مرثية العلامة المحدث
مقبل بن هادي الوادعي
رحمه الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد :
فهذه القصيدة تُعَدُّ تعزيةً في فقيد الأمة الإسلامية المجدِّد.. الإمام الحجة.. والعالم القدوة.. , محيي السنة.. وقامع البدعة.., الذي هدى الله به العباد ، وانتفعت به البلاد ، واستفاد من علمه الحاضر والباد.., صاحب المؤلفات الوافرة, والتصانيف المتكاثرة .., المحدث الشهير, والعلامة النحرير... فضيلة الشيخ الألمعي:
مقبل بن هادي الوادعي
رحمه الله رحمةَ الأبرار.. ووسَّع له في قبره وأنار.. ورفع منزلته في دار القرار.. آمين
إسْبالُ المدامع على فقيد الأمةالرابع
أهكذا الموتُ يخفي اليـوم مرآكا * * * * وخلْف أستاره يخفـي محيَّاكا؟!
أهكذا الموتُ يرجي كلَّ ذي نَفَسٍ * * * * وينتقيك فـريداً حين وافاكا؟!
أهكذا الموتُ ينفـي كلَّ رائحـةٍ * * * * أريجها كالشذا تزكو برؤياكا؟!
أهكذا الموتُ يطـوي كلَّ لائحةٍ * * * * تفيض نوراً بما قد خط كفاكا؟!
أهكذا الموتُ يُنسـي كلَّ ذاكرةٍ * * * * كانت لنا سنداً تدعو لذكْراكا؟!
لا، لا يزال رنين الصوت في أذني * * * * يعيه قلبي ، فلا تقْطَـعْ به فاكا
تقول: عندي سؤالٌ من يجيب على * * * * هذا السؤالِ ؟ فكم نحتار في ذاكا
كما تقول: دعوني من أجاب فكم * * * * عندي له درهمٌ يُعطاه مَن جاكا
ولا يـزال خيـالٌ لا يفارقُـني * * * * في كل وقتٍ وإن فارقتُ رؤياكا
فإن سمعتُ لكـم صوتاً بأشرطةٍ * * * * هاجتْ دموعيَ حزنًا عند ذكْراكا
وكم صديقٍ دعاني أن أشيـدَ بكم * * * * شعراً، أُعزِّي به مَن كان يهـواكا
لكن تحطَّم شِعري عنـدما عَجَزَت * * * * أبياتُه، لم تُقِم شكـراً لمسـعاكا
حروفُ شعري يتامى حين تفقدُكم * * * * واستعجم الحرفُ لم ينطِق بفحواكا
أضحتْ غصونُ قريضي اليوم ذاويةً * * * * فموتُك الصيـفُ لم تظفرْ بلُقياكا
وكيف أكتب شعراً عن سماحتكم * * * * وكلُّ شعرٍ فلن يسمـو لعلياكا
أنت ابنُ هادي فكم تهدي هنا أمماً * * * * للشرع، سبحان مَن للشرْع أهداكا
وأنت مقبلُ كم أقبلتَ فـي نَهَمٍ * * * * على التعلُّـم إذ يحـويه جنبـاكا
بالحفظ صرتَ على الأقران مشتهراً * * * * وهـل بخاريُ هـذا العصـر إلَّاكا؟
جعلت وقتَك تحصيـلاً وأسئـلة * * * * وكم تناقش مـن بالعلـم يلقاكا
ولم تكن قاتلاً فـي المـرء مـوهبةً * * * * كلا، وكم شَجّعتْ في السير يُمناكا
ذكاؤكم أدهـشَ الألبابَ قاطـبةً * * * * به تبـوح بهـذا الـدرب عيناكا
تسير فـي موكب الـرحمن داعيةً * * * * لشرْع ربي ، فكم بالشرع أعلاكا
ولستَ تدعو إلى تقليد شخصِكمُ * * * * لكنْ إلـى سنة المعصـوم دعواكا
وكم تقابلُ في ذا الدرب من بِدَعٍ * * * * بِصَارم الحـق ، قد بدَّدت أفّاكا
جَرَحْتَ كلَّ عدوٍ للرسـول ومَن * * * * يرى هداه قـديماً حـين عاداكا
نصحتَ حقاً ولاة الأمر فـي شمَمٍ * * * * فلستَ تخشى سوى الرحمن مولاكا
هي الشـجاعة مضمارٌ مضيتَ به * * * * نصْراً لصاحـب حقٍّ كان يرعاكا
ثباتُ جأشٍ فكـم أطفأتَ من فتن * * * * تغدو هباءً إذا ألقيـتَ فتـواكا
وكان عـدلُك شيئاً لا نظـير له * * * * لأن منبـع ذاك العـدلِ تقواكا
وكنتَ في العطف والإيثار مدرسةً * * * * هتـافُها بلسان الحـزن ناداكا
بل كنتَ في الناس للأخلاق جامعةً * * * * سبحان من بخصال الخير حلَّاكا
