُوَّتِي ** فَعَلْـتَ كَمَا الْـجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
تَرَاهُ مُـعَدًّا لِلْخـِلافِ كَأَنَّه ُ** بِرَدٍّ عَـلَى أَهْلِ الـصَّوَابِ مُوَكَّلُ
قَالَ : فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلابِيبِ ابْنِهِ ، وَقَالَ : أَنْتَ وَمَالُكُ لأَبِيكَ.
* وفي ديوان الحماسة (2 / 182) وتفسير البحر المحيط (8 / 275): قال فَرْعان بن الأعْرَف في ابنه منازل ، وكان عاقاً له ، قصيدةً فيها بعضُ طولٍ منها :
جَزَتْ رَحِمٌ بَيْنِي وبَينَ مُنَازِلٍ ... جَزَاءاً كَما يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طَالِبُهْ
لَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا آضَ شَيْظَماً ... يَكادُ يُسَاوِي غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
فلَمَّا رَآنِي أُبْصِرُ الشَّخْصَ أشخُصاً ... قَرِيباً وَذا الشَّخْصِ البَعِيدِ أُقارِبُهْ
تَغَمَّدَ حَقِّي ظَالِماً وَلَوَى يَدِي ... لوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غالِبُهْ
وَكانَ لهُ عِنْدِي إذا جَاعَ أوْ بَكَى ... مِنَ الزَّادِ أحْلى زَادِنَا وَأطَايِبُهْ
ورَبَّيْتُـهُ حتَّى إذا ما تَـرَكْتُهُ ... أخا الْقَوْمِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شارِبُهْ
وَجَمَّعْتُها دُهْماً جِلاَداً كأنَّهَا ... أشاءُ نَخِيلٍ لَمْ تُقَطَّعْ جَوَانِبُهْ
فأخْرَجَني مِنْهـا سَلِيباً كأنَّني ... حُسامُ يمانٍ فارَقَتْهُ مَضارِبُهْ
قلت : و من تأثيره البالغ أن َيتمنى مَن لا يقْرِضُ الشِّعْر أن يقْرضَه :
* ففي الكامل في التاريخ - للمبرد (1 / 372) و الشعر والشعراء – لابن قتيبة (1 / 67) ذكرا :
أن متمم بن نُويرة قدم على أبي بكر يطلب بدم أخيه ، ويسأله أن يردَّ عليهم سبْيهم، فأمر أبو بكر بردِّ السْبي وودَى مالكاً من بيت المال.
ولما قدم على عمر قال له: ما بلغ بك الوجْد على أخيك؟ قال: بكيته حولاً حتى أسعدَتْ عيني الذاهبة عيني الصحيحة، وما رأيت ناراً قط إلا كدتُ أنقطع أسَفاً عليه , لأنه كان يوقِدُ ناره إلى الصبح مخافةَ أن يأتيه ضيفٌ ولا يعرف مكانه....
قال: أنشدني بعض ما قلت فيه. فأنشده مرثيته التي يقول فيها:
وكنا كنَدمانَي جذيمةَ حقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصدَّعا
وعشْنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهطَ كسْرى وتُبَّعا
فلما تفرَّقْنا كأنِّي ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا
فقال عمر: لو كنتُ أقول الشِّعرَ لرثيت أخي زيداً , فقال متمِّم: ولا سواء يا أمير المؤمنين ، لو كان أخي صُرع مصْرَع أخيك لما بكيتُه. فقال عمر: ما عزَّاني أحدٌ بأحسن مما عزَّيتني به.
قلت :وما ذاك إلا أن للمراثي وقْعاًعلى النفس له بالغ الأثر, فقد ذكر الجاحظ في البيان والتبيين عن الباهلي أنه قال : قيل لأعرابي ما بال المراثي أجودَ أشعاركم؟ قال: لأنَّا نقول وأكبادُنا تحترِق" .
قلت : أرأيتَ - أخي القارئ الكريم - من خلال هذه النصوص والآثار والقصص كيف أن للشعر تأثيراً على الأسماع والأفئدة والطباع , فيا تُرى ما هو السبب في ذلك ؟ سؤال يجيب عنه قائلوا الشعر وقارضوه , فهذا طرفةُ بن العبد يقول :
رأيتُ القوافي يتَّلجْنَ موالجاً *** تَضيَّق عنها أن تُوَلَّجَها الإبَرْ
وهذا الأخطل يقول :