زهدتَ عن كل دنيا الناس في ورَعٍ * * * * يا ربّ دنيا لكم داستْها رِجلاكا
وتُظهِر الصدق في قولٍ وفي عملٍ * * * * على حيـاتك إعلاناً بتقـواكا
وكم أتى زائرٌ فاشتاق حـين رأى * * * * تواضعاً منك يبدو فـي محيـاكا
أنت الكريمُ عظيـمُ البذْل نادرةٌ * * * * في الجود، لم تخشَ فقراً كان يغشاكا
(لجـأتَ لله لا للنـاس في ثِقـةٍ ) * * * * وعنـد ربك تفـريجٌ لبلـواكا
وكنتَ للصـبر باباً واسعا فلكم * * * * شيّدت بالصبر صرحاً ليس ينساكا
فكم صبرتَ على الأعداءِ في جَلَدٍ * * * * فحزتَ نصراً على مَن كان عاداكا
وكم صبرتَ على الأمراض محتسِباً * * * * خيرَ الجزاءِ مِـن الرحمن مولاكا
ألم يكن ذلك (الفيروسُ) ينْهشُ في * * * * كَبْدٍ، وكم بعظيم السُّقْم آذاكـا؟
ألم يكـن ذاك الاستسقاء يؤْذِنُ في * * * * هلاكِكم، حِميَةٌ أودتْ بِمَحيَاكا؟
ألم يكن فـي التهاب الصدر ضائقةٌ * * * * من السُّعال، فلم يوقِفْ لمسعاكا؟
ألستَ بالأمس تقضي الليل في سهر * * * * بحثا تنقــح ما قد خط كفاكا؟
ألستَ بالأمس تفـتي كل سـائلةٍ * * * * عن الشريعة إذ تـرضى بفتواكا
ألستَ بالأمس تُلقي الدرسَ مجتهداً * * * * كأنََّ ربي مـن الأسقام عافاكا؟
هنـا وقفنـا وذي الآمالُ مشرِقةٌ * * * * وكـم نـودُّ بأن نحـظى بلقياكا
غادرتَ جدةَ عـبر الجـو متجهاً * * * * لأرض ( ألمانيا) والله يـرعـاكا
وعُدتَ منها إلى أرض الحجاز وقد * * * * أصبحْتَ مُغْمى فلم تظفر بجدواكا
مرَّت ثـلاثةُ أيامٍ وليـس بهـا * * * * عضوٌ تحـرَّك إلا القلـبُ واساكا
وقد تحـرَّكت الأفـواه داعيـةً * * * * من كل صوب بأن يشفيْك مولاكا
وقد تفيق مـن الإغماء مُحتَمِلا * * * * مؤمِّلاً أن تـولِّي عنـك بلـواكا
متمتماً بحـديث التـرمذيِّ كما * * * * روى أبـو عـزَةٍ[1] تُعلـي به فاكا
حتى تشهَّدتَ عند الموت مبتسماً * * * * وفاضت الـروحُ إذ عادت لمولاكا
وجاءنا الخبر المحـزون بعد عشًا * * * * في يوم سبتٍ[2] بأنْ فارقتَ دنياكا
فسال دمعُ محبٍ كان يعـرفكم * * * * أو لم يكن[3] كان للتحديث يهواكا
ولو نظرتَ إلى دماجَ سـاعةَ أن * * * * كانتْ وفاتُك ما صدَّقْتَ مرآكا
فكلُّ فردٍ غـدا يبكـي فـدمعتُه * * * * على رُبا الخدِّ قد سالتْ لذكراكا
مضوا يدوكون كالأيتام كنتَ لهم * * * * أبًا رحيـمًا وذا ربـي تـوفَّاكا
لو كان يُقبلُ منهم أن يُزاد لكم * * * * في العمر ما من فتىً إلا وأعطاكا
لكنْ وصيتُك العظمى تسطِّرها * * * * فيها الثبات بأن نمضـي لمرماكا
فخيًم الحزْنُ فـي دماجَ يعقُبـُه * * * * حـزْنٌ ، إذا ما تـذكَّرنا محيَّاكا
حـتى أتتْنا وصايا أن نكون على * * * * صبرٍ لما مسَّنا مـن عمْق بلواكا
منها وصيةُ من قد قلتَ عنه: أبٌ * * * * لدعوة الله , من بالأمس واساكا
أعـني ربيعًا[4] تـواسينا وصـيته * * * * بأن نسـير على وِفْـقٍ لممشاكا
هنا أنادي بهـذا الدرب كل أخٍ * * * * أنَّا نسـير على ما شـاد كفّاكا
فالشيخ يحي[5] سيحيي ذكركم أبدا * * * * علْماً وهدْياً على ما كان مسعاكا
فأكملِ السيرَ يا يحي فنحن لكم * * * * رِدْءٌ وأيماننـا فـي صف يُمناكا
يا أهلَ دمـاجَ سُلْـواناً وتعزيةً * * * * منَّـا إليكـم إذا ما غمَّنا ذاكا
ناصرتُم شيخَكم في مهْد دعوته * * * * حـتى أزال بنـور الحق إشراكا