حتى أقروا وهم منِّي على مضَضٍ ***والقولُ ينفُذُ ما لا ينفُذُ الإبَرُ .

وهذا النابغة الذبياني يقول :
قوافي كالسِِّلام إذا استمرَّتْ *** فليس يردُّ مذهبَها التظنِّي
قلت: فقد تبيَّن أن السبب الحقيقي في تأثير الشعر إنما يكمن في قوة نفوذه في جميع المستويات والأصْعِدة , إذ أنه يخاطَب به الفردُ والقبيلة , والرجلُ والمرأة ،والعالم والجاهل , والكبير والصغير ، والقوي والضعيف ،والغني والفقير ،والكريم والبخيل ،والقريب والبعيد .
وبالتالي فإن له تأثيراً في القِيَم والمبادئ ، وفي الأُمم والحضارات ، وفي الأفكار والتوجُّهات، فإن كان كذلك فلا عجَب أن يكون له تأثير أيضاً في الأخلاق والسلوكيات ، وشحْذِ الهمم والمدارك والتطلُّعات ، ومن هنا تظهر أهميتُه في صقْل المواهب وتنمية القدُرات .
وقد فطِن السلفُ لهذه الأهمية فأَوْلَوْها الرعاية والتشجيع :
فهذا عمر بن الخطاب في كتاب العمدة يكتب لأبي موسى الأشعري : مُرْ من قِبَلَك بتعلُّم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق ، وصواب الرأي ، ومعرفة الأنساب .
وهذا معاوية بن أبي سفيان يقول : يجب على الرجل تأديبُ ولده , والشعر أعلى مراتب الأدب .
وهذا الزبير بن بكار يقول :سمعت العمريَّ يقول : رووا أولادكم الشعر , فإنه يحل عقدة اللسان ،
ويشجِّع قلبَ الجبان ، ويُطلق يدَ البخيل ، ويحضُّ على الخلق الجميل .
قلت: فإذا علمتَ هذا – أخي القارئ – علمتَ شيئاً عن أهمية الشعر ، وبيان حكمه وفضله, وتعدُّد فنونه وأغراضه ، وقوة أثَره وتأثيره في الآخرين ، وحينها ستحرص على تعلُّمه وقراءته وحفظه ، وبذلك تقوى ملَكتُك ، ويصلَبُ عودُك ، وتترقَّى في الفصاحة والبيان ، متشبِّهاً بأئمة وروَّاد هذا الشان ، حتى يُصبح لك مثلاً أعلى قولُ حسان :
لساني صارمٌ لا عيبَ فيه *** وبحْري لا تكدِّره الدِّلاءُ .

كتبه أبو رواحة الشاعر
عبد الله بن عيسى بن أبكر الموري
حي الفيصلية بجدة
في مساء الخميس الموافق 15/3/1430ه


[1] ما سلف من هذه المقدمة كان ممزوجاً بشئ من كلام القاضي حسن بن تميم في مقدمته لكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة .

http://www.salafi-poetry.com/vb/showthread.php?t=53

   طباعة 
0 صوت
التعليقات : تعليق
« إضافة تعليق »
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
6 + 6 = أدخل الكود
روابط ذات صلة
روابط ذات صلة
المقال السابق
المقالات المتشابهة المقال التالي

RSS

Twitter

Facebook

Youtube

تسجيل الدخول للموقع
البحث في الموقع
البحث في
خدمات الموقع