فتلك دعوته فـي الناس ماثلةٌ * * * * قامتْ على سُوقها لم تخش أفاكا
فآزِرُوهَا مـتى ما فيكـم نفسٌ * * * * فإنها العـزُّ لا عزٌ سِـوى ذاكا
هذا وإنَّك يا شيخي مضيتَ إلى * * * * مقابر العـدْل فيها صار مثواكا
غُيٍبتَ فـي لَبِنات اللحْد منفرداً * * * * فكيف يهنأ شخصٌ حين واراكا؟
سقى الإله رفاتاً ضمَّها جـدَثٌ * * * * ورحمةُ الله طـولَ المكث تغشاكا
فإن يكن بتراب الأرض منزلكم * * * * فقد ثوى بين ذاك التُرْب شيخاكا[6]
فقرّ عيناً ونمْ نـومَ العـروس به * * * * فسوف نحصـد ما تبذره كفاكا
وإنَّك اليوم يا شيخي مضيتَ إلى * * * * ربٍ رحيـمٍ وعنـد الله عُقباكا
فاللهَ أسأل أن تبـدو صحيفتكم * * * * يـوم القيامة نـورا بيـن يمناكا
والله أسأل أن تُجـزى بجنـته * * * * وأن يكون بـدار الخلد مأواكا
ثم الصلاةُ على المختار من مضرٍ * * * * ما غيَّبَتْ سُحبُ الأحزان أفلاكا
كان الفراغ منها قبيل غروب شمس يوم
الأربعاء الموافق للخامس من جمادى الأولى عام (1422هـ
اليمن – صعدة – دار الحديث بدماج حرسها الله تعالى
بقلم الشاعر
أبي رواحةعبد الله بن عيسى الموري
الحواشي
[1] إشارة إلى حديث أبي عزة يسار بن عبد مرفوعاً : إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة , أخرجه الترمذي وهو في ’’الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين‘‘ لشيخنا مقبل بن هادي الوادعي وكان كثيراً ما يسأل عنه ويكرره حتى أنفاسِه الأخيرة رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
[2] وقد كانت وفاته رحمه الله ليلة الأحد في الساعة الثامنة إلا بضع دقائق مساءً في اليوم الأول من جمادى الأولى لعام (1422هـ) ،
[3]أي : أو لم يكن له معرفة بالشيخ رحمه الله 0
[4]وهو الشيخ العلامة أبو محمد ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله الذي يعتبر من أعرف المشايخ بما تواجهه الدعوة السلفية
من أخطار ، وما يحاك لها من مخططات على مستوى العالم الإسلامي ، ولمَّا كان على اطلاع بها كان من أكثر المشايخ مواساة
لنا في فقْد شيخنا العلامة الوادعي رحمه الله .
[5]وهو الشيخ الفاضل ، ذو القلم المسدد ، والمنهج السلفي يحيى بن علي الحجوري صاحب الؤلفات الجامعة والتحقيقات النافعة منها كتاب ’’ضياء السالكين في أحكام وآداب المسافرين‘‘ وكتاب ’’اللمع في تحقيق إصلاح المجتمع ‘‘ للبيحاني و ’’الصبح الشارق على ضلالات عبدالمجيد الزنداني في كتابه توحيد الخالق‘‘ الذي قال عنه الشاعر أيوب علي الفقيهي هداه الله :
لما رأيتَ الشر زاد تفاقـماً **** من سفر توحيـد الإله الخالق
ورأيتَ ظلمَته تجوسُ حثيثةً **** بدَّدتَ ظلمتَه بـ’’صبح شارق‘‘
قلت : ولا غرو فإن مثل ذلك يدل على غزارة علم الشيخ يحيى الحجوري حفظه الله وصفاء طريقته ، وقد كان ينوب شيخنا الوادعي رحمه الله تعالى في حال حياته , بل وأوصى أن يخلفه على معهده بعد مماته رحمه الله وفق الله الشيخ يحيى لمواصلة ذلك الطريق والقيام بأعبائه 0
[6]إشارة إلى أنه قد دُفن في مقابر العدل بمكة المكرمة كل من سماحة العلامة عبدالعزيز بن باز والعلامة عبدالله بن حميد وكانا من مشايخ شيخنا العلامة مقبل الوادعي وقد أوصى أن يدفن هناك بجوار العلماء الأفاضل رحم الله الجميع وأسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة 0
|